خبر إنها المصالحة وليس الاقتتال ..بقلم:د.ناصر الدين الشاعر

الساعة 01:27 م|27 سبتمبر 2010

إنها المصالحة وليس الاقتتال ..بقلم:د.ناصر الدين الشاعر

تلقى الشارع الفلسطيني بارتياح أنباء العودة للحديث عن المصالحة بين حماس وفتح. لكن الكثيرين يترقبون ذلك بقدر كبير من الشك والتخوف من أن تكون هذه مجرد واحدة من الجولات المكوكية التي لا تبدو لها نهاية سعيدة. ونحن ندعو الله من قلوب صادقة أن تكون هذه المحاولة مغايرة للمرات السابقة وأن يكتب الله لها النجاح وحسن الخاتمة.

 

وعلى أية حال، فليس هذا موضوع حديثنا الآن، إنما حديثنا في أمرٍ آخر جِدّ خطير ويتناقض مع كل جهود المصالحة وإصلاح ذات البين.

 

فقد ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات النشاز معلنةً دخول الفلسطينيين في الضفة الغربية حالة الحرب بين حماس وأنصارها من جهة وبين فتح والسلطة من جهة أخرى. بل لقد حصل ما هو أخطر من ذلك حينما حرّض البعض على ذلك بقوله في مقال له عبر المواقع الالكترونية: "هي الحرب يا رجال". وفي المقابل هنالك ما هو أخطر من ذلك حين نقرأ على بعض المواقع الالكترونية مَن يُطالب "باغتيال نوّاب حماس". ويلحق بهذا من يتمنى أن يرى فلسطين بلا حمساويين أبداً كما جاء في تهنئة العيد عبر رسائل الجوال لفريقٍ من الناس. وبالتأكيد، فثمة مَن يدعو بالمقابل أن يأخذ الله السلطة ومَن فيها أخذَ عزيزٍ مقتدر.

 

وأنا ابتداءً لا أملك إغماض عيني وتجاهل الأحداث والتصرفات القاسية التي تقوم بها السلطات بحق فريق كبير من الناس وأهلهم حتى يندفع بعضهم وربما غيرهم لمثل هذه التصريحات غير المتزنة. فهنالك جملة إجراءات غير قانونية ولا إنسانية تقع على شريحةٍ كبيرة من أبناء هذا الوطن. يشمل ذلك: الاعتقال والحرمان من العمل والفصل من الوظيفة والاستدعاء المتكرر وامتهان الكرامة. وحتى لو أنكر المسئولون ذلك عبر وسائل الإعلام، فإن المسألة تبقى أكبر من أن يخفيها تصريحٌ رسمي، ما دامت الناس تشاهد ذلك بأعينها صباح مساء، وما دام ذلك يحدث لمئات الناس وفي كل الأماكن وليس لعددٍ محدودٍ ولا لمنطقةٍ دون سواها.

 

ونحن ينبغي علينا انتهاز الفرصة لمناشدة المسئولين كافةً للتوقف عن تلك الإجراءات في الحال، حتى ننزع فتيل الأزمة وحتى يعيش الناس حياتهم بشكلٍ كريمٍ يليق بهم وبنا.

 

إلا أن الذي لا يمكننا قبوله بأي حالٍ مطلقاً، هو أن يذهب البعض لاستغلال تلك الأوضاع الشاذة استغلالاً مُدمّراً، سواءً كان ذلك عن جهلٍ وحُسن نيةٍ أو عن سوء قصدٍ وتدبير.

صحيحٌ أن كاتب هذه الكلمات لا يعلم خبايا الأمور وإنما ينظر إليها من الخارج شأن جميع المحللين المهتمين بالقضية والحريصين على نقلها إلى برّ الأمان. فنحن إنما نحلل الأمور والظواهر وفق نظريات الاجتماع السياسي ووفق ما تقود إليه المقدمات من نتائج شبه حتمية في الغالب.

 

وصحيحٌ كذلك أنه لا يستطيع إعطاء تقديرات حاسمة بعدم تدهور الأوضاع الداخلية نحو الأسوأ.  لكن اطلاعي على الناس والأوضاع، فضلاً عن مشاركتي في العديد من الجلسات الحوارية المفتوحة حول مستقبل البلد، وما قدمه لي عملي في حكومتين متعاقبتين من معرفة بطريقة تفكير المعنيين بالشأن العام من كل ألوان الطيف الفلسطيني، كل ذلك جعلني قادراً على إعطاء تقديرٍ مقبولٍ للموقف. وأنا على يقين بأن تقديري للموقف هو الأقرب للصواب من ذلك البعض الذي يزعم أننا مُقبِلون على حرب أهلية، أو بصورة أدق من أولئك الذين يُحرّضون على حربٍ أهلية.

 

نعم، قد يكون هناك رغبة بالحرب الأهلية لدى بعض المعنيين بخراب البلد، ولعلهم يسعون إلى ذلك، لكن هذا ليس ما يريده الشرفاء في البلد من كل فصيلٍ كما أفهم. لذا كان على هؤلاء الشرفاء إسكات تلك الأصوات النشاز وتفهيمهم إن كانوا جُهّالاً وتعريتهم إن كانوا مغرضين. ذلك أن كلماتهم التحريضية قد تسري في نفوس بعض المتضررين أو المنتفعين كالنار في الهشيم.

 

ثم إن الأمانة التي نحملها في رقابنا تجاه شعبنا تفرض على الواحد منا قول الحقيقة وتحذير الناس من المخاطر التي تعترضهم. وأنا على يقين بأن تكاليف كلمة الحق باهظة. فما أصعب أن تتكلم عن العفو والمصالحة أمام الذين نالت السياط من أجسادهم أو حرموا من مصدر رزقهم. "العنتريات" وحدها هي التي تجلب لصاحبها التصفيق في هذا المقام. ثم إن المستفيدين من استمرار القطيعة والانقسام كثيرون. وهؤلاء لا تروق لهم المصالحة ولا الحديث عنها إلا من باب السخرية والتهكم والتعطيل. واللاعبون بالشأن الفلسطيني أكثر من طرف. وبعضهم وجد في الانقسام فرصته الذهبية لفعل ما يريد، وربما لاختراق المجتمع وجرّه إلى كارثةٍ.

 

 لأجل هذا فإن أشدّ ما يخشاه العقلاء اليوم أن تجتمع ثلاثة عناصر تقود لتفجير الأوضاع رأساً على عقب فوق رؤوس الجميع في هذا الوطن.

 

 أما العنصر الأول فهو حصول موجةٍ من الإجراءات السلطوية القاسية التي لا تنتهي بحق شريحة أساسية من مكونات المجتمع. وأما العنصر الثاني فهو توفر درجة عالية من الكراهية والاستعداد للانتقام لدى هذه الشريحة الضحية أو لدى بعضها. وأما العنصر الثالث هنا فهو دخول طرفٍ ثالثٍ للاستفادة من هذا الوضع وتفجيره فوق رؤوس الجميع. فما أغبانا ونحن نوفّر التربة الخصبة للطامعين بنا.

 

بالتأكيد، أنني بسبب هذا الحديث سأجد من يتهمني بالجبن وقلة الحيلة وربما بالتفريط بعذابات المعتقلين والمفصولين وسائر ضحايا المرحلة. لكن الذي أفهمه أن هذا الموقف التصالحي  إنما هو لوجه الله تعالى ولمصلحة الوطن. ثم إن هذا القول ينسجم مع الذي يقول به العقلاء من كل فريق في هذا الوطن وعلى رأسهم قيادات حماس وفتح كما يظهر من تصريحاتهم المتكررة.

 

بل إن السلطة جميعها ليست هدفاً ولا مغنماً في حسابات حماس كما فهمت بالاستقراء والتصريح والتلميح منذ عملت دراسة عن حماس في التسعينيات ومنذ كنت في الحكومة العاشرة والحادية عشرة وطيلة محاولات المصالحة ومشاريعها. فهل سيتم استدراج فتح وحماس إلى حربٍ أهلية لأجل سلطةٍ منقوصة السيادة هي أقل من حُكمٍ ذاتي حسب أدبيات حماس ولا يملك الرئيس فيها التنقل من مدينة لأخرى إلا بتنسيق مسبق حسب تصريحات الرئيس؟ بالتأكيد هذا من عاشر المستحيلات، إلا إذا تم استدراج الناس من الطرفين إلى معركة وهمية  بدواعي الثأر والانتقام وتحت شعار: "إنها الحرب يا رجال".

 

لأجل هذا فإنني أخشى من التصريحات الناريّة غير المسئولة التي تظهر من حين لآخر في وسائل الإعلام وذلك لأثرها السيئ ودلالاتها المغلوطة. كما أنني أرفض تلك الأحاديث والمقالات التي تلمز بأهل الضفة وبالنواب الإسلاميين وتتهمهم بالجبن بسبب صبرهم على ما تقوم به السلطة. ولعلّ بعض تلك المقالات تصدر عن أشخاص مجهولين وبأسماء مستعارة أو عن أشخاص لا يدركون خطورة الوضع ولا دواعي المصلحة العليا ولا طبيعة الصراع، أو أنهم ليسوا من البلد ولا يريدون الاعتراف بالمثل القائل: "أهل مكة أدرى بشعابها".

 

لأجل هذا أعيد الكَرّة على هؤلاء أن يتركوا تلك التصريحات التي لا طائل منها. كما أطالب العقلاء بتحجيم تلك التصريحات وتبيين رفضهم لها، حتى لا يتوهّم أحدٌ بأن أصحابها يمثلون شيئاً في الشارع الفلسطيني. وهي المسئولية الملقاة على عقلاء فتح وحماس قبل غيرهم في هذه المرحلة الحساسة.

 

ولكن يبقى التذكير بأمر مهم مرةً أخرى. وهو أن تقوم السلطة بما عليها من إزالةٍ لأسباب الكراهية حتى يتم نزع فتيل الأزمة بالكامل. فإن الكُرَة اليوم في ملعب السلطة والحكومة وقادتها السياسيين والأمنيين، لوقف جميع الإجراءات التعسفية. فليس من المعقول أن نطالب الضحية بالتزام العقلانية بينما تطلق السلطة يدها في الإجراءات ضدها.

 

ولا شك أن حصول مصالحة حقيقية تقود لشراكة سياسية كاملة هو صمّام الأمان للمجتمع. ونأمل أن تكون قد لاحت بعض بوادر المصالحة أخيراً. لكن، وحتى نحصل على كلمة السر للمصالحة، لا بد من تنفيذ تفاهمات وإجراءات بينية داخل الوطن تؤسس لتلك المصالحة وتحفظ النسيج المجتمعي في البلد. نريد للناس أن يعيشوا حياتهم كالمعتاد وفق نظام يحرص عليهم وقانون لا يميز بينهم. ثم إذا حانت ساعة الصفر للمصالحة تكون كل الأمور جاهزة على أرض الواقع. وهذا أفضل كثيراً من تأسيس العراقيل والعقبات في وجه المصالحة ومن وضع العربة أمام الحصان.

 

ولا شك كذلك أن الأمر متعلقٌ بضرورة التوصل إلى موقف مشترك تجاه القضية والحلول المطروحة بشأنها. وأنا واثقٌ بأن هذا قابلٌ للبحث بين المعنيين كما حصل في كل المرات السابقة. لكن هذا لا يكون بالردح الإعلامي الذي يُتقنه بعض المراهقين السياسيين والحزبيين عبر وسائل الإعلام. إنما يكون عبر لقاءاتٍ جادّة تناقش كل ذلك في إطار المصلحة العليا حتى لجهة منح الجهود السياسية فرصة من الهدوء لحل القضية. وماذا في ذلك، وقد حصل من قبل؟ المهم هنا توفر روح المسئولية والثقة والمصداقية والتعاون والشراكة، مع البعد عن الردح الإعلامي، ومع ترك الإجراءات الأحادية الاستفزازية، ومع دوام التأكيد قولاً وعملاً على التزام القانون ورعاية مصالح الوطن والمواطن وعدم انتهاكها بحالٍ من الأحوال.

 

وفي الختام، فإن كلماتي هنا ليست للتبشير بشيءٍ جميلٍ سيحصل صباح الغد مع أنني أتمنى ذلك، إنما هي للتأكيد بأن حصول ذلك الخير أمرٌ ممكنٌ إذا صدقت النيات واستقلت الإرادات. كما أنها كلمات للتحذير من دعاة الفتنة ومسعّري الحرب لدى الطرفين رغم كل الأوضاع المأساوية التي يعاني منها المواطنون في جناحيّ الوطن بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة.

 

وما أروع أن أختم بقول الله تعالى: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" (المائدة5/64). فهل نعتبر بهذا القول الكريم الذي أنزله الله تعالى لنا قبل خمسة عشر قرناً؟ اللهم أعنّا على ذلك وجنّب شعبنا الشقاق والنفاق والفتن. واجعلنا اللهم من دُعاة الوحدة والوفاق حتى في أصعب  الظروف وأحلكها. اللهم آمين، والسلام عليكم.