خبر حتى الدولة العظمى تمارس سياسة عبثية ..بلال الحسن

الساعة 07:12 ص|30 مايو 2010

حتى الدولة العظمى تمارس سياسة عبثية ..بلال الحسن

 

تبدو السياسة في المنطقة العربية كقضية عبثية، فلا هي تتقدم إلى الأمام، ولا هي مسموح لها أن تتوقف. والغريب أن الكبار يتصرفون في السياسة تماماً كما يتصرف الصغار، فالدولة العظمى تقول وتقرر ولكن كلامها لا ينفذ، كما أن قراراتها تضيع هباء في الهواء. وأبرز مثال على ذلك هو جورج ميتشل المسمى كمندوب أميركي خاص، يتولى معالجة أدق القضايا السياسية وأكثرها حساسية في المنطقة، وهي قضية الصراع العربي الإسرائيلي.

 

يأتي ميتشل إلى المنطقة بوجه بارد، وبلسان عاجز عن الإدلاء بالتصريحات، يلتقي المسؤولين، فيبتسم، ويصافح، ثم يمضي في حال سبيله، وكأنه لم يحضر، ولم يبحث، ولم يجتمع. وحين ندقق في أفعاله، نستطيع أن نستنتج أنه فشل، فهو يلتقي نتنياهو رئيس وزراء "إسرائيل"، طالباً منه أمورا إجرائية ليست سياسية وليست استراتيجية، ثم نقرأ أن نتنياهو سيتوجه إلى الولايات المتحدة ليلتقي رئيس ميتشل، باراك أوباما، فهل يستطيع الرئيس أن ينجح في ما فشل فيه مندوبه؟ حتى نبيل شعث عضو اللجنة التنفيذية في حركة فتح بالضفة الغربية يعجز عن إبداء التفاؤل، فهو يقول: أوباما يضغط على نتنياهو ثم يقدم له الترضيات.

 

وحين يذهب نتنياهو إلى واشنطن، يتوقع المراقبون أن تحدث أشياء. حسناً.. ما هي هذه الأشياء؟ أولاً سيتم الإعلان عن موعد زيارته إلى البيت الأبيض. وسيتم أيضاً تصوير الزيارة. وسيتم أخيراً، ربما، صدور بيان علني بما جرى خلال الزيارة. وربما ينعقد أيضاً مؤتمر صحافي مشترك. ولكن لا أحد يجرؤ على التنبؤ بما سيقال في البيان العلني أو في المؤتمر الصحافي. فكل هذه الإجراءات ليست مطلوبة لمضمونها، إنما هي مطلوبة لإرضاء نتنياهو، وللقيام بكل ما شكا من عدم قيامه في زيارته السابقة إلى البيت الأبيض، حيث أدخل سراً، ولم تلتقط له الصور، ولم يصدر عن اللقاء أي بيان، واعتبر كل ذلك تعبيراً عن ذروة الخلاف بين أوباما ونتنياهو. وحين يتم تلافي كل تلك النقاط، فهل سيتم هذه المرة التعبير عن ذروة الاتفاق بين الرجلين؟ سيكون نتنياهو راضياً دون شك، ولكن هذا الاتفاق الأميركي - الإسرائيلي يأتي هشاً وخالياً من المضمون. فهل يعقل أن رئيس الدولة العظمى يعقد لقاءات مع رؤساء الدول تأتي كلها خالية من المضمون؟ يعبر هذا التساؤل عن أمرين: هشاشة السياسة الأميركية تجاه القضايا العربية، وصلافة السياسة الإسرائيلية تجاه القضايا نفسها، ثم يطلب من الفلسطينيين والعرب بعد ذلك أن يكونوا متفهمين ومتعاونين وإيجابيين، تجاه «اللاشيء» الأميركي، أو تجاه العدوانية الإسرائيلية المفرطة.

 

لقد قامت "إسرائيل" خلال عام بست مناورات عسكرية كبرى، ثم يراد من العرب بعدها أن يثقوا بأن الجيش الإسرائيلي لا يعد للحرب، أو أن يثقوا بأن "إسرائيل" جادة في موضوع المفاوضات.

 

وإلى جانب المناورات العسكرية الكبرى، تمارس "إسرائيل" سلسلة من السياسات الشديدة الخطورة، فهي لا ترى كل ما تفعله ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث الحواجز، ومنع التنقل، ومنع نقل بضائع الحياة اليومية (الخضراوات مثلاً)، والاعتقالات المتصلة للمواطنين، والقمع العنيف للمتظاهرين ضد الاستيطان داخل القدس وحولها. إنها تعتبر كل ذلك أمراً طبيعياً، ولكنها تغضب وتهدد لأن الفلسطينيين دعوا إلى مقاطعة البضائع التي تنتجها المستوطنات، وتقول إن من شأن هذا الموقف الفلسطيني أن يهدد المفاوضات، ثم تبادر إلى وقف أموال الضرائب عقاباً على مقاطعة لبضائع أنتجت فوق أراض فلسطينية تم الاستيلاء عليها.

 

وليس هذا سوى جانب واحد فقط، إذ هناك جانب أكثر حساسية يتمثل بسلسلة القوانين التي أصبح الكنيست الإسرائيلي مسرحاً لها: قانون شاليط الذي يعاقب الأسرى الفلسطينيين ويتشدد في معاملتهم، رداً على أسر جندي إسرائيلي. وتريد "إسرائيل" أن تقول للعالم إن أسر جندي إسرائيلي أمر خطير جداً، ولكن أسر عشرة آلاف فلسطيني أمر طبيعي وعادي.

 

ثم هناك الجانب الآخر من التعامل مع فلسطينيي 1948؛ أولئك الفلسطينيون المقيمون فوق أرض وطنهم الأصلي، الذي استولت عليه الحركة الصهيونية وأطلقت عليه اسم "إسرائيل". لقد بدأ التعامل مع هؤلاء الفلسطينيين يتخذ منحى خطيراً، ففي أجهزة الأمن الإسرائيلية الآن، يتم تحضير اتهامات ضد بعض القادة الناشطين والمحركين للجمهور الفلسطيني (الدكتور عمر سعيد وأمير مخول)، من أجل اتهامهم بالتجسس والخيانة، على قاعدة الاتصال بالعرب «الأعداء» أو الذهاب إلى بلد عربي «عدو». وبالمقابل هناك مشاريع قوانين معروضة أمام الكنيست من أجل تشريع الحق في نزع الجنسية الإسرائيلية (حتى الجنسية الإسرائيلية) عن هؤلاء القادة. ونزع الجنسية يعني طبعاً التمهيد لطردهم خارج أرض وطنهم، وتعود الناس على هذا الطرد، تمهيداً للبدء في سياسة الطرد الجماعي التي يخطط لها الإسرائيليون منذ زمن، لتأكيد إعلان "إسرائيل" دولة يهودية.

 

كل هذه الإجراءات تجري على أرض الواقع، ولكن سعادة المندوب ميتشل لا يبحث فيها. وفخامة الرئيس أوباما لا يبحث فيها. هما مشغولان فقط بنقطة واحدة وحيدة: كيف يمكن الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة؟ وهل نتنياهو مستعد لمواصلة تجميد الاستيطان، ولو من دون إعلان؟ عند هذه القضايا تتوقف السياسة الأميركية، ثم تغمض عينيها عن كل ما جرى ويجري على الأرض. فماذا نسمي ذلك؟

 

واللافت للنظر أن أول من يستخف بهذه المطالب الأميركية، أو بهذه الخطة الأميركية لإدارة التفاوض، هو نتنياهو نفسه. إنه يقول ويعلن أن موضوع المفاوضات الرئيسي مع الفلسطينيين هو المياه والأمن، وأن شرط البدء بالمفاوضات هو أن يعلن الفلسطينيون اعترافهم بيهودية دولة "إسرائيل"، ومع ذلك فإن الإدارة الأميركية تتجاهل كل هذا، وهي تنتظر، ربما، زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الشهر المقبل، لكي تسأله، وهو المغلوب على أمره، أن يوافق على هذه المطالب، أو إن كان لديه تصور استراتيجي آخر لمشكلة الدولة العظمى مع حليفها المشاكس.

 

تبدو الولايات المتحدة هنا وكأنها مغلوبة على أمرها، فهي تقف أمام مفاوض فلسطيني تنازل حتى أصبح عاجزاً عن المزيد من التنازل، وأمام مفاوض إسرائيلي يعتبر «الهو تسبا» (الوقاحة) في الطلب مبدأ أساسياً في الدبلوماسية الإسرائيلية.

 

ويتقدم بعض المحللين ليقولوا: لقد انتصر نتنياهو على أوباما. ولكنهم ينسون الحقيقة المرة، وهي أن الإدارة الأميركية لا تريد بالفعل إلا ما يريده نتنياهو. صحيح أن نتنياهو يتصرف كالولد العاق، ولكن الأب يربت على ظهر ابنه في النهاية، ويطبع على رأسه قبلة.

 

إنها سياسة أميركية مشلولة، وهي مشلولة بقرار سياسي. ويقابل ذلك إرادة عربية مشلولة أيضاً، يطربها أن تكرر الجملة التقليدية: إن السلام خيار استراتيجي. إلا أن السلام لم يكن قط في التاريخ كله، خياراً استراتيجياً من طرف واحد.