خبر آن الأوان لإعفاء الولايات المتحدة من دور الوسيط.. غسان العزي

الساعة 03:28 م|19 ديسمبر 2010

لم يفاجأ عاقل بانهيار المفاوضات الفلسطينية - “الإسرائيلية” المباشرة التي بدأت في سبتمبر/ أيلول الماضي بعد ضغوط أمريكية مكثفة على العرب والفلسطينيين الذين دخلوها من غير أوهام . ولم يفاجأ أحد بانحياز الولايات المتحدة للطرف “الإسرائيلي” رغم موقعها كوسيط يفترض أن يكون محايداً ونزيهاً، فمنذ زمن طويل يتبارى السياسيون الأمريكيون على اكتساب رضا “الإيباك” . لكن أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه من مهانة وتخاذل وضعف أمريكي حيال رئيس الوزراء “الإسرائيلي” فهذا ما لم يكن بحسبان الكثيرين ممن تفاءلوا خيراً بوصول شخص متميز إلى رئاسة الولايات المتحدة .

والحال أن ما من سبب يدعو إلى التشكيك في نوايا الرئيس أوباما لجهة رغبته في إيجاد حل دائم للصراع العربي - “الإسرائيلي” . فالرجل باشر في تنفيذ وعوده الانتخابية، في السياستين الداخلية والخارجية، منذ لحظة وصوله إلى البيت الأبيض . وتطول لائحة الإشارات الإيجابية التي أرسلها في اتجاه علاقة أمريكية جديدة مع العرب والمسلمين والفلسطينيين الذين جدد وعده لهم بدولة مستقلة قابلة للحياة، وذلك في الأشهر القليلة التي تلت استلامه للسلطة .

كان من الطبيعي أن يفرض أوباما على “الإسرائيليين” وقف الاستيطان كشرط لبدء مفاوضات غير مباشرة أولاً ثم مباشرة تالياً مع الفلسطينيين . هذه المرة لم يكن من الممكن القول بعدم وجود شريك فلسطيني، فالرئيس عباس كان قد عقد أكثر من مئتي جولة تفاوض مع ايهودا أولمرت قبل أن يستقيل هذا الأخير ويحل محله نتنياهو - ليبرمان لتعود الأمور إلى المربع الأول .

وقف نتنياهو في وجه أوباما رافضاً وقف الاستيطان . وبدأت علامات الضعف تظهر في الموقف الأمريكي قبل أن يبدأ المراقبون بالتوجس خشية من التراجع أمام العناد “الإسرائيلي”، وهذا ما حصل . بعد الدعوة إلى وقف الاستيطان انتقل أوباما إلى المطالبة بتجميده فحسب قبل أن يضطر مجدداً إلى التراجع مطالباً بالتجميد المؤقت أي طيلة فترة التفاوض فقط والتي ينبغي ألا تطول نظراً إلى أن الأفكار موجودة ولن يستهلك الوقت بحثاً عنها . لكن أوباما لم يكن يعرف أن ما يضمره نتنياهو هو بالضبط ما كان قد أعلنه رئيس الوزراء الليكودي شامير في عام 1991 بأنه سوف يجعل التفاوض يستمر إلى ما لا نهاية من دون تقدم .

في سبيل إنقاذ ماء وجهه أولاً بعد الفشل في انتخابات الكونغرس النصفية، وفي سبيل إنقاذ المفاوضات ومن خلالها هيبة سياسته الخارجية لجأ أوباما إلى إغراء نتنياهو أو رشوته كما يقول بعض المراقبين . قدم له رزمة من الإغراءات التي لا يمكن لعاقل أن يرفضها وذلك في مقابل مجرد القبول بتجميد الاستيطان ولمدة ثلاثة أشهر فقط غير قابلة للتجديد . رغم ذلك رفض نتنياهو العرض الأمريكي وأعطى الأوامر بالمزيد من الاستيطان وفي القدس الشرقية على وجه التخصيص .

ما الذي يجعل نتنياهو قوياً إلى هذه الدرجة في وجه إدارة أمريكية تتقبل الإهانة من دون أن تبدي أي قدر من المقاومة؟ أليس نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لاسيما في الانتخابات التشريعية والرئاسية؟

إن إعلان الإدارة الأمريكية عن فشل مفاوضاتها مع “إسرائيل” بشأن تجميد النشاطات الاستيطانية هو اعتراف علني بالفشل في لعب دور الوسيط، لا يغير في الأمر شيئاً دعوتها الأطراف للعودة إلى طاولة المفاوضات من دون هذا الشرط المسبق ثم إرسال مبعوثها ميتشل إلى المنطقة غداة إعلان الفشل هذا بعد إلقاء هيلاري كلينتون خطاباً أمام مؤسسة صابان التابعة لمعهد بروكينز تقول فيه إن إدارتها مستمرة في دور الوسيط “الفاعل وغير المتفرج” وإنها لا تزال تعتقد بأن الاستيطان يضر بالسلام وأخطر من ذلك بمستقبل “إسرائيل” .

ماذا يريد العالم أكثر من ذلك كدليل على عجز واشنطن عن لعب دور الوسيط الفاعل؟ القضية ليست في النوايا الأمريكية . فمنذ دعوة الرئيس بوش الأب إلى مؤتمر مدريد في خريف عام 1991 واستخدامه الضغوط على الجميع لانعقاد مؤتمر السلام هذا، مروراً بكل جهود الرئيس كلينتون التي لم تثمر الشيء الكثير (أوسلو لم تكن بفضل جهوده) وصولاً إلى باراك حسين أوباما والآمال التي حملها انتخابه، تبلورت القناعة التي عبر عنها محللون وسياسيون أمريكيون كثر عن أن السلام في الشرق الأوسط أضحى مصلحة استراتيجية أمريكية . بل أكثر من ذلك هناك من العسكريين الكبار من أعلن بأنه بسبب غياب هذا السلام يقتل الجنود الأمريكيون في المنطقة وتتعرض الولايات المتحدة إلى شتى أنواع الكراهية والحقد والتطرف وفقدان المصداقية .

الحقيقة أنه يمكن للولايات المتحدة، القوة التي لا تزال الأعظم، القيام بأدوار فاعلة في طول العالم وعرضه، ما عدا الشرق الأوسط . فهي في هذه المنطقة تقدم في كل يوم دليلاً جديداً عن عجزها الفاقع عن القيام بدور الوسيط لإنهاء صراع ما انفك يهدد الأمن والسلم الدوليين . ويمكن التأكيد على أن انفرادها بهذا الدور هو السبب في استمرار هذا الصراع وفي كل المآسي التي تنتج عنه . ونحن لا نتحدث هنا عن الجرائم الأمريكية المباشرة في العراق وغيره.

رأفة بالسلام وخدمة للولايات المتحدة آن الأوان لإعفائها من هذا الدور مهما كانت النتائج المترتبة على هذا الإعفاء والتي ستكون بالتأكيد أقل ضرراً على السلام من استمرارها في هذا الدور.