خبر د. بشير موسى نافع يكتب :أوهام المصالحة الوطنية الفلسطينية

الساعة 09:16 م|23 يونيو 2010

د. بشير موسى نافع يكتب :أوهام المصالحة الوطنية الفلسطينية

بين حين وآخر، تشهد الساحة الفلسطينية والعربية موجة جديدة من جهود المصالحة الفلسطينية. آخر هذه الجهود هي تلك التي رافقت وتلت زيارة الأمين العام لجماعة الدول العربية، السيد عمرو موسى، لقطاع غزة. إلى جانب حواراته مع ممثلي القوى السياسية الفلسطينية في القطاع، ومع ما بات يعرف بهيئات العمل المدني، التقى عمرو موسى برئيس حكومة حماس في غزة، السيد إسماعيل هنية. لا يعرف على وجه اليقين لماذا بادر أمين عام الجامعة العتيدة فجأة إلى زيارة غزة، وهو الذي يفترض أن يكون زار القطاع منذ زمن طويل.

ثمة من يعتقد أن الزيارة أوعز بها من قبل بعض الدول العربية، التي وجدت نفسها في مواجهة مأزق مهين بعد حادثة السفينة مرمرة، وتوتر العلاقات التركية الإسرائيلية، ومن ثم تصدي إردوغان لمطلب فك الحصار عن قطاع غزة. وهناك من يرى أن عمرو موسى، الذي توشك ولايته في أمانة الجامعة أن تنتهي بدون إنجاز يذكر، أراد من الزيارة تحقيق انتصار إعلامي، يعزز من فرصة ترشحه لمنصب الرئاسة المصرية، إن اتيحت له مثل هذه الفرصة المستبعدة. أياً كان الأمر، فقد ذهب الأمين العام إلى غزة وهو يحمل معه افكاراً ما حول تحقيق المصالحة المنشودة بين غزة حماس ورام الله السلطة الفلسطينية. والواضح أن هنية لم يخيب أمل الأمين العام، وقدم له اقتراحات إضافية للالتفاف على الخلافات التي منعت إنجاز المصالحة، منذ طرحت القاهرة ما يعرف بالورقة المصرية قبل عام ونصف العام.

خلال الأيام القليلة التالية لزيارة موسى القصيرة، اندلعت حمى المصالحة عبر المدن والعواصم، وتداولت وسائل الإعلام اقتراحات، بدت متناقضة أحياناً، لكيفية تحقيق اتفاق الطرفين وإطلاق العملية من جديد. وحتى بعد أن أعلن مسؤول مصري أن التوقيع على الورقة المصرية، كما هي، شرط أولي لبدء العملية، بغض النظر عن أية اقتراحات أخرى، لم يتراجع حراك موجة المصالحة الجديدة. مهما كان الأمر، فالواضح أن جهود المصالحة الفلسطينية تحركها دوافع خاطئة، بنيت على افتراضات خاطئة، وتغفل إلى حد كبير الحقائق الصلبة الآخذة في التبلور في الساحة الوطنية الفلسطينية.

أن تنقسم حركة وطنية على نفسها هو بالتأكيد شأن فادح التكاليف؛ إذ ليس ثمة حركة تحرر وطني حققت الانتصار وهي منقسمة ومتصارعة. والانقسام الفلسطيني يكاد يكون فريداً في عمقه وتجلياته؛ فهذا ليس انقساماً سياسياً وفكرياً وحسب، بل انقسام جغرافي أيضاً، يضيف عبئاً جديداً على أعباء تشتت الشعب الفلسطيني في المنافي. ولذا، فإن كل جهد لتحقيق مصالحة وطنية فلسطينية هو أمر إيجابي، بلا شك. ولكن ما يحرك أغلب جهود المصالحة ليس الاهتمام الخاص بوضع الحركة الوطنية الفلسطينية وصلابة قوامها. الحقيقة، أن عدداً من الدول العربية لعب أدواراً متفاوتة من قبل، ومنذ الثلاثينات من القرن الماضي، للمحافظة على قدر من الانقسام داخل صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، وجذب ولاء جهة أو أكثر من القوى الفلسطينية، أو حتى صناعة قوة سياسية من لا شيء، لتأمين موضع قدم في الساحة الفلسطينية. بتحول القضية الفلسطينية إلى القضية العربية الرئيسية، وبروزها محوراً تدور حوله تدافعات القوى وتوازناتها، اعتبرت العواصم العربية الكبرى، أو عواصم الجوار الفلسطيني، أنها إن لم تستطع قيادة الشأن الفلسطيني كله، فلابد على الأقل أن تكون بين من يقررون أو يؤثرون على هذا الشأن.

صحة وعافية الحركة الوطنية الفلسطينية ليست على الأرجح ما يحرك جهود المصالحة. المحرك الأولي والرئيسي لهذه الجهود هو الافتراض بأن توحيد الفلسطينيين، تحت قيادة سلطة الحكم الذاتي، سيسهم مساهمة كبيرة في دفع عملية السلام في مساقها الإسرائيلي الفلسطيني إلى الأمام. منذ وقع الانقسام بين غزة ورام الله، ولدت مقولة إسرائيلية مفادها أنه وإن كان الرئيس عباس رجل سلام بالفعل، وإن لم يكن لدى الجانب الإسرائيلي من اعتراضات جوهرية أو كبيرة على سياساته وعلى توجهات حكومته، فالرجل ضعيف، لا يمثل الفلسطينيين جميعاً، وغير مؤهل قيادياً لاتخاذ قرارات التفاوض الصعبة وإمضاء عملية السلام إلى نهاياتها. وسرعان ما تبنى الأمريكيون والأوروبيون المقولة الإسرائيلية، وأخذوا في تردادها في اللقاءات مع الزعماء والمسؤولين العرب. وحتى دوائر الحكومة التركية لم تنج من تقبل فرضية الانقسام/ المصالحة. ما يردده أغلب المصالحين العرب والفلسطينيين، أو ما يستبطنونه، أن مصالحة بين غزة ورام الله ستؤكد قيادة عباس للشأن الفلسطيني، وتضعه في موقع تفاوضي أقوى؛ وحتى إن لم تساهم مساهمة ملموسة في دفع عملية السلام إلى الأمام، فستعمل على تجريد الإسرائيليين من مبررات ترددهم، وتعريهم أمام الأوروبيين والأمريكيين.

هذه، بالطبع، فرضية ساذجة، إن دلت على شيء فتدل على أن عجز القطاع الأوسع من الساحتين السياسيتين العربية والفلسطينية عن التحرر من وهم التسوية التفاوضية القائمة على حل الدولتين. الاتفاق الأخير في مسار أوسلو، الذي بنت قيادة منظمة التحرير عليه الآمال بالوصول إلى دولة فلسطينية، كان اتفاق واي ريفر في 1996. كل ما شهده مسار التسوية بعد ذلك كان انقلاباً، بهذه الدرجة أو تلك، على ما حصلت عليه سلطة الحكم الذاتي بعد توقيع اتفاق أوسلو. والحقيقة، أن حكماً ذاتياً محدوداً لمناطق الكثافة السكانية في الضفة الغربية هو كل ما يمكن للإسرائيليين أن يعطوه للسلطة الفلسطينية، بغض النظر عن التوجه السياسي للحكومة الإسرائيلية. وصول مسار أوسلو إلى نهايته لم يحدث في عهد نتنياهو أو الليكود، بل في عهد باراك وحزب العمل. وعباس، الذي طالما ردد الإسرائيليون ثقتهم في نواياه السلمية عندما كان عرفات رئيساً للسلطة، لم يتول الرئاسة الفلسطينية بعد الانقسام بين غزة ورام الله، بل منذ وفاة عرفات المريبة. ولم يزدد وضع سلطة الحكم الذاتي في عهد عباس إلا سوءاً. مسار أوسلو انتهى، وحل الدولتين لم يعد سوى سراب، وتصور أن المصالحة الفلسطينية ستأتي بدولة فلسطينية، ليس إلا تمريناً جديداً في السراب.

بيد أن هناك ما هو أفدح في الافتراضات المؤسسة لجهود المصالحة. أثقل هذه الافتراضات فداحة، تلك التي تغفل حجم الافتراق في الساحة السياسية الفلسطينية. دور فتح في إعادة بناء الهوية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية، هو أمر لا يمكن لمؤرخ أن يتجاهله. كانت النكبة قد أطاحت بالجماعة الوطنية الفلسطينية وفرضت عليها شتاتاً جغرافياً واسع النطاق؛ فاقم منه فقدان الثروة والمقدرات ومصادر الرزق، وانقسام سياسي وإيديولوجي متزايد. بارتكازها إلى الهوية الوطنية، وتبنيها الكفاح المسلح، قفزت فتح فوق الشتات الجغرافي والانقسام الإيديولوجي. وليس ثمة شك أن مؤهلاتها تلك جعلتها في موضع أفضل من منافسيها عندما وسعت هزيمة 1967 من الهامش المتاح أمام الحراك الوطني الفلسطيني. وسرعان ما استطاعت الحركة، التي ولدت في معسكرات اللجوء على يد حفنة من جيل الخمسينات من خريجي الجامعات العربية، أن تقود الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وتعيد بناء وحدة الشعب وتحدد أهدافه.

بيد أن فتح ما بعد اتفاق أوسلو ليست فتح الستينات والسبعينات. ليس هذا بالتأكيد مجال قراءة التراجعات التراكمية التي أثقلت كاهل فتح وأفقدتها موقع قيادة الإجماع الوطني، من برنامج النقاط العشر إلى توقيع اتفاق أوسلو. ولكن هناك ما هو أسوأ؛ فباعتبارها حزب سلطة الحكم الذاتي، لم تستطع فتح أن تتحرر من الخراب الذي أحدثته السلطة في المجتمع الفلسطيني، ومن التراجعات التي حملها برنامج السلطة ومنظمة التحرير للتسوية. وعندما أخذت الانتفاضة الثانية في إحداث آثارها العميقة في جسم السلطة والقيادة الفلسطينية، وفي سلم أولويات سلطة الحكم الذاتي وتحالفاتها، لم تستطع فتح حتى الحفاظ على وضعها حزباً للسلطة. في النهاية، فقدت فتح موقعها في قيادة الحركة الوطنية والإجماع الوطني، وفقدت تأثيرها على جسم سلطة الحكم الذاتي وتوجهاتها. فتح اليوم هي أشبه بشبح صغير للحركة التي قادت حركة التحرر الوطني منذ منتصف الستينات وأعادت بناء الهوية الوطنية، وشاهد زور على سلطة الحكم الذاتي، السلطة التي يفترض أن تكون قد ولدت من رحمها وأن تخضع لقيادتها.

في طورها الأخير، لم تعد سلطة الحكم الذاتي تعبيراً عن الحركة الوطنية الفلسطينية، لا في صيغتها الفتحاوية الوسيطة، صيغة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا في صيغتها الحمساوية. مشكلة السلطة في رام الله ليست بالضرورة مع حماس، بل أصلاً، وبغض النظر عن التدافع في الساحة السياسية الفلسطينية، مع فكرة نضال الشعب، أي شعب، من أجل التحرر والاستقلال. الخطيئة الأولى، بالطبع، كانت في تحول مشروع التحرر الوطني، قبل إنجاز ولو جزء ملموس من أهدافه، إلى سلطة وحكم وطبقة حاكمة. ولكن التدهور استمر باطراد بعد ذلك، عندما أصبحت السلطة أسيرة المساعدات الغربية، من ناحية، وتدفق الموارد من القناة الإسرائيلية، من ناحية أخرى. وشيئاً فشيئاً، تعاظم ارتباط السلطة الأمني بالأمن الإسرائيلي، مصلحة وقناعة وشرطاً للوجود. خطط وسلطة الجنرال دايتون لم تعد سراً بالتأكيد؛ ولكن المشكلة ليست في دايتون، المشكلة أن بقاء السلطة وطبقتها الحاكمة لم يعد يستند إلى شرعية تعبيرها عن الحركة الوطنية الفلسطينية وأهدافها، بل إلى الرضا والاطمئنان الإسرائيليين، وفي شكل منفصل عن التقدم أو التعثر في مسار التسوية والمفاوضات.

بكلمة أخرى، لم يعد هناك ثمة ما يجمع بين رام الله وغزة ليؤسس لمصالحة وطنية فلسطينية. وربما حتى استخدام 'وطنية' هنا ليس في موضعه الصحيح.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث