خبر حياة من السجال والجدل... رحيل مفكر العقل العربي محمد عابد الجابري

الساعة 06:11 ص|04 مايو 2010

حياة من السجال والجدل... رحيل مفكر العقل العربي محمد عابد الجابري

فلسطين اليوم: وكالات

فقدت الساحة الثقافية والفكرية العربية صباح أمس في الدار البيضاء، المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، و الذي توفي عن 75 عاماً . ويعتبر الجابري من رواد العقلانية العربية وأحد صناع الحفريات المعرفية الكبر ى من خلال عمله الكبير على العقل العربي في كتبه التأسيسية، ومنها على وجه الخصوص “بنية العقل العربي” و”تكوين العقل العربي”، وهما كتابان أساسيان ضمن المنظومة المعرفية العربية، وفي إطار المشروع الفكري الذي عرف به الجابري، وخلف سجالات كبيرة، من أشهرها سجاله مع المفكر السوري جورج طرابيشي .

 

استطاع الجابري أن يقدم للمكتبة الفكرية في الوطن العربي، عملاً أصيلاً غير مسبوق، حيث انكب في السنوات الأخيرة من حياته على مشروعه المهم في تفسير القرآن الكريم، وهو المشروع الذي ختم به مسيرته الفكرية .ومحمد عابد الجابري من مواليد عام 1935 في فكيك، شرق المغرب، التي تلقى بها تعليمه الأولي ثم غادرها إلى الدار البيضاء، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967 ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، التي عمل بها أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي .

 

وانخرط محمد عابد الجابري في خلايا العمل الوطني في بداية خمسينيات القرن الماضي، كما كان قيادياً بارزاً في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي ظل يشغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي، قبل أن يعتزل العمل السياسي ليتفرغ لمشاغله الأكاديمية والفكرية، وهو محرر التقرير الإيديولوجي لحزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1975 إلى جانب عمر بنجلون .

 

التراث والحداثة

 

منذ كتابه الأول “العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي” الصادر عام 1971 حدد الدكتور محمد عابد الجابري لنفسه خطا بحثيا سيثير في ما بعد إشكاليات كبرى في الفكر العربي المعاصر، خاصة وأن د . الجابري أخذ مع الوقت يلامس القضايا المعاصرة من زاويتين قد تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين، وهما التراث والحداثة، لكنهما اجتمعا على أرضية القراءة المعرفية للتاريخ من جهة، ومن جهة أخرى من خلال متطلبات التحول إلى الحداثة، التي هي عنده ضرورة، لكنها أيضاً ضرورة لا تفارق البعد العقلي، والذي سيكون محطة، وعلامة فارقة في المنجز الفكري المعاصر من خلال كتب عدة من أبرزها “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” و”إشكاليات الخطاب العربي المعاصر” و”العقل السياسي العربي” وهو عبر تلك المؤلفات اجتاز درباً صعبة في حقبة ثمانينيات القرن الماضي حيث كان الوطن العربي يعج بالأفكار القومية واليسارية، ويشهد في الوقت ذاته صعود الفكر الإسلامي في أشكاله المختلفة، ما جعل د .الجابري يدخل في سجالات كبيرة في المغرب والمشرق العربيين، خاصة وأن نقد العقل العربي جاء في تلك المرحلة كضربة قوية تم توجيهها من قبله إلى الكثير من الأفكار التي كانت رائجة آنذاك .

 

أيضا، ومن موقع المسؤولية الفكرية، و”ربما” التاريخية أعاد الجابري كتابة سيرة ابن رشد “ابن رشد : سيرة وفكر” وكأنه أراد أن يؤشر إلى جوهر تعثر النهضة العربية من خلال العودة إلى مأساة ابن رشد تلك المأساة التي كانت بداية ما عرف بعصور الانحطاط، التي بدأت باغتيال الكتاب، ودلالات ذلك الاغتيال على مستوى حرية العقل في التفكير، وهو الأمر الذي شكل هاجساً كبيراً لدى مجموعة من المفكرين العرب، ومنهم الجابري، لكنه كان أكثر تأكيداً في كتاباته على نقد الجانب التاريخي، عبر رصده لطبيعة الصيرورة التاريخية للعرب، التي تداخل فيها العقل والنقل، وما حادثة حرق كتب ابن رشد إلا انتصاراً للنقل على العقل، وهو ما أراد الجابري أن يبني عليه من خلال الإنموذج العقلي الإسلامي المنفتح الذي شكله ابن رشد .

 

اشتغل الجابري على المفاهيم، معتبراً إياها مفصلاً مهماً في التوافق الفكري، وفي رصد الظواهر، وفي تحديد مداخل الاختلاف، وفي بناء العلاقة مع الذات والآخر، وكان في السنوات الأخيرة شغوفاً بجدل الكينونات، وعلى رأسها مسألة الهوية، التي باتت محكاً لماهية العلاقات الدولية، ومحدداً لطبيعة صراعاتها، وهو ما دعا د .الجابري إلى الكتابة حول مفاهيم مثل الغيرية بين الشرق والغرب، والهجرة، والهوية الغربية، والحرب، وكلها قضايا أخرجت الجابري من المجال الفكري المحض إلى ضرورات الراهن، وتحديات العرب في ظل العولمة، وهو أمر يبدو طبيعياً لحركته الفكرية بين القراءة النقدية للتراث، ونقد الواقع، واستشراف ما يحمله المستقبل من مخاطر، لا يمكن الهرب من نقاشها أو التغافل عنها لدى مفكر كبير مثل الجابري .

 

جوائز...

 

حصل الراحل على العديد من الجوائز من بينها “جائزة بغداد للثقافة العربية” التي تمنحها اليونسكو، عام ،1988 وفي 1999 فاز الجابري بالجائزة المغاربية للثقافة، ومنح في عام 2005 “جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي” التي تمنحها فاونديشن إم بي آي تحت رعاية اليونسكو وفي العام نفسه حصل على “جائزة الرواد” من مؤسسة الفكر العربي في بيروت ونال ميدالية ابن سينا من اليونسكو في حفل تكريم شاركت فيه الحكومة المغربية بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة عام 2006 .

 

أما في عام 2008 فحصل على الجائزة الأولى للترجمة التي تمنحها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الإسيسكو) بالاشتراك مع المنظمة الدولية للفرانكفونية .

 

وفي هذا العام ايضاً اعلنت مؤسسة ابن رشد للفكر الحر ان جائزتها لعام 2008 ستمنح للمفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري، الذي هو احد رواد الفكر العربي المعاصرين الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والدراسات التي تهدف إلى إعادة إحياء قراءة التراث العربي كخطوة تمهيدية ضرورية للمضي قدماً في المشروع النهضوي الذي عالجه الجابري على مدى نصف قرن من الزمان .