خبر ماذا دار في كواليس إطلاق قناة TRT التركية الناطقة بالعربية؟

الساعة 05:23 م|08 ابريل 2010

ماذا دار في كواليس إطلاق قناة TRT التركية الناطقة بالعربية؟

فلسطين اليوم-الشرق الأوسط

عندما دعا سفر توران المنسق العام لقناة «التركية» قبل 3 أشهر مجموعة من الإعلاميين إلى مبنى المحطة الواقع على أجمل تل يرصد كل شاردة وواردة في مضيق البوسفور، كان كتوما وحذرا وهو يزودهم بمعلومات بسيطة حول البرامج والكادر المشارك في القناة الجديدة، حتى ولو كان ذلك اسمها. فالتجهيزات والاستوديوهات ومكاتب العمل من الطراز الأول، ولكن أكثر ما كان يستفز توران هو أن تسأله عن موعد الانطلاق الذي يؤجل مرة بعد الأخرى.

من جهته يطالب رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، المدير العام لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركي، إبراهيم شاهين، بضرورة الالتزام بالوعود والمواعيد، والأخير كان بدوره يضغط بكل الوسائل من أجل إعلان ساعة الصفر في العمليات، «مشكلتي هي في العثور على الأشخاص الذين يملكون الكفاءة وبمقدورهم أن يتكيفوا بالاندماج مع مؤسسة رسمية لها قواعدها وقوانينها في العمل والإدارة، وأن لا يكونوا وجوها استنفدت، يعرفون حجم المهمة الملقاة على عواتقهم وأهمية الرسالة التي تنوي تركيا بثها من خلالهم إلى العالم العربي».

قبل أكثر من شهر طلب توران من بعض الإعلاميين المشاركة في برنامج تحضير الكادر الإعلامي والجلوس معهم حول طاولة حوار مكثف تناقش البنى السياسية والقانونية لتركيا والتركيبات العرقية والدينية والمؤسسات والأحزاب السياسية والدساتير وكل ما يجول بخواطرهم لتتضح الصورة في أذهانهم، للإسهام في إزالة بعض الاستفسارات والتساؤلات والالتباسات.

كانت حلقات نفاش مع باقة من أجمل وأطيب شباب العالم العربي. يعرفون ويتابعون كل شاردة وواردة عن قرب. لا يترددون في الطرح والمقارعة والاعتراض. حماس لا يضاهى في وجوه شابة تركت العائلة والبلد وجاءت من أكثر من مدينة عربية تشارك في مغامرة أرادها حزب العدالة والتنمية لتكون جزءا من سياسته الانفتاحية على العالم العربي، لكنه لا يملك كوادر تركية إعلامية تجيد العربية وتكون قادرة على إيصال الرسالة باحتراف وأمانة.

أسابيع طويلة أمضوها في التدريب والاستعداد لهذه اللحظة. تحويل عربيتهم إلى جسر نقل وتبادل المعلومات والأفكار المباشرة الميدانية اليومية بين العرب والأتراك. قناة ستكون إسطنبول مقرها لكنها ستكون على اتصال دائم بدمشق وبيروت والقاهرة.

مهمتهم واضحة ومحددة وهي: نقل وتعريف المشاهد العربي بصورة المجتمع التركي من الداخل وطريقة عيشه كالمعالم التاريخية والجغرافية، وتعدد الثقافات، والآثار المنتشرة في كل بقعة من تركيا، والريف التركي، وما يقوله الشارع التركي وكيف يفكر ويتصرف، ومن هم أهم مشاهير الكتاب والمثقفين وما الذي يعالجونه من مواضيع، والديانة في تركيا، وأهم دور العبادة وأبرز علماء الدين ومؤلفاتهم.. بإيجاز هم يتحملون مسؤولية الإسهام في تقديم الداخل التركي بكل تداخلاته السياسية والاجتماعية والثقافية دون إهمال شكل النظام العلماني وإبراز حالة الاندماج والتعايش بين كل مكونات هذه الفسيفساء الغنية بعشرات الشرائح والبقع المتمايزة. دون أن نهمل طبعا المطبخ التركي، ونجوم الرياضة التركية، والصحافة التركية، وصناعة السينما، والمسارح ونجوم الغناء والطرب الأتراك.

لماذا تغامر الدولة التركية رسميا بتمويل مثل هذا المشروع الضخم الذي يحمل الموازنة العامة عشرات الملايين من الدولارات سنويا؟ هل هي مؤسسة خيرية ذات منفعة عامة لا تنتظر مردودا ماديا بل معنويا وسياسيا بالدرجة الأولى؟ هل هي خطوة استراتيجية تصر تركيا على أن لا تكون أدنى من مشاريع التخاطب التي أرادتها أميركا وأوروبا والصين وروسيا مع العالم العربي وبلغته هو؟ ما هي كتلة ونوعية المشاهدين التي تنوي القناة مخاطبتها؟ هل هي خطوة تسهم في تصحيح الصورة المهزوزة على طريق إعادة الاكتشاف التي يتوقف عندها العشرات من المثقفين الأتراك والعرب في كتاباتهم وأحاديثهم اليومية؟

أحد الدبلوماسيين العرب يقول: «حتما سنحتاج إلى المزيد من الوقت لإعطاء الحكم حول هذه القناة التي يتردد أنها ستكون تركية ناطقة بالعربية»، لكنه يلخص لنا المشهد على النحو التالي: «أمامك ربى وعلي، وقفا جنبا إلى جنب يرحبان بالحضور ويعلنان افتتاح (التركية) التي ائتمنتهما ليتحدثان نيابة عن الأتراك بالعربية على مرأى القوميين الأتراك الذين لم يعودوا متشددين على ما يبدو، وعلى مسمع رموز العلمانية واليسارية وأنصار الغرب الذين استبسلوا في إبعاد تركيا عن الشرق ومحيطها الشرق أوسطي».

رجب طيب أردوغان قال في حفل الافتتاح إنها ليست محاولة احتواء بل هو مشروع انفتاحي تواصلي لا أكثر. أردوغان تحدث مطولا بالاستشهادات والبراهين عن حجم التداخل بين العرب والأتراك، وتقارب الأمثال والأقوال المأثورة لدى الفريقين، وكيف أن الأتراك تابعوا عبر السنين نجوم الطرب وكبار الشعراء والفنانين والمفكرين العرب، «نحن كأصابع اليد الواحدة ماضينا كان واحدا ومستقبلنا أيضا واحد. عندما تصرخ العواصم العربية يصل الصدى إلى أنقرة، وعندما تنادي إسطنبول يصل الصوت إلى القاهرة والرياض وعمان ودمشق وطرابلس الغرب. نحن في ثقافتنا تماما مثلكم نبحث عن الجار قبل الدار».

نائب رئيس الوزراء، بولنت ارنش، قال إنه «سعيد وفخور في الوقت نفسه». وهو يروي كيف أن أحد مخاتير بلدة تركية سكانها من أصل عربي في مدينة أورفا على الحدود التركية - السورية يتصل به لشكره وتهنئته على هذا المشروع بقوله «بات لنا نحن أيضا قناة تركية باللغة العربية نتابعها ونعيش لغتنا من خلالها».

ويرى المدير العام لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية، إبراهيم شاهين، أن في المشروع خطوة انفتاحية لتعزيز العلاقات مع العالم العربي والوصول مباشرة إلى المواطن العربي بمختلف الأعمار والمستويات الثقافية والاجتماعية، وأضاف أن «عندنا الكثير لنقوله للمشاهد العربي، فهو سيتعرف من خلال هذه المحطة على الداخل الاجتماعي والثقافي والفكري عند الأتراك. لن تكفي المسلسلات لتكون وسيلة التخاطب بيننا. فإن آخرين يرون أن الفكرة تعتبر امتدادا لمشروع سياسي تصر عليه الحكومة يهدف إلى توسيع رقعة الحريات وحق مختلف مكونات المجتمع التركي في حماية لغتهم وتراثهم وامتداداتهم. انطلقت الفكرة قبل عامين مع القناة الكردية، وهي تتواصل وتنتشر. والدليل هو أن المشرفين على المحطة العربية يصرون على اعتبار المجموعات العربية المنتشرة في مناطق الحدود الجنوبية لتركيا مع سورية والعراق بين الشرائح والمكونات الواجب الوصول إليها وإشعارها بأنها معنية رغم اختلاف اللهجات والتمدد العرقي والجغرافي لهذه الجماعات».

برنامج «إلى أين» الذي سيبث من بيروت كل أربعاء هو البرنامج السياسي الرئيسي في القناة ويديره مجموعة من الإعلاميين اللبنانيين الذين سيستقبلون ضيوفهم مساء كل أربعاء. وهناك برنامج حواري آخر من بيروت «كلمني عربي» يقدمه نجوم الفن والكوميديا في لبنان، طوني أبو جودة، ودوللي شاهين، وليليان نمري. أهلا بكم في «مطبخ القصر»، و«القهوة التركية» ستطاردكم أينما كنتم، كذلك فريق «المغامرون» هو على استعداد لحملكم إلى أجمل المناطق السياحية التركية. «شاهد على التاريخ»، و«من إسطنبول»، و«اقتصاديات»، والكثير من الأفلام والبرامج التاريخية والوثائقية والموسيقية والمسلسلات تنتظركم على «التركية».

عبد الحميد بيليجي، المشرف العام على وكالة «جيهان» الإخبارية قال: «كنا نتواصل عبر الغرب حتى الآن، أما اليوم فقد حان وقت الحوار المباشر وقول ما عندنا دون وسطاء. للأميركيين وللروس والأوروبيين وحتى الصينيين قنواتهم الموجهة نحو الشعوب العربية فلمَ لا يكون للأتراك قناتهم أيضا».

إعلاميون أتراك كثر يرون أن القناة التركية لن تدخل بشكل مباشر في منافسة تجارية أو إعلامية مع الفضائيات العربية المنتشرة في العالم، فهي حددت أهدافها واستراتيجياتها على أنها لن تكون قناة إخبارية، وهذا يعني منذ البداية التحرك في مضمار غير تنافسي مع القنوات العربية التي تعتمد الأخبار والبرامج السياسية سببا لوجودها بالدرجة الأولى.

النقطة الثانية التي تبعد المسافة بين التركية وبقية المحطات هي اختيارها الأسرة بأكملها كهدف أساسي تحاول الوصول إليه عبر برامج منوعة أعدت لهذه الغاية. الأطفال لهم برامجهم والمراهقون أيضا سيتابعون أكثر من برنامج ترفيهي تثقيفي منوع عبر «التركية». والكبار أيضا ستطاردهم برامج ثقافية منوعة غنائية وإخبارية تبث مباشرة من أكثر من عاصمة عربية إلى جانب إسطنبول وأنقرة طبعا.

هيئة الإذاعة والتلفزيون التركي، المؤسسة الرسمية التي بدأت مع تجربة الراديو الرسمي في أنقرة عام 1927 وإسطنبول سنة 1928. ثم تم إطلاق هذه المؤسسة عام 1964 لتكون أولى التجارب التلفزيونية عام 1964. وقد ظل التلفزيون الرسمي المؤسسة الوحيدة في البلاد حتى أواخر الثمانينات حيث بدأت تجربة القطاع الخاص التي سرعان ما توسعت رقعتها وانتشرت في البلاد ليصل العدد اليوم إلى أكثر من 40 قناة تلفزيونية تبث على المستوى الوطني، مما دفع بالمشرفين على هذا القطاع الرسمي إطلاق سياسة تجديد شاملة في الشكل والمضمون أوصلتنا اليوم إلى هذه القناة.

توران ردد أكثر من مرة أن لا أجندة سياسية لنا من خلال القناة، لكن السياسة هي دائما في قلب الكثير من المشاريع ولا حاجة لنا لإعلان ذلك، خصوصا إذا ما كانت من هذا النوع، ولا مشكلة في ذلك ما دام أن السياسة المطلوبة هنا هي التقارب والتعاون واكتشاف الآخر دون وسطاء.

بقي القول أن معظم المتابعين عن قرب لهذه الانطلاقة يرون أن استقلاليتها المالية والإدارية وتحولها إلى مؤسسة قطاع خاص قد توفر لها المزيد من حرية الحركة والتوسع والتمدد في اختيار البرامج والكوادر.. وأن نطرح السؤال على النحو التالي هذه المرة: هل سيرد الإعلام العربي على هذه النقلة الاستراتيجية التركية التي تريد «اختراق العقول والقلوب» في العالم العربي على هذا النحو مستفيدة من وقوف رجب طيب أردوغان وأعوانه إلى جانبها بكل الطاقات والإمكانيات. هل سيفاجئنا العرب بقناة تركية تخاطب عشرات الملايين من الأتراك في العالم ضمن بقعة جغرافية واسعة تشمل آسيا وأوروبا وأميركا يقدمون التمويل والدعم الإداري والسياسي، ويتركون الكوادر التركية المتخصصة هي التي تحرك العمليات وتحتكر الشاشة كما هو حاصل اليوم مع «تي آر تي التركية».