خبر الديمقراطية الفلسطينية مؤجلة إلى إشعار آخر .. نقولا ناصر

الساعة 12:39 م|20 يونيو 2010

بقلم: نقولا ناصر

بالرغم من الدعوات المتكررة إلى عدم إجراء الانتخابات المحلية الفلسطينية في ظل الانقسام السياسي والانفصال الإقليمي وما تمخض عنهما من نتائج سلبية ملموسة على الحريات العامة، المحدودة أصلاً في ظل الاحتلال، كررت الرئاسة الفلسطينية ومنظمة التحرير وحكومة سلطة الحكم الذاتي في رام الله والفصائل المؤتلفة في إطارها، وبخاصة حركة فتح، الإصرار على إجرائها باعتبارها استحقاقاً دستورياً ومطلباً سياسياً وحاجة خدمية، كما قالوا جميعهم، لا علاقة لها بالتوافق الوطني والمصالحة السياسية .

 

لكن بعد ثلاثة أيام فقط من بيان رسمي أصدرته حكومة د . سلام فياض بعد اجتماعها الأسبوعي برام الله في السابع من الشهر الجاري كرر التأكيد على إجراء هذه الانتخابات في موعدها المقرر في السابع عشر من الشهر المقبل، قررت هذه الحكومة نفسها بناء على مرسوم رئاسي تأجيلها إلى إشعار آخر غير مسمى، بينما رفض د . غسان الخطيب رئيس المركز الإعلامي الحكومي الحديث عن أسباب هذا الانقلاب المفاجئ في الموقف، في تخبط أصبح مألوفاً في القرار السياسي لمنظمة التحرير وحكومتها يقدم مثالاً جديداً على أن الديمقراطية الفلسطينية سابقة لأوانها في ظل الاحتلال، وأنها سوف تظل مؤجلة إلى إشعار آخر طالما ظل الاحتلال قائماً .

 

وكما في العراق كذلك في فلسطين، وفي تزامن لافت للنظر، رفعت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج دبليو . بوش شعار “الديمقراطية” مدخلا يسوغ تغيير الأنظمة السياسية بالقوة القاهرة، لكي تستخدم الشعار والنظام الجديد معاً آليتين في خدمة الاحتلال، لإطالة عمره وتجميل صورته .

 

وفي فلسطين بخاصة، كان تغييب المؤسسات التمثيلية للشعب الفلسطيني شرطاً مسبقاً أساسياً لتمرير اتفاقيات أوسلو، وطبقاً لهذه الاتفاقيات تم النص على إجراء انتخابات تنبثق عنها مؤسسات تكون مرجعيتها هذه الاتفاقيات نفسها، وليس منظمة التحرير الفلسطينية أو ميثاقها، لا بل جرت محاولة تغيير ميثاق المنظمة لينسجم مع هذه الاتفاقيات، لتتحول هذه الانتخابات والاتفاقيات نفسها إلى مصدر لشرعية القيادات الفلسطينية، بدل “الشرعية الثورية” لمنظمة التحرير المفترض أنها مستمدة من “التحرير” والمقاومة .

 

ومن الواضح أن هذه “الديمقراطية الانتخابية” لا علاقة لها بأي نظام ديمقراطي أو بالديمقراطية كطريقة حياة، بل هي مجرد آلية من آليات إضفاء شرعية على الوضع الفلسطيني الشاذ الذي انبثق عن اتفاقيات أوسلو، وعلى رموزه وقياداته، غير أن المفارقة أن المهندسين الأمريكيين لهذه الديمقراطية الشكلية “الانتخابية” سرعان ما كانوا ينقلبون عليها، هم ووكيلهم الإقليمي “الإسرائيلي”، عندما لا تعود تخدم مصالحهم .

 

وربما لا يعرف الجيل الجديد من الفلسطينيين، على سبيل المثال، ما انتهت إليه أول انتخابات محلية جرت في ظل الاحتلال عام ،1976 عندما كان مصير القادة المنتخبين فيها إما الشهادة أو الإعاقة أو الاعتقال . لكن هذا الجيل ما زال يعيش مع تجربة المجالس البلدية التي تمخضت عنها الانتخابات المحلية الثانية التي جرت لأول مرة بعد حوالي ثلاثين سنة عام ،2005 فتحت ضغوط الدول المانحة الراعية لهذه “اللعبة الانتخابية” والتي لا تريد وصول أموالها إلى مجالس بلدية غير مرغوب فيها سياسياً، تم حل بعضها بذرائع مختلفة، واعتقلت دولة الاحتلال “الإسرائيلي” وسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الكثير من أعضائها المنتخبين “لأسباب أمنية” .

 

لكن الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت أوائل عام 2006 يظل المثال الصارخ الأوضح على الانفصام بين أي انتخابات فلسطينية، وبين الديمقراطية كنص ومؤسسات وروح وطريقة حياة، ففي الأحوال الديمقراطية العادية المعروفة لا يستخدم الحصار العسكري والاقتصادي والاستقواء بالأجنبي لمنع تبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع، كما حدث بالضبط في تلك الانتخابات التي جرت على كل حال متأخرة عن استحقاقها ست سنوات، في تجاهل لكل القيم الديمقراطية وبذرائع شتى، ومثلها الانتخابات الرئاسية، علماً بأن الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأولى بعد اتفاق أوسلو في سنة 1996 جرت على أساس الإقصاء السياسي للمعارضين لأوسلو واتفاقياتها، أو على أساس مقاطعتهم لها، بحيث كانت انتخابات للون السياسي الواحد كانت نتائجها محسومة ومعروفة سلفاً في ظل غياب أي منافسة حقيقية فيها .

 

ويبدو أن التاريخ الأمريكي مع الرئاسة الفلسطينية والديمقراطية يكرر نفسه في عهد إدارة باراك أوباما . فالانتخابات تجري إذا أفرزت من يتساوقون مع الخطط الأمريكية  “الإسرائيلية”، أو لتستمر حالة الطوارئ وتعيين الحكومات والمجالس البلدية، لأن حركة فتح ليست مستعدة بعد للفوز في الانتخابات، وهذا السبب هو الذي يكاد يجمع عليه المراقبون والمحللون ووسائل الإعلام لتأجيل الانتخابات المحلية الفلسطينية، مع أن السبب الذي تكرر الرئاسة وحكومتها وفتح ذكره هو ضغوط عربية وغير عربية من أجل تأجيلها لتسهيل عملية المصالحة الفلسطينية .

 

ويلفت النظر هنا أن هناك “شماعة عربية” أصبحت متوفرة باستمرار لتعليق كل ما يخالف إجماعاً أو شبه إجماع فلسطيني عليها، فقد استخدمت هذه الشماعة للذهاب إلى المباحثات غير المباشرة حول استئناف المفاوضات المباشرة، والمفارقة الآن أنها لا تستخدم ضد حماس، بل ضد قرار للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بإجراء انتخابات محلية وضد إجماع الفصائل المؤتلفة في إطار المنظمة على رفض تأجيلها . ومما له دلالته أن عباس لم يهاتف رئيس حكومته فياض لتأجيل هذه الانتخابات من دمشق أو أنقرة مثلاً حيث كان فيهما مؤخراً لإعطاء مصداقية للادعاء بأن التأجيل كان فعلاً استجابة لهذه الضغوط، بل هاتفها من واشنطن مما يعزز الشكوك بأن التأجيل كان تساوقاً مع أجندة أمريكية لا عربية .

 

غير أن القرار الذي اتخذته حكومة تصريف الأعمال برئاسة د . سلام فياض في رام الله في الثامن من فبراير/ شباط الماضي بإجراء انتخابات بلدية ومحلية في السابع عشر من يوليو/ تموز المقبل، ثم القرار الذي اتخذته الحكومة نفسها الأسبوع الماضي بتأجيلها إلى أجل غير مسمى، هما أحدث نموذج لتخبط القرار السياسي الفلسطيني، فمن الناحيتين السياسية والدستورية أخطأ صاحب القرار في المرتين.