خبر دراسة : محاربة القوات الثورية: النظرية وراء التطبيق*

الساعة 07:52 م|06 مايو 2010

دراسة : محاربة القوات الثورية: النظرية وراء التطبيق*

بقلم: د. تال طوبي**

          الجيش والاستراتيجية – المجلد 1 – العدد 3 – كانون الاول 2009 .

** محاضر في التاريخ العسكري في قسم التاريخ العام في جامعة بار ايلان

تواجه دولة اسرائيل طوال سني وجودها الـ 60 حركات عصابات/ارهاب على نحو متصل. أصبح من المقبول بعد الحرب العالمية الثانية تعريف هذه الظاهرة باسم الحرب الثورية أو التمرد. والقصد الى حركة سياسية – ثورية تجعل هدفها احراز السلطة بوسائل عنيفة وبتسييس السكان المحليين. ليست هذه حرب عصابات او ارهاب بالمعاني التقليدية، لكنها حرب تستعمل في بدء طريقها تكتيكات حرب العصابات (القروية او المدنية) بل تستعمل الارهاب مع محاولة اقناع السكان المحليين بعدل طريقة المشاركين فيها.

        كانت الحرب الأهلية الصينية بين قوى الحزب الشيوعي وقوى الوطنيين هي المثل التقليدي للحرب الثورية. في البدء حارب جنود ماو تسي تونغ بتكتيكات حرب عصابات في مواجهة قوة الجيش الحاكم المتفوقة لكن مع تقوي الشيوعيين أنشىء جيش أكبر ذو وحدات في نطاق ألوية وفرة، أفضت الى هزيمة عامة لقوات الحكومة. "الحرب الثورية" هي حرب أهلية أيضا لكنها ليست حربا بين أمتين. بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت دول أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أنفسها في أحيان قريبة مشاركة الى جانب هذه القوة او تلك في أماكن مختلفة في العالم. يزعم البحث أن "الحروب الثورية" بعد الحرب العالمية الثانية كانت التعبير الساخن عن الحرب الباردة: فالقوتان العظمييان – الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي – لم تكونا قادرتين على أن يحارب بعضهما بعضا ولا سيما بسبب ترساناتهما النووية العظيمة؛ ولهذا حاربتا حروبا "باستعمال مندوب". وهكذا يمكن أن نميز اليوم أيضا المواجهات العسكرية في افغانستان والعراق على أنها حروب ثورية. فبإزاء قوات الولايات المتحدة وحليفاتها المختلفات تقوم قوات ثورية شبه عسكرية تستعمل مبادىء تشبه المبادىء التي صاغها ماو تسي تونغ في الثلاثينيات في أثناء الحرب الاهلية الصينية.

        خلافا للحروب التقليدية التي طورت اسرائيل من أجلها نظريات ومبادىء عسكرية لا توجد للمواجهة المشتقة من نشاط العصابات والارهاب نظرية عسكرية. يزعم شلومو غزيت ان الجيش الاسرائيلي استعان بعد حرب الايام الستة بتجربة ودروس جيوش أجنبية في مواجهته للارهاب الفلسطيني في المناطق. لكنه لا يفصل. هدف هذه المقالة الفحص عن نشوء النظرية العسكرية في سياق محاربة التمردات، مع تأكيد الفكرين البريطاني والأمريكي، والاشارة الى حقيقة أنه يمكن أن نجد نظرية عسكرية في مواجهة القوات الثورية. وذلك على نحو يشبه أساليب حرب أخرى ذات نظريات عسكرية راسخة.

        من أجل فهم نظريات محاربة التمرد ينبغي ان نفهم في البدء النظرية العسكرية التي ابتدعها ماو تسي تونغ في أواخر الثلاثينيات. أثرت هذه النظرية كثيرا في حركات العصابات في أنحاء العالم الثالث وفي ضمنها "فتح" أيضا. يمكن أن نقول على نحو تبسيطي ان ماو يؤكد أهمية السكان المدنيين في النضال وأن حرب العصابات وسيلة فقط. الطريق الى احراز نصر، في رأي ماو تكون بتوسيع قاعدة التأييد البشري والمناطقي في حين تصبح قوات العصابات في مقابلة ذلك جيشا نظاميا. النضال سياسي لا عسكري. أي أن القوة العسكرية وسيلة واحدة فقط في جملة وسائل لاحراز الهدف الاعلى السياسي. هدف القوة العسكرية هو حماية الانجازات وأن تكون وكيلا سياسيا بين السكان المحليين.

        يمكن أن نقول ان فكر ماو العسكري يعتمد على مبدأ أساسي مركزي واحد هو الحرب المتصلة. لهذا المبدأ ثلاثة مبادىء ثانوية سياسية وعسكرية متآلفة ويؤثر بعضها في بعض. المبدأ الاول هو احراز تأييد السكان القرويين. والمبدأ الثاني هو انشاء مناطق قاعدة والثالث بناء قوات عسكرية نظامية تحرز النصر النهائي لكن ذلك يكون فقط اذا أحرز المبدآن الأولان.

        أي انه يمكن أن نزعم في هذه المرحلة ان محاربة منظمة تعمل بحسب مبادىء ماو لا يمكن ان تنحصر فقط في القوة العسكرية المكشوفة للمنظمة بل في جوانبها السياسية والاجتماعية. وعلى ذلك يخطىء الذين يقولون ان المس بقوة المنظمة العسكرية سيفضي الى نهايتها سياسيا.

        الفكر البريطاني

        بعد الحرب العالمية الثانية واجهت بريطانيا ثورة شيوعية واسعة في الملايو. بدأت هذه الهبة في 1948 واستمرت حتى القضاء عليها في 1960. بعد انتهاء الحرب ببضع سنين كتب السير روبرت تومسون أحد أهم الاشخاص في قمع التمرد الشيوعي، تجربته ودروسه في كتاب هزيمة التمرد الشيوعي: دروس الملايو وفيتنام (1966). في هذا الكتاب الذي يمكن أن نقابل به فكر ماو العسكري، حدد تومسون خمسة مبادىء لادارة ناجحة لمحاربة تمرد. هذا الكتاب في واقع الأمر يجعل تومسون يقوم على أنه واحد من أهم المفكرين في النصف الثاني من القرن العشرين. وذلك لأن نظريته العسكرية نبعت من تجربة عملية وأثرت في ادارة محاربة التمرد في السنين التي تلت ذلك. وذلك في مقابلة المفكرين في مجال الحرب الذرية الذين بقي فكرهم نظريا خالصا. والى ذلك ما تزال مبادئه كما سنرى ذات صلة اليوم أيضا.

        يقول تومسون ان المبدأ الأول هو بناء جهاز سياسي اقتصادي واجتماعي يضاد العقيدة الشيوعية. ينبغي ان نتذكر أن الشيوعية في شرقي آسيا نشأت في دول وجدت فيها أزمات سياسية واقتصادية وأن الشيوعية قدمت بديلا عقائديا يفضي الى تحسن اقتصادي واجتماعي والى التحرر من نير الاستعمار الغربي ايضا. وعلى ذلك ينبغي عرض جهاز سياسي يبني آخر الأمر دولة ديمقراطية، مستقرة من جهة سياسية واقتصادية. والمبدأ الثاني هو آلية العمل لاحراز المبدأ الأول. يجب على الدولة أن تنفذ مسيرة الدقرطة في نطاق قوانين الدولة ومحاولة الامتناع من استعمال افعال قاسية موجهة الى السكان المحليين. ويزيد تومسون ويقول ان محاربة محاربي العصابات يجب أن تتم ايضا في نطاق قانون الدولة التي تجري المواجهة فيها.

        المبدأ الثالث هو العمل على حسب خطة محددة سلفا توجه عمل جميع الجهات العسكرية والمدنية ذات الصلة. يقرر هذا المبدأ أنه ينبغي احداث توازن بين الجهد العسكري والجهد المدني وتنسيق جميع الجهات العاملة للقضاء على التمرد. يؤكد تومسون بهذا المبدأ التوتر الطبيعي القائم بين الأعمال العسكرية التي يمكن رؤية تأثيرها وتقديرها من الفور (محاربو العصابات الذين قتلوا او الاسلحة التي استولى عليها الجيش) وبين الاعمال المدنية التي يمكن تقدير تأثيرها فقط في الأمد البعيد. يحذر تومسون في واقع الأمر من حصر العناية والركون الى الأعمال العسكرية ويقضي بأنه ينبغي منح الأعمال المدنية وزنا مساويا. كذلك يزيد تومسون أنه ينبغي احداث التوازن بحسب الواقع في الميدان وأن الوزن يميل أحيانا نحو النشاط العسكري وأحيانا نحو النشاط المدني. على أية حال يجب أن تكمل صورتا العمل بعضهما بعضا ويجب أن يؤيد النشاط العسكري بالنشاط المدني والعكس.

        يرى ماو أن الحرب الثورية هي سياسية في صورتها بحيث ان النشاط العسكري أحد مشتقاتها. كذلك يؤكد تومسون هذه الحقيقة ويزعم في مبدئه الرابع أن "على الحكومة أن تقرر اعطاء أفضلية لهزيمة التمرد السياسي لا لهزيمة محاربي العصابات". يجب أن يأتي هذا النشاط مع عزل محاربي العصابات عن السكان. يؤكد هذا المبدأ في واقع الأمر في أبرز صورة أن نظرية ماو فهمت كما ينبغي. زعم ماو أن العصابة لا تستطيع العمل بغير تأييد السكان المحليين. وعلى ذلك يقرر تومسون أن طريقة الانتصار على العصابة هي فصم العلاقة بين العصابة والسكان المحليين. على حسب ما يرى ناغل هذا هو التوجه غير المباشر لمحاربة التمرد في حين أن التوجه المباشر هو النشاط العسكري الموجه الى محاربي العصابة. بعد قطع محاربي العصابة وعزلهم فقط يكون من الممكن القضاء عليهم.

        يعرض المبدأ الخامس أيضا تصورا أتى لينقض واحدا من أهم مبادىء ماو – وهو مبدأ مناطق القاعدة. يزعم تومسون أن على الحكومة التي تحارب التمرد أن تحمي مناطق قاعدتها من الاستيلاء التدريجي للعصابة الثورية عليها. في مقابلة عملية الحماية يجب على الحكومة ان توسع قواعد سيطرتها حتى السيطرة على الدولة كلها. بهذه العملية توسع الحكومة قاعدة تأييدها بين السكان المحليين مع تقليص تدريجي لمناطق قاعدة العصابة. ينبغي أن نذكر أنه يوجد في هذه العملية أهمية للنشاط المدني وأن مهمة الجيش هي الدفاع عن مناطق القاعدة، وذلك على نحو يشبه عمل الجيش في نظرية ماو تسي تونغ. ويكون نشاط قوات جيش الحكومية الهجومي في المناطق التي لم يحرز فيها بعد سيطرة الحكومة. وكصيغة تنقيحية لما قال ماو يمكن أن نقول ان وحدات الجيش التي تعمل في المناطق التي لم يحرز فيها بعد سيطرة يجب أن تكون قوات تعمل بحسب مبادىء العصابة. بعبارة أخرى القوات الخاصة. لكن كما كان لمحاربي العصابات عند ماو مهمات سياسية – مدنية يجب ان تعمل القوات الخاصة ايضا في المجال المدني. هكذا عملت القوات الخاصة الامريكية – القبعات الخضراء – في بدء التدخل الامريكي في فيتنام.

        يمكن أن نرى من تحليل النظام البريطاني للتمرد الشيوعي في الملايو أن البريطانيين أدركوا بالتعاون مع حكومة الملايو أن أجدى طريقة للقضاء على التمرد ستكون فصم العلاقة بين العصابة وبين السكان المحليين. وذلك بالتوازي مع استمرار النشاط العسكري الكلاسيكي. يمكن أن نستنتج من قراءة كتاب  تومسون أن صاغة السياسة والخطط البريطانية في الملايو فهموا تصور الحرب عند ماو وأنشأوا نظرية عسكرية ترمي الى تثبيط مبادىء ماو الأساسية. فمثلا جرى توكيد النشاط المدني أكثر من العسكري ومنع فصم العلاقة بين المحاربين والمدنيين، العصابة الشيوعية الملاوية من التقدم بحسب نظرية ماو. كذلك تم البرهان على حقيقة كون الحرب متصلة وذلك لان البريطانيين أدركوا أن الصراع السياسي وفصم العلاقة مساران طويلان وأنه لن يمكن أن تلحظ نتائجهما من الفور بل في الأمد البعيد فقط. استعملت نظرية محاربة التمرد من فور نشوب تمرد الماو ماو في كينيا (1952) ورد بريطانيا السريع باستعمال نظرية محاربة التمرد كان أحد الأسباب الرئيسة للقضاء على التمرد في كينيا.

        الفكر الامريكي

        تأثر الفكر العسكري الامريكي في سياق محاربة التمرد كثيرا بالتجربة البريطانية في الملايا. سيقوم الفحص عن النظريات الامريكية على امتحان وتحليل وثائق "الادارة المدنية" الامريكية التي عملت في فيتنام الجنوبية. كان هذا هو الاطار الأعلى الذي نظم وركز جميع أعمال الوكالات المدنية التي عملت في فيتنام الجنوبية تحت قيادة المساعدة العسكرية في فيتنام. أنشئت الادارة المدنية الامريكية في آيار 1967 وحلت محل مكتب العمليات المدنية. كان مديرها الأول روبرت كومر، الذي عمل مستشارا خاصا للرئيس لندون جونسون في كل ما يتعلق بخطط المحيط الهادىء. في تشرين الثاني 1968 عين للمنصب وليام كولبي الذي كان قبل ذلك رئيس وكالة الاستخبارات المركزية في فيتنام. عملت الادارة المدنية حتى اجلاء قوات جيش الولايات المتحدة عن فيتنام في نهاية شباط 1973.

        البحث في الولايات المتحدة لسبل محاربة العصابات منذ النصف الثاني من الخمسينيات، وجد في اطار نظرية أوسع تناولت البحث الاكاديمي عن جوهر الحرب المحدودة. في هذا الاطار شملت النظريات عن محاربة التمرد على أنها فئة ثانوية. كان الباعث الرئيس على هذا البحث الحرب الكورية. كان ابرز بحث هو بحث روبرت اوزغود، الذي زعم أنه يوجد في الحرب المحدودة للمستوى المدني نصيب حاسم في حسم الحرب. وذلك لأن المستوى السياسي له تأثير أكبر في ادارة الحرب وتحديد الأهداف الاستراتيجية. اذا كان المستوى السياسي قبل كوريا قد حدد الأهداف السياسية العامة للحرب ولم يتدخل تقريبا في التقديرات العسكرية – الاستراتيجية فقد بدأ المستوى السياسي بعد الحرب العالمية الثانية يتدخل في التقديرات العسكرية ايضا. حدد الرئيس ترومان الحرب، في الحرب الكورية ورفض أن يسمح للقوات الأمريكية باصابة أهداف داخل الصين كي لا يصعد الحرب، وذلك برغم أنه كان واضحا من جهة عسكرية المنطق العملياتي في قصف أهداف في الصين ساعدت الجهود العسكرية للقوات الصينية في كوريا.

        القدرة والقوة السياسيتان هما المهمتان في هذا النوع من الحرب لا الموارد العسكرية للأمة المحاربة. كذلك أهداف الحرب هي سياسية – مدنية لا عسكرية ولا يوجد أي معنى لتحطيم قوة العدو من جهة عسكرية. وذلك خلافا للحرب العالمية الثانية التي كان فيها احراز الأهداف السياسية، أي هزيمة المانيا وايطاليا واليابان متعلقا تعلقا مطلقا بنشاط عسكري واسع النطاق. أفضى رأي اوزغود هذا به الى استنتاج بعيد المدى. فاذا كانت الحرب المحدودة يجب أن تتم بمساعدة أدوات سياسية فان مكان الجيش ثانوي ويجب على المستوى المدني أن يصرف الحرب. ولهذا السبب قدر المستوى المدني أن اهميته قد ازدادت في تصريف صورة الحرب الجديدة أي الحرب المحدودة.

        قبل أداء كندي اليمين الدستورية نشرت وزارة الدفاع الامريكية بحثين عن الوسائل المطلوبة للقضاء على التمرد الشيوعي في جنوب شرقي آسيا. التوجه الرئيس لهذين البحثين، وهو توجه سيبرز أيضا في الأبحاث التي أتت بعدهما، هو أن مفتاح نجاح محاربة التمرد هو السيطرة على السكان المحليين.

        البحث الأول، الذي نشر في آيار 1960، شكل استنتاجات نقاش في المستويين العسكري والسياسي الرفيعين للولايات المتحدة في أساليب مكافحة التمرد في لاوس وفي فيتنام الجنوبية. يرى كتاب البحث أن السكان المحليين يبدون اهتماما ضئيلا اذا أبدوا اصلا بالأحداث السياسية في الدول المتحدث عنها وأنهم لا يدركون البتة جوهر العقيدة الشيوعية أو معنى مصطلح القومية. لا يمكن زعم أن كتاب البحث فشلوا في فهم الأدبيات السياسية للقروي الفيتنامي. فحصت أبحاث كثيرة عن الميول السياسية للسكان القرويين والعوامل التي أدتهم الى تجنيد أنفسهم لهذا الهدف السياسي أو ذاك. قررت هذه الأبحاث على نحو حاسم أن السبب الرئيس والوحيد أحيانا قد كان الطموح الى تحسين مستوى عيش القروي وعائلته وأن القرويين يؤيدون الجانب السياسي القوي الذي يعمل في منطقتهم وذلك في قصد الى منع المس بعائلاتهم وقراهم. والى ذلك بين الشيوعيون أنفسهم للقرويين ماهية النظرية الشيوعية بمصطلحات تقليدية لصلة الشخص بالأرض كقيمة مقدسة.

        وكان البحث الثاني في واقع الأمر تقريرا لمساعد وزير الدفاع للعمليات الخاصة الجنرال ادوارد لينسديل، الذي عد خبيرا بحرب العصابات ولا سيما في ميدان شرقي آسيا وكان من أهم مستشاري كندي في هذه الشؤون، كلهم. يبين التقرير الذي حرر في آب 1960 عدة نقط حاسمة لبحث سؤال لماذا يدعم السكان القرويون الفيتكونغ. كانت النقطتان الرئيستان هما: الغضب من نشاط قوات الحكومة التي تهدم البنى التحتية الاقتصادية وتضر ايضا بالسكان المحليين والخوف من الارهاب الذي استعمله الفيتكونغ على السكان المحليين. رأى ليندسديل أن اكثر السكان المحليين ايدوا الفيتكونغ مرغمين بسبب تكتيكات ارهاب الشيوعيين.

        في مطلع 1962 نشر في مجلة "فورين افيرز" مقالة بقلم فرنكلين ليندسي، وهو باحث بارز في ظاهرة التمرد ومنظر لتطوير مبادىء محاربة التمرد. تزعم فرضية ليندسي ان مفتاح حرب العصابات هو السيطرة المطلقة لمحاربي العصابات على السكان المحليين. ولاثبات نظريته أتى بمثال تاريخي شديد الصلة باحداث 1962 وهو تحليل عوامل هزيمة الفرنسيين في الهند الصينية. خسر الفرنسيون في فيتنام من وجهة نظر ليندسي لانهم خسروا تأييد السكان المحليين. اما الفيت مين فانتصروا لانهم نجحوا في اثارة مشاعر معادية للاستعمار وفي غلغلة العقيدة الشيوعية بين القرويين.

        كان الاستنتاج الملح ان القاعدة لكل سياسة واستراتيجية لمحاربة العصابات يجب أن تكون السيطرة التامة للحكومة على ما يجري في القرى.

        بعد ذلك في المقالة يرسم ليندسي خطة العمل المطلوبة في فيتنام الجنوبية. ولما كان الفيت كونغ يفرضون سيطرتهم على القرويين بوسائل ارهاب فيجب على الحكومة أن تبني قرى محمية وان تحول عصابات مسلحة تؤلف من القرويين أنفسهم حراسة تلك القرى. يكون في كل قرية محمية كهذه ايضا مرشدون عسكريون ومدنيون ينتمون الى قوات الحكومة. يجب ان يسيطر هؤلاء المرشدون على كل ما يجري في القرية، وان يتعرفوا الكوادر الشيوعية ويحبطوا عملها. وعلى الحكومة ان تبذل موارد كثيرة في المجال المدني كبناء مدارس وعيادات وتحسين البنية التحتية الزراعية، في مقابلة تنفيذ اعمال عسكرية في مواجهة حصون الفيت كونغ. يجب جعل محاربي العصابات يظلون في حركة دائمة بغير قدرة على تثبيت سلطتهم في المناطق القروية ومنعهم من التزود بالغذاء والملاذ والعلاج الطبي والوسائل القتالية. يجب على المستشارين الامريكيين، من القوات الخاصة الذين يصلون المنطقة ان يكونوا مختصين بالعادات والثقافة المحلية، ومعرفة اللغة المحلية وما هي المشكلات الخاصة لكل قرية وقرية. اي يجب على جنود "القبعات الخضراء، ان يكونوا خبراء زيادة على حرب العصابات من وجهة النظر العسكرية، بمحاربة العصابات ايضا من الوجهة المدنية. شكل محاربو "القبعات الخضراء" رأس الحربة في جهاز المستشارين الامريكيين في فترة ادارة كندي. جرى على هؤلاء المحاربين اعداد كثيف في اساليب العمل المتعلقة بمكافحة التمرد، وهو اعداد لم يجرِ على سائر وحدات جيش الولايات المتحدة.

        في اذار 1962 عقد في واشنطن مؤتمر في موضوع "الحرب المحدودة لجيش الولايات المتحدة". وكان منظم المؤتمر هو مكتب البحث للعمليات الخاصة (soro) وهو مجموعة بحث اكاديمية – عسكرية مولها الجيش الامريكي. كان الموضوع المركزي للمؤتمر هو النظريات القتالية للجيش في  القضايا التي تتناول مكافحة التمرد والعلاقة بالواقع العسكري في فيتنام. وأي الخطط هي الاجدى للرد المناسب على حرب العصابات الشيوعية. زعم الجنرال كليد ادلمان نائب رئيس اركان الجيش الامريكي في كلامه ان الجبهة الرئيسة للحرب الباردة هي المناطق غير المتطورة، اي آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية التي تكاد تشتمل على نصف سكان العالم. من أجل منع سقوط هذه المناطق في ايدي الشيوعيين تنبغي اقامة جهاز اقتصادي واجتماعي مستقر يدرس احتياجات السكان المحليين ويساعدهم في الامد البعيد.

دور الجيش الامريكي مساعدة الجيوش المحلية في جهود نشاطها في المجال المدني. الوحدات العسكرية التي ترسلها الولايات المتحدة الى المناطق التي فيها خطر السيطرة الشيوعية يجب أن تكون مكونة من أصحاب أدوار مدنية مثل: فرق طبية، ومهندسين وخبراء في موضوعات مثل الزراعة. ويكون دورهم تطوير العلاقة بين القرى البعيدة ومراكز المناطق المدنية بمساعدة تحسين الطرق والشوارع وبناء الجسور، وبناء العيادات، والتربية على الصحة الشخصية وتحسين الزراعة. في مناطق مصابة بحرب العصابات مثل فيتنام ينبغي بناء قوات عصابات محلية تحارب أناس العصابات وتزويدها بالمدد والتوجيه ووسائل القتال المطلوبة. مع ذلك يجب أن تكون جميع أعمال الولايات المتحدة معروضة وكأن حكومة فيتنام الجنوبية وجيشها هما اللذان يقفان وراء تنفيذ الخطط واستعمالها. اما الامريكيون فمجرد مستشارين. رأى الجنرال ادلمان أن هذه هي الادوات الأجدى لمحاربة العصابات لان قوة الولايات المتحدة التقليدية ولا سيما قوتها الذرية مخصصة في الأساس لأحداث نظام ردع للاتحاد السوفياتي في اوروبا لا في مناطق العالم الثالث.

        ومحاضر آخر كان الكولونيل روبرت سلوفر الذي تناولت محاضرته النشاطات المدنية للجيش على أنها سلاح في مواجهة العصابات. وهو ايضا يرى أن ميدان القتال في الدول غير المتقدمة هو بين السكان المحليين. عد الكولونيل سلوفر ثلاثة أهداف للنشاط في المجال المدني. الأول – اعتراف السكان المحليين بشرعية الجيش المحلي؛ والهدف الثاني – تعزيز العلاقة بين الجيش المحلي والقرويين؛ والهدف الثالث – جعل السلطة المركزية مقبولة على السكان والجيش هو في واقع الامر مندوبها. ليس عمل الجيش فقط الدفاع عن الدولة بل بناءها أيضا. يجب على السكان المحليين أن يفهموا أن تأييدهم للسلطة المركزية والتعاون مع مندوبين سيفضي بالضرورة الى تحسين مستوى عيشهم. أي أنه يجب أن يكون في البعد العسكري نشاط مدني أيضا. اذا أيد السكان المحليون الجيش والسلطة فسيمنع محاربو العصابات تأييد السكان المحليين الذي هو حاسم جدا لنجاح حرب العصابات. منع التأييد سيقضي على القاعدة العسكرية لمحاربي العصابات وعلى نجاحهم السياسي أيضا. لا يوجد بديل على حسم رأي سلوفر من النشاطات العسكرية لكنها ستكون أنجع فقط اذا كان هناك تعاون مع السكان المحليين. ويضيف سلوفر ويقول انه من أجل استعمال برامج مدنية في أنجع صورة ينبغي أن ندرس جيدا صورة عيش السكان المستهدفين وقادتهم وبنيتهم الاجتماعية واحتياجاتهم.

        نرى باستعراض كلام ضابطي الجيش الكبيرين ان جيش الولايات المتحدة بدأ يحصر عنايته في جانب جديد من نظريات القتال في سياق محاربة التمرد وأكثر من ذلك في جوانب غير عسكرية للقضاء على العصابات ولا سيما في جنوبي شرقي آسيا. في 1962 أخذت تزداد مشاركة الولايات المتحدة في فيتنام. وجد المستشارون العسكريون في ميدان القتال وحاربو الى جانب جيش فيتنام الجنوبية. وزود طيارون امريكيون وحدات من جيش فيتنام الجنوبية بمساعدة جوية في مواجهة الفيتكونغ، الذين أخذوا يقوون قاعدتهم بين السكان المحليين. كان واضحا لصاغة السياسة في المستويين المدني والعسكري أن القضاء على الفيتكونغ لا يمكن أن يتم على نحو مادي بل بالقضاء على قاعدته الشعبية أي بجعل السكان القرويين في فيتنام يؤيدون قوات الحكومة "كسب قلوب وعقول السكان الفيتناميين" أصبح تعبيرا شائعا في هذه الفترة. ان العلم بأن أكثر السكان أيدوا الفيتكونغ بسبب الارهاب الذي استعمله على القرويين جعل صاغة السياسة العسكريين والمدنيين يعملون في بذل الأمن المادي والاقتصادي للسكان المحليين كي يكفوا عن الخوف من الفيتكونغ بل ينقلبوا عليه بنقل تأييدهم الى حكومة فيتنام.

 

        الخلاصة

        كان هدف هذه المقالة فهم الجهاز النظري المطلوب للجيش النظامي الذي يحارب منظمة ثورية. تقول نظرية محاربة التمرد أن محاربة عصابة يجب أن يكون فيها عناصر نشاط مدني وينبغي أن نجد التوازن الصحيح مع النشاط العسكري. احدى طرق فعل ذلك هي جعل السكان المدنيين، الذين تأييدهم حيوي للمحارب من العصابات، يؤيدون السلطات المدنية والعسكرية التي تحارب العصابات. ينبغي عدم صرف العناية الى النشاط العسكري فقط بل أن يوجد التوازن الصحيح بين النشاط العسكري والنشاط المدني.

        بنيت الخطط المدنية الامريكية في أثناء حرب فيتنام واستعملت في ضوء نظريات محاربة التمرد التي طورت في الولايات المتحدة قبل التدخل الامريكي في فيتنام وفي أثنائه. كذلك كان تأثير أيضا لدراسة دروس البريطانيين في قمع التمرد الشيوعي في الملايو. كان هدف التفكير العسكري أن يجد آلية عمل تضرب القاعدة السياسية والعسكرية لمنظمات العصابات الشيوعية. يمكن أن نقرر أن كل منظمة عصابة/ارهاب ذات جوهر ثوري وتبحث عن تأييد السكان المدنيين معرضة للاصابة اذا استعملت عليها خطط محاربة التمرد التي تؤلف بين النشاط المدني والنشاط العسكري.

        والنتيجة التي تبدو من هذه المقالة هي انه ينبغي عدم صرف العناية فقط الى النشاط العسكري وأنه يكون أحيانا وسيلة واحدة من جملة وسائل سياسية/اجتماعية تفضي معا الى القضاء على الحركة الثورية. تعرض الحالة البريطانية وبقدر ما أيضا الحالة الامريكية علينا طريقة عمل أتت لتحارب نظرية مؤسسة جيدا أثرت في حركات ثورية كثيرة في أنحاء العالم.

        كما يجب على جيش نظامي أن يفهم المبادىء التي يعمل بحسبها جيش العدو وأن يطور نظرية ملائمة لبناء القوة واستعمالها ينبغي أيضا فهم النظرية التي تعمل بحسبها المنظمات الثورية. عرضت هذه المقالة مبادىء محاربة التمرد التي طورت في بدء الستينيات من القرن العشرين لكن ينبغي ان نتذكر انها مبادىء عامة. ينبغي أن نفهم هذه المبادىء وأن نلائمها مع الواقع السياسي – الاجتماعي لعصرنا وأن نجد النظرية الملائمة للمكان والزمان ذوي الصلة باسرائيل. حاولت المقالة تقديم القاعدة التاريخية لفهم طريقة انشاء نظرية محاربة التمرد.