خبر اغتيال المبحوح.. دروس بطعم الدم! .. مؤمن بسيسو

الساعة 04:53 م|19 مارس 2010

بقلم: مؤمن بسيسو

بقدر ما تشكل تداعيات جريمة اغتيال الشهيد محمود المبحوح فضيحة مدوية للموساد الإسرائيلي، فإنها تشكل بالقدر ذاته فضيحة إقليمية ودولية تبرز مدى التحريض والتكالب والتواطؤ الإقليمي والدولي استخباريا ضد حركة حماس بشكل خاص، وقوى المقاومة والممانعة في عموم الوطن العربي والإسلامي بشكل عام.

تعيد جريمة الاغتيال التذكير بالبدهيات التي تحكم مسار السياسة العربية والدولية، وترسم –بواقعية- الخط الفاصل بين المعقول واللامعقول في إطار معترك العمل السياسي بصبغته الجهادية، وإمكانيات الحركة والتعايش في ظل بيئة إقليمية ودولية قطعية العداء وسافرة التآمر، وتبني مجددا رؤية واضحة لسقف وآفاق المواقف والسياسات المسموح بها عربيا ودوليا، بعيدا عن الأوهام والتمنيات ونسيج التوقعات المهترئة التي تمنح صورا زائفة وأشكالا مضللة دون أساس حقيقي أو أرضية متينة.

تختزن جريمة اغتيال المبحوح في دبي مجموعة من الدلالات الصارخة التي تستبطن في الوقت ذاته عبرا قيمة ودروسا بالغة على إيقاع الصراع مع الاحتلال وتجلياته المستعرة داخل الوطن وفي الشتات، رغم العديد من الأسئلة التي لا تزال برسم الغموض الذي يستبطن خللا على أكثر من مستوى وصعيد.

أولى الدلالات أن حكومة الاحتلال قررت فتح جبهة الخارج على مصاريعها، وأضفت أبعادا جديدة وخطيرة على المعركة مع حماس بشكل خاص، وفصائل المقاومة بشكل عام.

ينبئ ذلك –بلا شك- عن غرور واستكبار إسرائيلي كبيرين، وما كان ذلك ليتم لولا الارتياح التام على الجبهة الشمالية بفعل استئصال المقاومة في الضفة الغربية، والارتياح النسبي على الجبهة الجنوبية بفعل التهدئة الواقعية مع غزة.

لم تكن المعركة الخارجية سابقا أقل قدرا واهتماما في صميم أجندة العمل الاستخباري الإسرائيلي، فالمحاولات الإسرائيلية لتحقيق إنجازات استخبارية خارجية لم تنقطع أو تتوقف يوما ما، لكنها اليوم تكتسي طابعا مريحا للغاية في ظل هيمنة السياسة الإسرائيلية دوليا، واضمحلال أدوات الرقابة والملاحقة الدولية لها عقب حربها المجرمة على غزة، والتي كان أبرزها تماهي المواقف الأميركية والإسرائيلية في العديد من القضايا السياسية، وتفريغ تقرير غولدستون من مضامينه الفعلية أمام مؤسسات الأمم المتحدة.

ثانية تلك الدلالات أن تفاصيل وملابسات عملية الاغتيال تشير إلى تواطؤ إقليمي ودولي يحمل بصمات تثبت تورط العديد من الدول العربية والدولية عبر المتابعة المعلوماتية والتنسيق الاستخباري المتبادل مع الموساد الإسرائيلي، فما كان للجريمة أن تتم على هذه الشاكلة، وفي ضوء ردود الفعل الإقليمية والدولية الباهتة أو حتى العدمية تقريبا، إلا عبر منظومة تنسيق وتعاون أمني تواطأت فيها دول عربية وغربية مفضوحة العداء لحماس ولكل ما هو مقاوم فلسطينيا وعربيا وإسلاميا.

ولا يخفى على أحد من العالمين ببواطن بما يدور في عالم المخابرات الخفي أن رأس المقاومة في فلسطين يشكل هدفا مشتركا للعديد من أجهزة المخابرات العربية والدولية، وأن مستوى التعاون والتنسيق المشترك في هذا المجال، وخصوصا مع الاستخبارات الأميركية، قد بلغ حدودا خطيرة لا يمكن الاستهانة بدرجة تأثيراتها بأي حال من الأحوال.

تدرك حماس ذلك جيدا، كما تدرك تماما أن حدود القدرة والمعالجة لإمارة دبي لن تتعدى الإطار الأمني الذي يعنى بالكشف عن الملابسات والحيثيات في غلافها الإعلامي المجرد دون أي قدرة حقيقية إلى الانتقال إلى ما هو أبعد من ذلك، وإلباس الأمر لبوسا سياسيا لا تقوى على تحمل تكاليفه لاعتبارات متعددة.

ثالثة تلك الدلالات أن تراخيا وتقصيرا أمنيا ما قد أرخى بظلاله على ساحة العمل الخارجي، وسمح للموساد باقتراف جريمته النكراء.

ولئن بدا من السخف مطالبة حماس بنظام أمني مثالي قد لا يتوفر لدول ذات إمكانيات وخبرات كبرى، إلا أن خللا ما –لا نستطيع الجزم بماهيته حاليا- يتربع ضمن إطار الحلقة أو المنظومة الأمنية التي تحيط بالشهيد وتحركاته المختلفة.

من زاوية موضوعية، قد يكون الخلل بسيطا وقد يكون متوسطا وقد يكون كبيرا، فهذا أمر يستعصي على الفهم والاستيضاح في المرحلة الراهنة التي لا زالت فيها لجنة التحقيق التي شكلتها حماس تباشر عملها، وفي الوقت الذي لم تتوفر فيه لدى شرطة دبي أية معلومات حول الدائرة الأمنية التي تحرك فيها الشهيد بعد رفضها طلب حماس التنسيق المشترك في ملابسات جريمة الاغتيال.

ومع ذلك، فإن المؤشرات الأولية تضع الخلل في إطار محدود بشهادة قائد شرطة دبي الذي أكد على الحس الأمني الرفيع الذي تميز به الشهيد، فضلا عن طول فترة التخطيط والتحضير لهذه الجريمة وفق ما كشفت عنه مصادر إسرائيلية، ما ينفي فرضية وجود اختراق مركزي أو مؤثر داخل صفوف حركة حماس أو الدائرة الأمنية المحيطة بالشهيد، وينقل البحث نحو فرضيات أخرى أقل تأثيرا.

في المقابل تنتصب مجموعة من الدروس والعبر التي يفترض أن تقع موقعها في عمق الأجندة والاهتمامات، وأن تحظى بالرعاية الكاملة إذا ما أُريد للمخططات الإسرائيلية أن تُجهض، ولإستراتيجية الاغتيال والعدوان أن تحصد الفشل والخسران.

أول تلك الدروس ألا مكان آمنا من غدر وبطش وإرهاب الاحتلال، وأن الاحتياطات الأمنية بأشكالها المختلفة يجب أن تكون حاضرة في كل بقعة ومكان دون أي تقصير.

ولا ينزرعنّ في عقل أحد أوهام بأن هذه الدولة أو تلك تقف بمنأى عن عبث وعيون الاحتلال، فتلك أولى نقاط الخلل والارتكاس التي ندفع ثمنها -عادة- باهظا، ونستفيق لها، ولكن بعد فوات الأوان.

لقد أثبتت حكومة الاحتلال ومؤسستها الاستخبارية أنها قادرة على أن تترك في أي مكان في العالم أثرا ما، صغيرا كان أم كبيرا، وأن تلعب لعبة الموت القذرة في أي بقعة جغرافية تشاء دون أية اعتبارات أو روادع أو إشكاليات، وهو ما يوجب الاحتياط الدائم حتى في أقصى بقاع المعمورة.

ثاني تلك الدروس أن إقامة السلطة في ظل الاحتلال خطيئة كبرى، فقد شرّعت السلطة التنسيق الأمني بموجب الاتفاقيات الأمنية مع الاحتلال، ولم يعد مستهجنا في ظلها سيول المعلومات التي تتدفق في قنوات الأمن والاستخبارات الإسرائيلية ليل نهار.

ولا يبدو تورط "البعض" الفلسطيني الذي تشرب قيم ومبادئ التنسيق الأمني في عملية اغتيال المبحوح شيئا نشازا في إطار وجود السلطة ومهامها الوظيفية المعروفة.

لم تنشأ سلطة الحكم الذاتي أصلا إلا لتحقيق الوظيفة الأمنية التي يتمتع فيها الاحتلال بأمن مثالي عبر أدوات فلسطينية، حيث بدت الالتزامات الأمنية المغطاة سياسيا طيلة وجود السلطة عملا روتينيا مورس بشكل اعتيادي للغاية دون وخز للضمير أو إثارة للشجون والقيم والمبادئ الوطنية.

بل وكشفت الأيام أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحولت إلى أشبه ما يكون بـ"مافيات" ومراكز قوى تعبث في المحرمات الوطنية، وتتعاون، بأشكال مختلفة، مع أجندات استخبارية خارجية، ولا أدلّ على ذلك من الشهادة المفصلية التي أدلى بها اللواء نصر يوسف وزير الداخلية السابق، وأحد القيادات المركزية في حركة فتح، لدى استجوابه أمام المجلس التشريعي شهر مارس/ آذار 2006، وأكد خلالها عجزه عن مواجهة فلتان هذه "المافيات" ومراكز القوى الأمنية بشكل مطلق.

فلا عجب إذن أن يخرج من بين ظهرانيها من تورط في جريمة الاغتيال، ولا عجب –أيضا- إن أثبتت التحقيقات لاحقا تورط هذه الأجهزة أو جهات فيها رسميا في الإعداد والتخطيط والتنفيذ للجريمة، فهذه الأجهزة تمارس يوميا، وتحت غطاء رسمي كامل، كافة أشكال التعاون الأمني مع الاحتلال، ويعتقل بموجب ذلك ويغتال الكثير من المقاومين، فمن يُشرّع مبدأ التعاون الأمني مع المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لضرب واستئصال المقاومة في الضفة الغربية لن يجد أي غضاضة بتاتا في تنفيذ عملية ما "جريمة" تشكل نقطة صغيرة في بحر التعاون الأمني الكبير.

وما دامت السلطة محكومة بمحددات سياسية والتزامات أمنية يُرتهن بها بقاؤها ووجودها، فإن ذلك يعزز القناعة المتنامية بأن السلطة يجب أن تُحلّ، وتحال وظائفها إلى هيكل مدني مؤسسي جديد ينتفي عنه الطابع السياسي والأمني باستثناء قوة شرطية مؤهلة لحفظ الأمن والنظام الداخلي فحسب.

ثالث تلك الدروس أن التعويل على إحداث تغيّر ما في الموقف الإقليمي والدولي قد جانبه الصواب، وأن بعض الرؤى التي تحملها بعض الشخصيات أو الوفود الأجنبية الزائرة غير ذات قيمة عملية في الميزان الواقعي والإستراتيجي، حتى لو قدمت حماس مقاربات سياسية تحاول من خلالها الاقتراب من الموقف الإقليمي والدولي، أو إيجاد جسر من التفاهم والتواصل السياسي مع المنظومة المهيمنة.

فلم يكتفِ الموقف الإقليمي والدولي بمحاولة تجاوز نتائج التجربة الديمقراطية الفلسطينية، والتآمر على قلب المعادلة الفلسطينية الداخلية، بل وأسهم -وفقا للأدلة والشواهد التي تتكشف تباعا- في توفير كافة متطلبات إنجاح عملية الاستهداف لحركة حماس خارج فلسطين، وها هو يحاول اليوم التغطية على فضائحه بتحقيقات شكلية وتحركات وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع.

رابع تلك الدروس أن فرض وقائع سياسية وجغرافية دون حسابات دقيقة في غزة يشكل استعجالا غير مبرر، ومحاولة لقطف الثمرة قبل نضوجها، أورثت حماس إشكاليات وتعقيدات لا حصر لها، واضطرتها لتجرع مرارات سياسة اضطرارية كانت في غنى كامل عن التشابكات والتشوهات الإستراتيجية التي صاحبتها.

لا تملك حكومة الاحتلال ظروفا إستراتيجية أفضل من الظروف الراهنة التي تعيش فيها المقاومة أزمة الذبح والاستئصال في الضفة، وأزمة الدوران في إطار فقه الأولويات والموازنات في غزة، فلا عجب أن يكون الإرهاب الصهيوني عابرا للبحار والقارات، وأن تستباح المقدسات، وأن يعربد نتنياهو وزعران حكومته وأركان جيشه ومؤسسته الأمنية والاستخبارية طولا وعرضا دون رادع.

الإشكالية الكبرى أمام حماس أنها تدرك تماما ثقل التحديات الرهنة، وصعوبة الاستمرار بتجربتها الحالية في غزة في ظل المعطيات القائمة، إلا أن جانبا منها لا زال يخطئ تقدير الظروف المحيطة، ويعطي فرصة إضافية لتغيير محتمل في توازنات المعادلة الإقليمية والدولية وانعكاساتها على المنطقة في وقت اللافرص الذي تنحدر فيه الأوضاع الفلسطينية ومسارات القضية الوطنية بشكل غير مسبوق.

إن إعادة تقييم التجربة بكل ما لها وما عليها على أسس شفافة وموضوعية، تمنحنا قدرة فائقة على إدراك الأخطاء الإستراتيجية وسبل التعاطي معها وتدارك بعض من آثارها قبل فوات الأوان، وتحسن حماس صنعا لو بدأت استدراكا عاجلا يكون فاتحته التوقيع على ورقة المصالحة المصرية قبل انعقاد القمة العربية أواخر الشهر الجاري، والالتفات إلى معالجة كافة بؤر الخلل وأشكال التشوهات والنقائص التي رافقت تجربتها على مدار السنوات الأربع الماضية.

لا مناص من الاعتراف بأن حماس تدفع ثمن تجربتها، وتتحمل عبء حمايتها لسلطة حكمها في غزة، وأن الجمع بين الحكم والمقاومة وفق الصيغة الراهنة قد أدى إلى تآكل على صعيد المحورين: المقاوم والتربوي اللذين أبدعت فيهما الحركة إبداعا كبيرا ما قبل الانتخابات، وأن اتجاه النقاش في أوساط الحركة ينبغي أن يتركز على بلوغ صيغة وسطية تسمح للحركة بممارسة المقاومة الراشدة بشكل فعال في ذات الوقت الذي تشارك فيه بالحكم دون انفراد عبر عناصر مهنية تنتمي للحركة أو تكون مقربة منها بعيدا عن المقاربات السابقة التي تفتقد الواقعية والمرونة السياسية.

لو لم تكن حماس مكبلة بقيود المرحلة التي زجّتها فيها مشاكل الحكم واستحقاقاته، لكان لها من اغتيال المبحوح ردّ آخر.

ما يعنينا اليوم ليس جلد الذات واجترار الهموم والدوران مع أوجاع الماضي، وإنما بناء رؤية شاملة ومتكاملة تركن إلى العمق التحليلي والفهم الواضح لأصول اللعبة السياسية التي تحكم المنطقة والعالم، وتعمد إلى إخضاع مواقفها وسياساتها لحسابات دقيقة بعيدا عن السطحية أو العفوية المفرطة أو الانخداع بالشكليات وظواهر الأمور والأحداث التي تربك مسيرتنا على الأقل إن لم تكن تجرّها إلى الوراء، وتضاعف الأثمان المدفوعة إستراتيجيا في ظل منطق الصراع الحضاري والاستهداف الممنهج لقوى المقاومة في عموم المنطقة العربية والإسلامية، وعلى رأسها المقاومة الفلسطينية التي تقودها حركة حماس.

ندرك أن الأمور لا تبدو في وارد الاستيعاب المباشر والاحتواء التام لدروس الواقع المعاش وتجاربه المريرة بين عشية وضحاها، فلا ريب أن ذلك يستلزم آفاقا جديدة وتحولات منهجية في طبيعة التفكير السياسي والإستراتيجي، لكن حسبنا أن نُحدث استدراكا عاجلا يمنح حماس القدرة على الالتفاف على المخططات الآثمة التي تحاك لضربها والنيل منها، وامتصاص آثار التحديات العاصفة التي تحيط بالوضع الفلسطيني إحاطة السوار بالمعصم.

دلالات مهمة ودروس بالغات.. فهل من مدّكر؟! .