خبر المسألة أكبر .. إنها ولادة الكيان العميل ..أسعد غانم

الساعة 08:18 ص|25 يناير 2011

المسألة أكبر .. إنها ولادة الكيان العميل ..أسعد غانم

الوثائق التي نشرتها الجزيرة أكدت لمن كان بحاجة لتأكيدات، أن السلطة الوطنية هي جهة غير مؤتمنة على مصالح الشعب الفلسطيني ولا على المطالبة بإحقاق مطالبه الشرعية.

 

أضاف "كشف المستور" بعدًا موثقًا بالأسود وبالأبيض، بالصورة وبالصوت، يفيد بأن من يتفاوضون على مستقبل الشعب الفلسطيني هم أشخاص تنقصهم الدراية والإدراك بواقع الحال في إسرائيل كما أنهم يعدمون خطوطًا حُمْرًا تردعهم عن التلاعب بمصالح الشعب الفلسطيني، هكذا بالضبط ينتقل من يدعون تمثيل الشعوب إلى الطرف الآخر ويتحولون لأدوات بيد قوى خارجية كي يسيرون مصالحها، وآمالها وتطلعاتها.

 

ما نشر ليس جوهر الحكاية، فالمصيبة أكبر بكثير من مسائل جغرافية حدودية أو حتى اللاجئين والقدس، إنها مسألة قيام مجموعة غير شرعية بالانقضاض على الشعب الفلسطيني عنوة بمساندة إسرائيلية وعربية وأميركية، وبعد ذلك تبنٍّ متزايد للمواقف الإسرائيلية.

 

 باختصار إننا نشهد  ولادة "الكيان العميل"، تستطيعون إطلاق تسمية البانتوستان، أو "حكومة فيشي"، أو "حكم كرزاي"، وهو بالطبع كذلك، إلا أنه نسخة فلسطينية خاصة ينبغي تسميتها: "الكيان العميل".

 

من أين تبدأ القصة؟ إنها مسألة تتعلق بمحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بغير الالتفات للتفاصيل، بدأت في أوسلو وانتقلت بسرعة لـ"سلطة فلسطينية" تعمل كشرطي لدى إسرائيل، تعتقل وتنكل بالفلسطينيين، ويقوم رموزها بنهب ثروات ومدخراتهم، الكل موثق ومعروف.

 

غير أن هذه السلطة التي حاولت الحفاظ على جزء من "ماء الوجه" أمام الشعب الفلسطيني، تنازلت عن ذلك سريعًا بعد صعود محمود عباس إلى السلطة، وتطلعه لإنجاز فلسطيني بأي ثمن ومن خلال التعلق بأوهام السلام الإسرائيلي مبررا ذلك بـ"إطلاع الأشقاء العرب" قاصدا القادة العرب المتعلقين بدعم أميركي وإسرائيلي، مباشر وغير مباشر ممن قبلوا أن يكونوا وكلاء لقوى خارجية، وجلهم تُحمَى عروشهم، بدعم السي آي أي والموساد، بالضبط مثل نظام محمود عباس نفسه.

 

هذه المجموعة التي تفاوض باسم الفلسطينيين هي بالتأكيد لا تملك أي أساس شرعي لذلك. لقد تم شلّ المؤسسات التمثيلية الوطنية منذ زمن طويل، فالمجلس الوطني الفلسطيني اجتمع آخر مرة، في جلسة شرعية، عام 1988 في الجزائر، عند إعلان قيام دولة فلسطين، ومنذ ذلك الوقت تدعي القيادة الفلسطينية تمثيلها للفلسطينيين، من غير مرجعية ديمقراطية تمثيلية للفلسطينيين باعتبارهم شعبًا واحدًا.

 

تفاقم هذا الوضع ببلوغ الحركة الوطنية الفلسطينية مرحلة الصدام المدمّر والانهيار الداخلي. فبروز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بديلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في التسعينيات، وتبنّيها برنامجًا يستند إلى معايير اجتماعية وسياسية وطموحات تختلف اختلافًا جذريًّا عن معايير الثانية وطموحاتها أدى إلى تفاقم الصراع بين مؤيدي المنظمة وتيارها الرئيسي فتح، ومؤيدي حماس. وأدى ذلك بدوره إلى شلّ النظام السياسي الفلسطيني وإحداث استقطاب داخلي فكك الحركة الوطنية من الداخل.

 

فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، من يستمر في مفاوضات مباشرة منذ أوسلو لم يحقق أيًّا من الأهداف التي حدّدها هو نفسه، وتحديدًا تحرير الوطن ورفض الصهيونية واعتبارها حركة استعمارية، وعودة اللاجئين، وإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وتحقيق سلام مستقرّ.

 

الوثائق المنشورة، وما هو معروف قبل ذلك، تدل على أن هناك تنازلا إستراتيجيا من قبل قيادة السلطة عن جوانب عدة من المطالب الفلسطينية الوطنية الأساسية، وعلى رأسها حق العودة، وزوال الاستيطان في الضفة، بل الاستعاضة عن ذلك بتبديله بأراض من داخل الخط الأخضر. وكذلك تبرير الاعتداء الإسرائيلي الهمجي على غزة وتأجيل النظر أمام الهيئات الدولية في تقرير غولدستون، وفي التعاون الفعلي اليومي مع قوى أمن الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية، وإتاحة الفرصة أمامها لاعتقال المقاومين وحتى الناشطين الأجانب المتماثلين مع الاحتجاجات الفلسطينية ضد بناء جدار الفصل العنصري، والذين يسكنون مدن الضفة الغربية وعلى رأسها رام الله.

 

أخيرا، فإن هناك تحويلا لمسألة إقامة الدولة إلى مشروع إسرائيلي لا يمكن إنجازه إلا من خلال التعاون مع إسرائيل، وتغييرا لإستراتيجية النضال الوطني من الموديل الجزائري المجابه للاحتلال إلى الموديل الأردني المتعاون مع الاحتلال. هذا المشروع السياسي للسلطة الوطنية التي تفاوض باسم الشعب الفلسطيني، وتقوم بذلك رغم أنها فشلت في الانتخابات الأخيرة، وقامت بانقلاب على الشرعية المنتخبة بدعم إسرائيلي فعال، ومن خلال تنسيق تام مع قوى أمن إسرائيلية وأميركية. وهذا يعني أن الفلسطينيين أنفسهم لم يمنحوا لهؤلاء أية شرعية للحديث باسمهم.

 

هذا بالضبط ما أطلق عليه "تحييد السياسة"، بمعنى أن الشارع الفلسطيني الذي ساهم في كل أماكن وجوده بشكل فعال بعد النكبة في إحياء الحركة الوطنية المنكوبة، وجرى ذلك في مخيمات اللاجئين وفي قرى ومدن فلسطينية صمدت خلال النكبة وأصبحت جزءا من إسرائيل، كما في غزة تحت الحكم المصري والضفة الغربية تحت الحكم الأردني، بعد ذلك جرى تحييد السياسة نهائيًّا وأصبح الرأي العام الفلسطيني غير ذي شأن، واتخذ القرار السياسي في غرف مغلقة بعيدة عن نبض الشارع، بدأ ذلك طبعًا في زمن تولي ياسر عرفات رئاسة السلطة.

 

ما أقصده هنا هو أن النظام السياسي الفلسطيني تحت قيادة عرفات عمل تحت ظل تغييب رأي الفلسطينيين بفضل تمركز السلطة في شخصه هو، مع توزيع قليل للصلاحيات على بعض مساعديه. كان عرفات بمفرده يتخذ كل القرارات، الخارجية والداخلية، وكان وفقًا لشهادة المقرّبين منه يستثمر العديد من الساعات في "كيفية" مركزة صناعة القرار بأكملها، حتى في المسائل التافهة. وحسب شهادة الكثيرين من القيادات، فإن شكل اتخاذ القرار المؤيد لأوسلو، اتخذ بشكل مراوغ، أبعد المعارضين وشمل المؤيدين سلفًا لما أراده عرفات، سواء كان ذلك على مستوى المصلحة الوطنية العامة أو حتى حفاظًا على مراكز ومصالح شخصية.

 

وازدادت الأمور سوءا في مرحلة ما بعد عرفات، فأبو مازن، وهو أحد مؤسسي فتح، يعتبر أقل شرعيةً وتمثيلاً من عرفات ولا يتمتّع بالمكانة التي كان يشغلها الأخير في أوساط الفلسطينيين. وينظر إليه أيضا على أنّه يسعى إلى حل مشكلة الاحتلال على حساب العناصر الأخرى للمشكلة الفلسطينية. واليوم تنهمك منظمة التحرير الفلسطينية بشكل حصري تقريبًا في المفاوضات لإنهاء الاحتلال، واختزلت مشكلة اللاجئين، والفلسطينيين في إسرائيل، وحتى محنة الفلسطينيين في الشتات (مثل المصاعب التي يواجهونها في العراق بعد الغزو الأميركي) وتحولت إلى قضايا هامشية لا تحل إلا بعد نشوء الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

 

بعبارة أخرى، فإنّ جدول أعمال القيادة الفلسطينية يستبعد معظم الشعب الفلسطيني. وتفاقم هذا الوضع بعد نهاية الفترة التي انتخب محمود عباس ليكون رئيسًا للسلطة فيها، وأصبح رئيسًا غير شرعي ومعينًا بتنصيب شخصي وبدعم المجموعة المتنفذة في رام الله وكل ذلك يستند لموقف أميركي وإسرائيلي وعربي متعاون.

 

كل ذلك يتم على خلفية تبني مشروع تسوية غير قابل للتنفيذ ويتناسق مع السياسات الإسرائيلية في المماطلة اللفظية مقابل التهويد الفعلي. وتراجع الخطاب الوطني للفلسطينيين مقابل استمرار إسرائيل في نهجها: الترحيل، السيطرة، قمع العمل السياسي الفلسطيني، اعتقال وتصفية القيادات والناشطين الاستيلاء على الحيز وتهويده، رفض الرواية الفلسطينية للتاريخ ومحاولة تزويره.

في المقابل، تراجعت القيادة الفلسطينية وجزء كبير من النخب عن أسس الصراع والتصالح، قبلت رواية الـ67  وإصلاح نتائجها أساسًا للتسوية وليس ضرورة ترميم ما نشأ نتيجة النكبة الفلسطينية عام 1948، بحيث قبلت السلطة الوطنية بعدم عودة اللاجئين  لوطنهم، وقبلت الرواية الصهيونية عن أرض الميعاد وحق اليهود التاريخي، وقبلت تقسيم الشعب الفلسطيني إلى مجموعات مختلفة في برنامجها ورؤيتها لنفسها.

 

هذا علاوة على إسقاط عوامل القوة من أيدي الفلسطينيين واستعداد جزء جدي من قياداتهم للانخراط في "سلام إسرائيلي" وبناء بانتوستان فلسطيني، مما يعني أن القيادة الفلسطينية فاقدة للمناعة الوطنية ولا يمكن التكهن بحدود التنازلات التي من الممكن أن تقبلها.

 

إن أهم ما يمكن فعله، والبدء في التحضير له فورًا، هو شن حملة شعبية تشمل كل الفلسطينيين وتقوم بتجنيدهم لإجبار من يدعون تمثيلهم على التوقف عن ذلك والالتزام بقواعد أساسية لنظم المستقبل الفلسطيني، وأهمها:

 

أولاً: إعلان إلغاء اتفاق أوسلو وتوقف السلطة عن التعاون مع إسرائيل ضد الفلسطينيين والعمل سياسيًّا على أساس أننا في مرحلة تحرر وطني وليس بناء دولة طبيعية.

 

ثانيا: الإصرار على وحدة الشعب الفلسطيني وقضيتهم التي انبثقت عن نتائج النكبة عام 1948 والإصرار على عدم قبول الحلول الجزئية استنادا لمفاصل تاريخية لاحقة أو على أماكن الوجود المنفصلة، وكذلك رفض أي حل يتعامل مع مصالح مجموعة واحدة من الشعب الفلسطيني ويضر بمصالح أية مجموعة فلسطينية أخرى.

 

ثالثا: الإصرار على ضرورة ترتيب مسألة القيادة الشرعية المنتخبة ديمقراطيا من جميع الفلسطينيين وعلى كون مثل هذه القيادة هي وحدها المخوّلة رسم المستقبل الفلسطيني، والتزام هذه القيادة بإشراك الفلسطينيين جميعا في تحديد مستقبلهم والتوقف نهائيا عن نهج بناء الكيان العميل.