خبر داء الأوطان والأنفس.. علي عقلة عرسان

الساعة 11:55 ص|25 يونيو 2010

داء الأوطان والأنفس.. علي عقلة عرسان

 

من يرخص وطنه ونفسه لا وطن ولا نفس له، ومن يضع أكثر من قناع على وجهه، لا وجه له، ومن يسلك أي سبيل، ويستبيح أية أداة أو وسيلة، من أجل بلوغ هدفه، لا يهتدي ولا يؤتمن على وطن وقضية وهدف نبيل، ومصلحة عليا، وقيم اجتماعية وقومية ووطنية وحتى معرفية وجمالية سليمة وأصيلة. ومن يغدو أنموذج الانتهازي المنافق، يستطيع أن يعوِّم نفسه على السطح الاجتماعي في ميادين شتى لمجتمعات متهافتة القيم ولمعايير، وأن ينزه ذاته بلسانه وألسنة من يشايعونه على ضلال كما يشاء، وأن يدعي له ولهم ما شاء.. وأن يطفو على السطح الاجتماعي بمجاديف الدعاية والإعلان الإعلامي الرخيص.. ولكنه لن يكون طائراً الحقيقة ولفضيلة الجميل الباهر الذي يحلق في فضاء الإبداع والإصلاح، إنه سيلوث الحياة والحقيقة والمجتمع والسلوك، ولا يمكن أن يبلغ، مهما ادعى، عمقاً معرفياً وخلُقياً من نوع ما، ولا أن يرقى إلى مستوى مرموق في أي مجال.. إنه ينشر الوباء والسطحية والانتهازية والعقم ويستطيب ذلك وينتشي على دِمَنِه، ويعمم معاييره المبتذلة لما يراه "تفوقاً وشطارة.. وعبقرية فريدة، لن تندثر على الرغم مما تراكم فوقها من ردم جراء انهيارها والانبهار".. إنه سيبقى المعلوم لمن لا يعلم، ولا يريد أن يعلم، والنكرة الدعي عند العارفين الأصيلين.

لقد طغى وجود أمثال تلك النماذج في مواقع كثيرة: ثقافية وإعلامية وسياسية واجتماعية.. إلخ وكثر ضجيجهم في مجتمعنا، وأصمت طبولهم الآذان، وطغت معاييرهم على المعايير.. حتى سادت فوضى القيم والمعايير والحكم والأحكام والاحتكام، وأصبح الصواب خطأً والخطأ صواباً، والادعاء الفارغ قيمة، والإبداع الحق والامتلاء المعرفي والانتماء الوطني والقيمي إدعاء؟!.. ذلك لأن غياب المعيار السليم يؤدي إلى فوضى في التقويم والقيم والنقد والحكم، ويفضي إلى تنصيب الجاهل والمدعي حكماً، ورفع نتاج الادعاء أنموذجاً، وإلى أن يسود الجهل والادعاء، وإلى تفشي أمراض اجتماعية كثيرة من أعراضها الضعف والتخبط والانحطاط، وتدني الذوق، وتعالم الجهلة، ونبذ المعرفة، ورواج التهافت والمتهافتين، وإلى ما هو أكثر من ذلك وأدنى مرتبة وأشد فتكاً بالمجتمع والأخلاق والمعارف ولعلوم الآداب.. وإلى تفشي كل ما ينتُج عن الخداع والمكر والادعاء والتعالم، وما تصنعه الميليشيات والشلل الفاسدة المفسدة وما ترسخه من أحكام قيم، وإلى وصم المتعافين من ذلك كله ونعتهم بالغباء وقلة الحيلة وانعدام الكفاءة والقدرة؟!، وإلى شيوع " الشلل وتبادل المنافع الخاصة" في الأوساط الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكل ما يتصل بالشأن العام.؟!

ومجتمع تسود فيه تلك الأفعال والشخصيات والقيم والمعايير والمواصفات والعلاقات، مجتمع مبتلى بآفات، لا ينقذ نفسه ولا يساعد من ينقذه، ولا يرى ما هو في صالحه، ولا يستنقذ شيئاً من ذاته وحقوقه وقيمه وأرضه ومصالحه، ولا يحمي هويته وثقافته وأبناءه، ولا يستطيع الوصول إلى رؤية استشرافية لمستقبل أجياله، وتتآكل فيه والإرادة والكفاءات كما تتآكل الحرية والعزم.. لأن الجَهَلَة والمنافقين والانتهازيين وأعداء المعرفة والحقيقة لا يصنعون نهضة الأوطان، ولا ينتِجون ما يرفع الوطن والمجتمع والإنسان، ولا يسمحون للقادرين بالعمل على شيء من ذلك، فكل من يقدر على فعل شيء مفيد وسليم ورفيع وقوي في ذينك الوسط والمناخ الفاسدين، مهمَّش ومبعد عن ساحات الفعل والخدمة، وملاحق بالتشويه والافتراء.. إن العملة الرديئة لا تكتفي بطرد العملة الحسنة من السوق، بل تلاحقها لتحط من قيمتها وتدمرها إن هي استطاعت ذلك، لكي تضمن بقاء ذاتها وسيطرتها..  وفي ذلك بلاء وشر الابتلاء.

إن الانتهازية التي تستشري اليوم في أوسط وشرائح واسعة جداً من مجتمعنا العربي، بلغت درجة أصبحت معها سمة مؤسِّسة لما يسمى النجاح، وعلامة عليه ومرافق له، وهي تأتي على الخصوصية الفردية الأصلية، وعلى القيم الاجتماعية وأصالة الإبداع، أي إبداع في أي مجال ومن أي نوع، كما تأتي على قيم المجتمع ومقوماته وإنجازاته ونتائج أفعاله، وتحل محل الكفاءة والمعرفة والقدرة على الأداء السليم، والإنتاج الجيد، والسلوك القويم الذي يجعل من شخص ما قيمة اجتماعية وخلقية وثقافية وسياسية، ورائداً وقدوة وأنموذجاً يحتذى في الأداء والبناء.. ومن عملٍ ما ريادة، ومثابة، وحقلاً خصباً للنمو الثقافي والتنمية المعرفية والعلمية،  كما يساهم في جعل مجتمع ما شريكاً في النهضة والتقدم الحضاري للبشرية كلها، واعياً بماهيته وخصوصيته وقدرته على الأخذ والعطاء بثقة، والإضافة بإبداع.

إن الآفة الاجتماعية المدمرة، النفاق، طغى وأفسد الرؤى والمواقف وأشكال الأداء والبناء، وشوه الكثير من الوقائع والحقائق والأشخاص، وفرَّخ آفات لا يكاد المرء يدرك لها عداً ولا حداً. صحيح أن أمراض مجتمعنا العربي كثيرة، ولكن يبدو أن من أسوئها الانتهازية والنفاق اللذان ينشران الكذب ويستثمران فيه وينتشران به، وهو أس كل داء وبلاء، حيث ينتج عنه هبوط الشخص في معيار ذاته فكيف يرتفع بمجتمع، أو يرفع بنظر المجتمع؟ كما ينتج عنه، في جملة ما ينتج: غياب المعايير المهنية والعلمية والمعرفية والخلقية والاجتماعية السليمة،  وغياب المصداقية، وتراجع الكفاءات وانكفاءها، ومن ثم فوضى عارمة في التقييم ووضع التراتبيات، وتقدير الأعمال والأشخاص، وفوضى أيضاً في مجال إشغال المواقع واستثمار الكفاءات.. الأمر الذي يجعل الخلل الخطير يتغلغل في الأنفس إحباطاً، ويفتك بالكثير من البنى والمقومات والأحكام والتوجهات، فيطفو على السطح من لا وجه له ولا قيمة، ولا سمات ولا مواقف ولا مبادئ ولا قدرة حقيقية، ومن يعمد إلى تسويغ وجوده وأدائه ورفع ذاته بنشر مزيد من اللغو والكذب والادعاء والتشويه والفساد والإفساد، ويساهم في تعميم سطحية المعايير والأحكام والرؤى.. ويؤدي هذا إلى غاب الفرد المتألق المتمكن المقدَّم المتقدِّم، المتعين القدرات والمهارات والميزات، المتمايز عن سواه بقدراته ومواقفه ومبادئه وخلُقه وحسن أدائه وتميز إنتاجه.. وينتج عن ذا أن تتساوى في نظر الناس الحسنات السيئات، وتتآكل الوجوه والمقامات، ويصبح الشخص المسؤول أو القيم على الأمر، الذي يزين له المنافقون والانتهازيون حكمه وحكمته، يصبح في مهب ريح الانتهازية والنفاق ومتاهاتهما.. كما يصبح أي شخص، ضمن هذا المناخ، ممسوح الوجه والقوام.. إنه أي شيء في أي مكان، وقد غابت هويته كما غاب انتماؤه ولونه وطعمه ومسؤوليته، وغابت بذلك مواقف وقدرات وقيم تحرر وتبني وتنقذ، وتحقق تقدماً بالمعنى الجوهري للتقدم، وتؤسس لمجتمعات ودول وعهود قادرة على النهضة بالأمة من كبواتها، وعلى حماية نفسها وأرضها وعقيدتها وقيمها ومصالحها، والمحافظة على هويتها وثقافتها وخصوصيتها وحضارتها.

نعم إن الانتهازية والنفاق داء وبيل، ولكن ألا يكمن أساس الداء في مسؤولين وشخصيات ومجتمعات، يستطيبون النفاق وأهله، ويقربون الانتهازيين ويحتفون بهم، ويفرحون بمن يطريهم حتى يطربهم، وينفرون من الحقائق الكاوية والوقائع الدامغة التي ترسم الصورة الحقيقية للمجتمع والمرحلة والعهد، وتقدم التقرير الأصح والأوفى عن واقع الناس ومعاناتهم وتطلعاتهم، وتساهم في القراءة الصحيحة للمعطيات والإمكانيات والحاجات الضرورات، ومن ثم للتوجهات ووضع الخطط والاستراتيجيات، وبناء النهضة والقوة على أسس علمية واقعية سليمة، والإعداد لمواجهة أعداء الأمة والطامعين بها من جهة، وتحديات العصر من جهة أخرى، باقتدار ووعي وحكمة وحنكة، وسلامة توجه وتخطيط وتنفيذ وتوجيه.؟!

إن الانتهازية والنفاق داء الأوطان والأنفس.. وإنه لَمِمَّا يؤلم أشد الألم، أن ترى الداء الذي منه الشكوى لا يعالج بل يُختار علاجاً للمريض، وحين تبحث عن الخلاص في مثل هذه الأوساط المصابة بأدوائها بحثك عن الإبرة في كومة القش، لا تحظى إلا بمزيدٍ من الفقد والتيه والإحباط، ولا تفوز إلا بالحسرة والألم.. وتصل إلى ما يشبه الاقتناع بأن الداخل في هذا الأمر مفقود والخارج منه مولود..

ولكن أين مخرج الولادة والبرء من الداء لمن وطنه حبه وقدره، ومن التهمه حب أرضه حتى لم يبق له من ذاته عظماً يوصي بأن يدفن في أرض أخرى؟!.. هذا مع حقيقة أن ليس للأوطان ولا للأرض، عند أهلها المخلصين لها، بدائل تُقبل أو ترتجى.؟!