خبر « عزازيل » الراهب هيبا :..علي عقلة عرسان

الساعة 02:59 م|09 يوليو 2010

"عزازيل" الراهب هيبا :..علي عقلة عرسان

 

في بحث لي حول ماذا يقرأ العرب ولماذا؟ وفي محور أو مفصل من محاوره ومفاصله، حاولت تقصي أسباب رواج كتاب ما، يستحق ذلك الرواج أو لا يستحقه، وأسباب عدم رواج كتاب ما، لا يستحق العتمة التي فرضت عليه والتهميش الذي لحق به.. حيث من المؤكد أن هناك عوامل عدة تؤثر، سلباً وإيجاباً، في هذا الأمر، وقد لا تتصل بموضوع الكتاب ومضمونه وتقويمه الموضوعي، فنياً وفكرياً، بل بأعراض وبأمراض قد يكون بعضها صحياً وبعضها الآخر غير صحي، ولكنها تؤدي إلى تركيز الضوء والرواج، أو تفضي إلى التهميش وأن يقبع جهد فكري أو إبداعي أو بحثي ما في الظل أو في الظلام.

ولا شك في أن هناك عوامل كثيرة وراء ذلك، بعضها يتصل بالكتاب والكاتب وبما يثيرانه، أو ما يُثار حولهما، من ضجيج إعلامي مبرمَج أو عفوي، أو يتصل ما يثيرانه من قضايا ويستنفرانه من جهات وأشخاص ومواقف أو عواطف أو أحاسيس ومشاعر، أو غرائز..إلخ. وقد استوقفتني عناوين وحالات ومواقف كثيرة.. ليس مجال عرضها هنا، لكن ما لفت نظري وضع رأيته خاصاً، فيه غرابة بعض الشيء، وقد أكون مخطئاً.. وهو يتصل بكتاب حمل عنوان "عزازيل.. رواية.. إلخ"، وأحببت أن أتوقف عند عتبة من عتبات هذا الوضع، وعند النص، وما أثاره من ضجة، من زاوية رأيت أنها لا يمكن أن تغيب عن أحد، وأنها ذات تأثير كبير في كل ما أثير حول الموضوع من.. من ماذا؟ حوار أم..!!  

عزازيل: نص، سيرة ذاتية، كتبه الراهب هيبا المصري في قلعة سمعان قرب حلب عام 431 م، ولم يكن يحمل عنوناً، إذ يكفيه أنه سيرة ذاتية للراهب المشار إليه. وترجمه د . يوسف زيدان إلى العربية بلغة مبينة، وأسلوب راق رائع رصين، وتحديد للمفاهيم والمصطلحات، وفهم عميق للمضمون والمدلولات والخلفيات التاريخية واللاهوتية والفلسفية، فجاء بلغة فلسفية ـ لاهوتية أحياناً وشاعرية عاطفية رقيقة أحياناً أخرى، حسب تداخل المشاعر والأفكار والمواقف ومقتضيات السرد الذي سطَّره مبدعه الأول الراهب المصري هيبا. والنص سيرة ذاتية، وفيه وقائع تاريخية، وتأملات فكرية، ولمحات " مذكرات شخصية" مشوقة، وشواغل عميقة لنفس يداخلها القلق في أحايين فتعبِّر عن ذاتها بشفافية وصدق، وتتداخل فيه التجارب المتنوعة والرؤى والأفكار والوقائع والمشاعر، حيث يعكس روحاً قلقة ويعبر عنها، روح يشقيها الجسد حيناً والفكر أحياناً، ويشدها الواقع من حولها إلى أزماته ومهاويه.. والسيرة تحمل صراعات النفس البشرية وتناقضاتها، وتترجح بين الجسد والروح، الله والشيطان، الإيمان والكفر، بين عزازيل والمسيح.

الصدق والبوح الروحي الداخلي الشفيف هو سيد النص. الأسلوب فيه جذاب، والوصف دقيق، والتعبير متميز، والمعاناة تتعمق لتكشف ستر النفس البشرية عبر تاريخ أنفس تألقت بالإيمان وطغت أو أطغاها الشيطان.. والشيطان "عزازيل" ليس خارجنا وإنما فينا.. تصرعنا تجلياته ونصرعها، ونبقى في توتر بين الذاتي الطبيعي المتفلِّت من الهصر والحصر آناً، والمقموع في قواقعهما أحياناً، بتأثير الطبيعة والتكوين والمجتمع والتقاليد والفلسفات الروحانية والتعاليم الدينية.

عزازيل سيرة، "مذكرات"، تفوق ذلك النوع من الكتابة المعتادة، لتتفرد بنفَس روائي يستحق أن يحمل ذلك الاسم ويرتقي به، وفيها من المعطيات والوقائع التاريخية والقضايا اللاهوتية ما يعتبر سجلاً حققه الراهب هيبا ودققه وسجله وحفظه، فكان شهادة له في عصره وشهادة منه على عصره، أخرجها الدكتور يوسف زيدان من الظلمات إلى النور باقتدار وأمانة وفقه في مجالي اللغة والمضمون.  

هذا الراهب المصري القادم من نجع حمادي، الذي رأي بأم عينه أباه الوثني " الفرعوني" يُذبح بأيدي مسيحيين متدينين لأنه يصيد السمك ويضعه لكهان المعبد المصري الفرعوني القديم، ليأكلوا وهم في الحصار المفروض عليهم.. ورأى أمه تكيد لأبيه وتشارك في قتله، وتنتقل إلى حضن أحد قاتليه.. ارتحل إلى الإسكندرية بعد أن تشبع بعلوم مسيحية في إخميم ونجع حمادي، وفي الإسكندرية وقع في محن وامتحانات، فصَبا هناك مع الأرملة الرومانية الوثنية أوكتافيا التي تعبد إله البحر "بوسيدون" وتنتظر مشيئته وهديته التي وعدَت بها، فكانت تلك الهدية "هيبا" الذي وهبته نفسها وعاش معها أياماً ثلاثة في طغيان عاطفة صادقة وحب لاهب، أغرق روح الراهب في بحر الإثم الذي لم يفارقه طعمه. وفي الإسكندرية شاهد بعينيه، في شوارعها، قسوة الناس، في بشاعة مشهد سحل الفيلسوفة "هيباتيا ابنة ثيو" التي كانت تحاضر في الفلسفة والرياضيات، سحلها على يدي المتشددين المسيحيين الذين يريدون تطهير أرض الرب من الوثنيين، كما شاهد أوكتافيا تركض لتخلص هيباتا فتقتل بشراسة.. شاهد ذلك وهو الراهب، فتألم لذلك أشد الألم، وركض خارجاً من الإسكندرية يهيم في الصحراء ويمزق ثيابه.. وحُفِر في ذاكرته مشهد هيباتا وهي تجر شبه عارية في الشارع الرئيسي المرصوف بالحجارة، ثم يُقبل الرجال على تقشير جلدها برقائق صدَف البحر، حين وصلوا بها إلى الشاطئ.. لم ينس ذلك، وربما كان أحد الأسباب التي دعته إلى كتابة سيرته..

غادر هيبا الإسكندرية ووصل إلى أورشليم" القدس" وأقام فيها، وتعرف هناك على نسطورس حيث التقى به حاجاً، وأصغى إليه، وتحاور معه، وأعجب به، وربما بسبب سؤال وجهه إليه نسطورس عما إذا كان قد شاهد مصرع هيباتا في الإسكندرية، وبسبب صمت نسطورس الموحي بالكثير، عندما أعلمه هيبا أنه شهد ذلك بنفسه.. ربما بسبب ذلك كتب فيما بعد سيرته الشخصية وتلك الشهادة التي قدمها للتاريخ. وبتشجيع من نسطورس غادر هيبا إلى قلعة سمعان على بعد 30 كيلو متراً تقريباً غرب مدينة حلب وأقام فيها بتوصية منه، وهناك غرق في الكتب ومارس الطب، وتعرف على أسرار في القلعة لم يعرفها غيره، وتعرض لفتنة مارتا العربية التدمرية التي سحرته بجمالها وعذوبة صوتها.. فسقط  في الغواية معها، للمرة الثانية بعد ما كان منه مع أوكتافيا في الإسكندرية، وترجَّح نفسياً بين الرهبنة والطبيعة البشرية، بين متطلبات الجسد ومراقي الروح والرهبنة، لقد عانى هيبا كثيراً وانصهرت روحه في أتون صراع الرغبة والرهبة، الغربة والوطن.. الرهبنة والحياة الطبيعية التي قد يكون مكانها بلده الأصلي في نجع حمادي أو إخميم.. وفكر بهجر الدير.. وكان روحه مسرح معارك بين الطبيعة المتجلية في الجسد وتعاليم المسيحية الروحية والرهبنة التي نذر نفسه لها، وكذلك كان فكره مسرحاً لاختلافات أساقفة ومطارنة وقسس وسياسيي ذلك العصر: كيرلُّس المرقسي، ونسطورس أسقف القسطنطينية، وبابا روما، وأبَولا الرُّهاوي، ويوحنا الإنطاكي، والإمبراطور قسطنطين الذي رأس المجمع المسكوني في إفسوس عام 431 م ونتج عنه حرمان نسطورس الموحّد وطرده، وتعديل قانون الإيمان الذي وضع في مجمع نيقية عام 325م فأصبحت العذراء بموجب تعاليم ذلك المجمَع أم الإله " ثيوتوكوس" كما أراد كيرلُّس أسقف الإسكندرية، وليست " خريستوتوكس"، أم المسيح، كما دعا إلى ذلك نسطورس الذي يرى أن العذراء مريم: " امرأة قديسة وليست أماً للإله"، وأنها " إنسانة أنجبت من رحمها الطاهر، بمعجزة إلهية، وصار ابنها من بعد ذلك مجلىَّ للإله ومخلصاً للإنسان.".  " فالله باق على كماله الأزلي الأبدي، فهو الواحد الفرد، لا يولد ولا يموت، وهو يتجلى حيناً ويحتجب أحياناً بحسب مشيئته." ، كما قال نسطورس لهيبا في أنطاكية، وأضاف:" يا هيبا لقد جن هؤلاء تماماً فجعلوا الله واحداً من ثلاثة"

لم يكن وقع هذا الحدث هيِّناً على هيبا، وكان وقع الحدث الذي سبقه قاسياً على نفسه أيضاً، حيث في المجمع الكنسي الذي رأسه الإمبراطور قسطنطين قبل ذلك في نيقية 325 م، تم حرمان آريوس لقوله: "إن المسيح إنسان لا إله، وإن الله واحد لا شريك له في ألوهيته"  و " أراد آريوس أن تكون الألوهية لله وحده."، ولم يُكتف بإلقاء الحُرْم على آريوس، بل قتل مسموماً في القسطنطينية، وارتاح لذلك الإمبراطور قسطنطين وغيره من الأتباع.

لقد كانت نفس هيبا نهباً لأفكار متضاربة، وتعصف بها أحياناً رياح الجسد، وكان يفترسه الحنين في لحظات، وتؤرقه العواطف وآلام الغربة عن أرض مصر.. وبعد مرض اشتد عليه في دير سمعان، وقلق لم يفارقه، وإرهاق فوق حدود الاحتمال، وتعلق بمارتا الجميلة ذات الصوت الملائكي التي غادرت إلى حلب لتغني هناك.. كاد يودي كل ذلك بعقله.. قرر أن يكتب ويدفن ما يكتب قرب دير سمعان العمودي، ففعل، ووضع ما كتبه على الرَّق في صندوق دفنه هناك، وغادر إلى جهة مجهولة أو غاب فيما يشبه غياب أوديب في كولونا ذلك الغياب في المجهول. وجاء في سيرته ما يكاد يلخص اضطراب حياته ونفسه وروحه ورؤاه، بعد طول مثابرة منه على الرهبنة والعبادة ومشقات طريق الروح.. جاء في سيرته الشخصية، وفي مفصل متأخر من مفاصل حياته التي تضمنتها سيرته المكتوبة تلك: " كل ما فيّ ملتبس: عمادي، رهبنتي، إيماني، أشعاري، معارفي الطبية، محبتي لمرتا.. أنا التباس في التباس، الالتباس نقيض الإيمان مثلما إبليسُ نقيضُ الله."

لقد قدم نص " عزازيل" على أنه رواية كتبها الدكتور يوسف زيدان، والذين حوَّلوا الموضوع إلى مسألة طائفية، مسيحية إسلامية، وحملوا د . زيدان مسؤوليات ووصفوا عمله بصفات غير محمودة.. اشتركوا مع المترجم، "المؤلف"؟، ومع الناشر في عملية غير دقيقة وغير سليمة، لا أدري كيف راجت وطغت، مع أن الوضوح فيها تام وكاف ومسجل في مقدمة الكتاب، حيث يشير الدكتور زيدان إلى أنه ترجم النص بعد صبر ومثابرة وتدقيق امتد لسنوات، وأن بعض الرقوق التي أشار إلى أرقامها قد ضاع جله!؟ فوصفُهم الكتاب بأنه رواية من تأليف يوسف زيدان، وتحميله ما لا يحتمل من إضافات وتفسيرات وتشويه، ونعرات طائفية، وغش فكري ومعرفي مقصود..إلخ " كما قالوا"،!؟ ووصف يوسف زيدان، أو الناشر، للكتاب بأنه رواية، ووضع اسم المترجم على أنه مؤلف الرواية؟ وإغفال اسم كاتب النص، صاحب السيرة، الراهب المصري هيباتا، وإغفال ذكر أن النص ترجمة على غلاف الكتاب.. كل ذلك أغرق الموضوع في التباسات مختلفة، جعلت من يستثمرونها ويبنون عليها يذهبون بعيداً في اتجاهات وتفسيرات وتوجهات غير سليمة..  وهو الأمر الذي جعل الكتاب "مادة لكتابة مقالات ودراسات ذات نكهة طائفية" على نحو ما.. وساهم في تحقيق رواج أكبر للنص.. ولكنه أثار زوابع كلامية وطائفية، وخلق التباساً، فكرياً وفنياً، غير مسوَّغ ولا مقبول.. وإذا كان ذلك مقصوداً على نحو ما، فقد أصابت القاصد منفعة كبيرة وأصابت الحقيقة مقاتل أكبر.

إن سيرة الراهب هيبا، التي نشرت تحت اسم " عزازيل.. رواية"، كتاب يُقرأ بكل الشغف والمتعة والاهتمام، ويستحق مترجمه الدكتور زيدان الشكر والتقدير.. ويحتاج الأمر، من حيث الوقائع والأمانة، أن يُذكر الكتاب على أنه سيرة ذاتية لصاحبها وكاتبها الراهب المصري هيبا، ترجمها ترجمة رائعة د يوسف زيدان.. وأنه ليس رواية من تأليف المترجم.

 

دمشق في 9/7/2010