خبر خطأ تاريخي وخطيئة جغرافية ..خيري منصور

الساعة 11:07 ص|26 ديسمبر 2010

خطأ تاريخي وخطيئة جغرافية ..خيري منصور

إذا صح أن هناك أعذاراً أقبح من الذنوب فإن ذرائع الصهيونية لشن حروب تحت شعار استباقي هي الفصل الأقبح في مسلسل تلك الحروب.

 

الآن، يتنافس الجنرالات على وصف الأخطار التي سوف تنجم عن تطوير أسلحة في قطاع غزة، ما يستدعي كما يقولون مجابهة هذا التطوير، لكنهم لا يفصحون عن فهمهم الخاص للتطوير، ولعله يتعلق باستراتيجية الحروب الدفاعية أو الإجهاضية كما تسمى في معاجمهم العسكرية. وحين كان السلاح الفلسطيني مجرد حجر أو عصا كانت سلطات الاحتلال تعد لمواجهته بكل أسلحتها البرية والجوية والبحرية وقد تطارد عدة دبابات طفلاً كما حدث في الانتفاضتين.

 

إذن لا حاجة إلى اختراع الذرائع، فالعدوان مستمر منذ عام 1948 وما قبله أيضاً.

 

وحين أطلقت العسكرية الصهيونية على مجزرة قانا عملية سلام الجليل كانت تقدم للعالم عيّنة نموذجية من ذهنية ترفض التعاطي مع التاريخ وتحاول إحياء إسبارطية فولاذية بعد قرون عديدة من زوال إسبارطة ذات الخوذة التي كانت في مواجهة أثينا ذات القلم والإزميل وسؤال الوجود.

 

ومنذ فترة لم يهدأ السجال حول حرب محتملة، قد تبدأ من الفضاء الإيراني كهدف نووي أو من جنوب لبنان، لكن غزة التي حملت اسم "أولاً" بالإضافة إلى أريحا في اتفاقيات أوسلو، أصبحت الآن الأولى بلا منافسين للعدوان رغم أنه جرب مرات عدة ولم يحقق أهدافه إلا إذا كان الهدف الأخير هو تعميق الحصار.

 

ونحن لا نحتاج إلى مناسبات كهذه للتذكير بما قاله المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عند زيارته لفلسطين عشية الاحتلال الأول، فقد رأى أن الصهيونية لا تعيش إلا بالمزيد من الحروب، وأن السلام هو مقتلها بل "عُقب آخيلها" لهذا تسعى بكل الأساليب إلى ابتكار العوائق التي تحول دون تحقيق الحد الأدنى منه، ورغم أن العدوان الصهيوني على غزة وعلى ذلك النحو الذي أثار استنكار العالم واشمئزازه جعل صورة الدولة الصهيونية مثالاً لأقصى ما يمكن تخيله من القبح باعتراف بيريز رئيس "الدولة"، إلا أن معاودة المحاولة التي تلوح بها قد تدفع العالم إلى الاعتقاد بأن الصهيونية تنتحر، وهو انتحار فريد من نوعه، إذ يوظف لصالح المزيد من البقاء، وتلك هي مفارقة الكيانات التي تتأسس على الخرافة.

 

وتنظر إلى التاريخ بما فيه المستقبل على أنه العدو الأول لها، لهذا فهي في سباق ماراثوني مع الزمن كي تحقق أقصى ما يمكن تحقيقه الآن، فالفرصة مواتية على الأقل من الجانب العربي حيث ينشغل العرب الآن بشجون أخرى ويختصمون في ما بينهم ناسين العدو المشترك لهم جميعاً، والذي لا يقبل تقديم أي استثناء لأي طرف إلا إذا كان التوقيت يفرض ذلك.

 

العدوان على غزة الآن هو إعادة تدمير الأطلال والخرائب، وانتهاك مئات الألوف من البشر الذين فرض عليهم الحصار عدة أنيميات، من أجلها تدفق الناشطون من كل فج عميق لاستدراك ما تبقى. وإذا صح لنا أن نسمي العدوان على لبنان أو على قطاع غزة عدواناً موضعياً فإن الحرب ما إن تندلع حتى تتمرد على كل الخطط التي مهدت لها، فالمنطقة الآن برمتها تعج بالبؤر الساخنة، وتل أبيب لم تعد تنعم بالحلفاء القدامى الذين إن لم يقفوا معها يبقون على الحياد، وما سمي الهدنة بين غزة ودولة الاحتلال ليس في حقيقته سوى عطلة عسكرية قد تطول أو تقصر لكنها تبقى مجرد جملة اعتراضية في أجندة عسكرية.

 

أما القول إن الدولة الصهيونية تريد من هذا التهديد بالعدوان وربما البدء بتنفيذه الهروب من التزامات التفاوض وعملية السلام، فهو رغم صحته لا يضيف جديداً، لأن تاريخ هذه الدولة هو تاريخ الهروب من السلام وكل ما يمكن أن يفضي إليه، وهذا ما يؤكد دائماً ما قال توينبي عن دولة هي خطأ تاريخي تحول إلى خطيئة جغرافية.

 

صحيفة الخليج الإماراتية