خبر الحاجة إلى الثقة والتعاون ..علي عقلة عرسان

الساعة 04:05 م|22 أكتوبر 2010

الحاجة إلى الثقة والتعاون ..علي عقلة عرسان

إذا كان ما يجمعنا مع الأخوة الإيرانيين منذ القدم، علاقات تجارية وثقافية قبل الإسلام، فإن العلاقات تقوم بيننا منذ أربعة عشر قرناً ونيف على القرآن والعربية، وعلى الإسلام ورسالة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وجهاد أصحابه، وما ترسخ منذ ذلك التاريخ من أدب وفكر وعلم وإبداع، جعل الشخصية الحضارية للعالم الإسلامي يتماهى فيها البعد القومي للعرب وللأقوام الأخرى في ظلال وأعمال تعبر عن الشخصية ملامح متقاربة في الشخصية تتجلى في الفن والفكر والأدب الإسلامي.. وإذا كان المشترك يجمعنا: دماً وعقيدة وثقافة من كثيرين في العالم الإسلامي، فإن الأبعاد السياسية التي نشأت منذ فجر الإسلام ما زالت تعمق هذه الصلات وتعطي للمشترك بعداً يلامس روح الوجود وصدق التعبير عنه.. بصرف النظر عن الغفلة وعن التدخل الخارجي، وأشكال الهيمنة وتعدد أنواعها ومجالاتها.

وحين نتلمس البعد الثقافي في الماضي لا نجد علماء الفقه والحديث، ورجال العرفان والتصوف، والشعراء من أمثال: الخيام وسعدي وحافظ الشيرازي وفريد الدين العطار فقط بيننا وبين إيرانيين، بل نجد العلماء والمبدعين في الشأن السياسي والحضاري. ومحاولة تحديد الانتماء الجغرافي للأشخاص والمعارف والعلوم والآداب في ديار الإسلام، مدخولة بتنقل وإقامة للإغراض كافة، معرفية وتجارية واجتماعية..إلخ، حيث كان أهل تلك الديار يتجولوا بين الأندلس وخوارزم وغيرهما طولاً وعرضاً في ديار الإسلام، من دون أدنى موانع، على غير ما و ليه حالنا اليوم في هذا الوقت البائس، حيث لا تجد أجيالنا من ذلك الإرث إلا العقبات والنكد على الحدود المغلقة بالموانع المادية والبشرية، حتى بين أبناء القطرين العربيين المتجاورين.

ونحن واجدون في ذلك الماضي تواشجاً حضارياً، فتاريخ أصفهان وشيراز متواشج مع تاريخ دمشق وبغداد، من حيث العلم والفن والأدب والمعطى الحضاري والنضالي، ومثل هذا تجده بين عواصم البلدان العربية والإسلامية، وتلمسه بقوة في كل ما تبقى من أسوار المدن القديمة والأحياء فيها، وهو متوافر في البلدان العربية والإسلامية.. من استانبول إلى قرطبة، ومن تونس وفاس إلى القاهرة وبخارى وسمرقند.

وكم هي حاجتنا اليوم ماسة إلى إعادة مثل هذا التواصل البناء في ظل تحديات تطرح على المسلمين والعرب: تحديات القوى الكبرى والصهيونية المتحالفة معها، وتحديات العصر والعلم والتطور التقني والمعلوماتي، وتحديات الفقر والمرض والجوع، والحاجة إلى المشاريع العملاقة التي تستوعب الموارد البشرية وتؤدي على تطوير قدراتها وتنمية طاقاتها ومعارفها من جهة وإلى النهضة ومزاحمة لقادرين في العصر بقوة وثقة ومعرفة وعلم.

 وإذا ما نهضت إيران الإسلامية اليوم بالإسلام وعلى الإسلام، بوصفه دين العلم والعمل، وعمل رجالها بتوصية مؤسسها الذي قال:" عليكم أن تبذلوا غاية جهدكم لئلا يُتَّهم الإسلام، لدى خوضه المعترك الاقتصادي والعسكري والاجتماعي والسياسي، بعدم قدرته على إدارة العالم".. فإن أمامنا سؤالاً يطرح على أهل السياسة وأهل الثقافة معادلة صعبة ودقيقة، أطرافها ماثلة أمامنا حيثما توجهنا في طرق العمل والحياة، وتحدياتها قائمة تفرض التعامل معها بحكمة وحنكة.. معادلة تقول: هل إلى تكامل ثقافي - سياسي، يقوم على معيار ومنظومات قيم سليمة، من سبيل.. لكي تنشأ حالة تشاركية من الأداء المبدع، تنتفي معها أشكال التضاد والتناقض والصراع، وتقوم بيننا حركة شاملة ومتكاملة في الاتجاهين، على جسر الثقة المكين، حركة بين شعوبنا ومثقفينا أولاً، ومن ثمة بيننا وبين شعوب العالم الإسلامي ثانياً، وشعوب العالم كله.. بعيداً عن التبعية والتنافس السلبي والصراع المقيت؟! حيث يقوم أهل الثقافة ـ والسياسة إن أمكن ـ بإعادة نظر في خطابهم ليكون أكثر موضوعية وعلمية وواقعية، وأشد تأثيراً في مجالات التقارب والتعاون، وقريباًً من أرضية الإيمان، ليرد عداوة استعمارية- صهيونية متأصلة للثقافة الإسلامية ولدار الإسلام وساكنيها.. عداوة تبر عن نفسها بأشكال من اتهام الإسلام وتشويه تعاليمه وصورته ورموزه، وإلحاق الأذى بالمسلم وصورته، وتسفر عن جهل ومقت وحقد مقيم..؟! وهل يكوِّن أولئك جبهة تجمعهم على الصحيح والمشترك، في إطار الحرية المسؤولة والحوار البناء والمعرفة المتعمقة.؟ وهل يُعنى أصحاب المسؤولية بما تتطلبه الجبهة الثقافية والمواجهة الثقافية بصورة عامة- وهي الجبهة الأوسع والأكثر سخونة - من إمكانات لتحقيق الأمن الثقافي الشامل في عصر المعلوماتية والتقدم المذهل في كل مجالات العلم والتقانة؟! وهل من سبيل إلى تكامل في عالمنا الإسلامي يجعل من امتلاك تقدم منقذ، أمراً ممكناً.؟! إن هذا، أينما وجد وكيفما بدأ، هو بداية تستحق البناء عليها والاهتمام بها ولعمل من أجلها.. وأنا مع البناء على مبادرات خلاقة، نظرية وعملية، في مجالات متنوعة، كتلك التي قام بها مهاتير محمد، ورجب طيب أردوغان، وأحمدي نجاد وسواهم، بتأكيد على أهمية مناقشة ما ذهب إليه السيد محمد خاتمي من أن " للزمان والمكان دوراً مصيرياً في المعرفة الإسلامية"، فالمدرك لمتطلبات عصره هو وحده الذي يثري المعارف الإسلامية ويغنيها ويحرص على تكاملها والاستفادة منها. أما غير المدرك فهو الغافل عن الإنسان وما أصرّ عليه طوال التاريخ".. وأنا معه أيضاً في قول له ورد في كتابه بم موج: "إن النقص الأساس الذي نعاني منه في مجال الفكر والبناء، هو غياب المثقف الديني أو ضعف حضوره، رغم أنني أرى الأرضية مهيأة بالكامل لظهوره.. المثقف بنظري هو الشخص الذي يواكب زمانه ويعيش قضايا عصره وتحولات زمنه بمعرفة ذلك.. والمثقف شخص يخدم العقل ويقدر حرمة الحرية".

 إننا، في العالم الإسلامي، نتطلع إلى حماية أنفسنا وأوطاننا وهويتنا الثقافية وعقيدتنا، وهذا حق وواجب، وعلينا أن نعي مسؤوليتنا حيال ذلك الذي يشكل جوهر وجودنا، وأن نعي مسؤوليتنا حيال كل تفاصيل الضعف والتهديد والتآكل التي تنخر جسم الأمة وعلاقات دولها وأبنائها.. فتودي بها إلى مزيد من الضعف والارتماء في أحضان الأعداء أو التخاذل أمامهم، بدل التكاتف والتعاون مع شركائهم في الوجود والنضال والثقافة والعقيدة والمصير.

إن من واجبنا أن نمحص الأمور، ونقف عند التفاصيل، ونشارك في الأمور الكبيرة والصغيرة التي تحيي في الأمة المشاعر الصادقة والتآخي والتقارب.. من واجباتنا أن نقف بقوة مع المحاصرين والملاحقين والمعتقلين والمهمَّشين والقابعين تحت نير الاحتلال، ومع المشردين في مخيمات التهجير والفقر من أبناء أمتينا، بوصفهم بشراً على الأقل، بصرف النظر عن عوامل القومية والدين.. ونحن مطالبون أيضاً بالتصدي لأشكال النهب لثرواتنا والهيمنة على بلداننا وسياساتنا وقراراتنا، وبموجهة الحصار والتهديد والتهويد والعنصرية والاحتلال البغيض الذي تقوم به ضدنا قوى كثيرة ابتداء من "إسرائيل" الهمجية وانتهاء بالولايات المتحدة الأميركية المفلسة روحياً وخُلقياً.. ومطالبون أيضاً بالتفكير بأحوال مسلمين تعرضوا لمذابح لا مثيل لها في نهاية القرن العشرين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، وما زالوا في تلك المواقع تحت تأثير العدوان وأشكال التهديد والعنصرية البغيضة التي ترفع رأسها اليوم بقوة في أوربا "المتحضرة.؟!".. ومطالبون بمواقف جادة ومسؤولة حيال التجزئة المتجددة، وتفتيت البلدان المفتتة أصلاً، وما اليمن والسودان إلا أمثلة صارخة على ذلك في أيامنا هذه، ومطالبون أيضاً بالتفكير على الأقل بأولئك الذين يحصدهم الموت في الصومال والباكستان، وبمن يخوضون حرب تحرير في فلسطين والعراق وأفغانستان وسواها من البلدان.. وبغير أولئك ممن يتعرضون للفقر والمرض والجوع، ولبؤس المعاملة وأنواع الاضطهاد والقمع في بلدان كثيرة، عربية وإسلامية، عدا عن مسؤوليتنا الإنسانية عما يجري للبشر في بلدان العالم، بوصفهم شركاء لنا في الإنسانية، ولأن قضية العدالة تعنينا كمسلمين، وهي من حق البشر جميعاً.  

إن أرض المستضعفين الروحية وحقوقهم الاجتماعية ومقومات عيشهم وأمنهم، كل ذلك مستباح أو يكاد، ونضالهم مهدد بالتشويه حيث تلاحقه وصمة الإرهاب من الإرهابيين الحقيقيين الذين يملكون القوة التي تحول الباطل حقاً والحق باطلاً، بقوة السلاح والمال والإعلام.. والهويات الثقافية لؤلئك هي الأخرى مهدَّدة، وهم بأمس الحاجة إلى ما يسندهم وغلى من يقف معهم، ويدفع عنهم الشرور والمحن، ويستنهض فيهم الهمم، ويشرع لهم في الأفق أملاً.

وليس لذلك كله إلا أهل ثقافة وقيم لم يفقدوا إيمانهم بعقيدتهم وهويتهم وانتمائهم القومي والإنساني، ولا قدرتهم على الأداء في مستويات وعي معرفي ومسؤولية إنسانية عالية، وبصيرة نافذة.. أهل ثقافة يملكون مساحة معرفية وروحية واسعة وغنية، وينتزعون حرية يستنبتون في حقولها الإبداع، ويقفون بشجاعة وقوة بوجه الطغيان، يقبلون الحق ويقبلون عليه، ويتحملون مشقات العمل والنضال من أجل العدالة والقيم والحياة، ولا يكونون مثال ما نهي عنه في مثل هذه الحالات، وهو مصداق قول ابن أبي طالب: "من استثقل الحقَّ أن يُقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العملُ بهما أثقل عليه.".

 فهل نتفهم ذلك ونتعاون معاً على إعلاء شأنه ببعد نظر، لكي نخلق حالة يتدفق فيها إبداع كل القادرين على العطاء، من أبناء أمتينا العربية والإسلامية المستهدفتين من الاستعمار والصهيونية، في مجرى إنجاز يخفف من المعاناة، ويستعيد العافية والرؤية السليمة والقوة المنقذة، ويساهم في صنع العدالة والحرية والتقدم والاستقرار والأمن من جوع وخوف في عالمنا الذي يزداد خوفاً وبؤساً.؟!

إن أملي في ذلك كبير، والسبيل إلى تحقيقه، فيما أرى، وعي به، وحوار مسؤول حوله يهدف إلى الخروج من مآزقه، حوار يستشعر أطرافه المخاطر ومتطلبات الواقع، وأبعاد التهديد، وقيمة الإنسان والأمن، وأهمية الشراكة من أجل النهضة والسعادة، على أرضية الانتماء لعقيدة ومجتمع وثقافة مشتركة، وتاريخ متقارب بين المعنيين الواعين منهم والغافلين في عالمنا الإسلامي الكبير.. إنني أبدأ من تأكيد مسؤولية العرب والإيرانيين في هذا المجال لكي يبدؤوا الخطوات الأولى على هذه الطريق، ولا أستثني من المسؤولية مسؤولية أطرافاً أخرى قادرة على النهوض بجزء كبير من المسؤولية، وحمل نصيب من العبء، والمساهمة في الإنجاز، يقف على رأسها المثقفون الأتراك والباكستانيون والاندونيسيون..إلخ.

وأنا في هذا الخضم المتلاطم، أقرب إلى الأمل والتفاؤل مني إلى الخوف والقنوط، على الرغم من كتلة العداء الخارجي المتدحرجة بقوة، والتناقض الداخلي الذي يفضي إلى الفرقة والضعف، ذلك الذي يُغذى ويوظَّف بشراسة لأغراض التمزيق والتناحر والإضعاف والاستنزاف، وقطع جسور التواصل والتعاون، وتدمير مقومات الثقة والعمل المشترك بين أبناء أمة هي بحاجة لطاقة كل فرد من أبنائها في شراكة وجود ومصير.. فيوماً بعد يوم يزداد التقارب وتتراكم المعرفة والخبرة، وتُستقرَأ الدروس، ويُقرَأ التاريخ البعيد والقريب، ويزداد الاقتناع بأهمية التعاون والتقارب وضرورتهما، وتتضح معالم الرؤية إلى المستقبل.. وقد رأيت في الفتوى الأخيرة التي أطلقها السيد الخامنئي حول تحريم سب الصحابة والسيدة عائشة أم المؤمنين، مدخلاً ملائماً لبداية تصحيح الوضع البائس الذي كان منذ قرون، وأثر ويؤثر على علاقات ينبغي أن تكون سليمة وحميمة، بين فئات واسعة من المسلمين في العالم كله. ومن شأن هذه الخطوة، وخطوات متبادلة أخرى تُبنى عليها، أن تمهد الطريق على ثقة وتعاون وتفاهم نحن بأمس الحاجة إليه في العالم الإسلامي كله، لا سيما في هذه الظروف.  

والله من وراء القصد.