خبر الفلسطيني أجمل من الصورة الإعلامية ..عبد الستار قاسم

الساعة 09:08 م|28 فبراير 2010

الفلسطيني أجمل من الصورة الإعلامية

د. عبد الستار قاسم

صورة الفلسطيني في الإعلام الإقليمي والعالمي ليست مشرفة تماما، بل تبدو قبيحة أحيانا ومنفرة. ظهرت على الشاشات صور الصراع الفلسطيني الداخلي والاقتتال الدموي، وظهرت صور الزعران الذين يشيعون الفوضى ويعتدون على الناس، وتكررت قصص الفضائح الأخلاقية وسرقة الأموال على مدى سنوات. تظهر أحيانا بعض الصور المشرفة التي تبين قدرة الفلسطيني ومثابرته وصبره وقوة عزيمته، لكن هذه الصور ليست الطاغية، بل الطاغي هو صور المناكفات والاتهامات والاتهامات المضادة والانهيار الأخلاقي والاستهتار بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني.

 

صحيح أن الساحة الفلسطينية تعاني من أزمات أخلاقة واجتماعية ووطنية، وتنحدر أحيانا إلى درجة الانحطاط، وصحيح أن فلسطينيين قد مهدوا الطريق أمام عرب ومسلمين للتعامل مع إسرائيل، وشجعوا دولا كثيرة على الساحة العالمية لخذلان الشعب الفلسطيني والانحياز لإسرائيل، لكن هذه الأمور لا تختزل شعبا، ولا تعني أن الشعب الفلسطيني شريك في مهازل أو جرائم أو سوء صنيع. الشعب الفلسطيني أكبر بكثير من هذه الصور المزرية، وهو شعب وفي لقضيته، ولم يتنكر لتاريخه وتراثه وأصالته.

 

الإعلام والحدث

 

لا ينقل الإعلام عادة سلوكيات ومواقف لا تشكل حدثا، وينصب تركيزه في العادة إلى أحداث قد تشكل أخبارا، وقد تثير الاهتمامات. لا ينقل الإعلام عادة مساعدة جار لجاره، لكنه سرعان ما ينقل خبر اعتداء جار على جاره؛ وهو لا ينقل خبر حماية شاب لفتاة من اعتداء، لكنه يسارع إلى نقل اعتداء شاب على فتاة. فلسطينيون كثر يقفون ضد المفاوضات مع إسرائيل، لكن البارز في الإعلام هو نشاطات المفاوض الفلسطيني؛ ومثقفون فلسطينيون كثر يقفون ضد التطبيع مع إسرائيل، لكن الإعلام ينقل مشاركة رئيس وزراء السلطة في مؤتمر هرتسيليا. وهكذا.

 

الفلسطينيون يمقتون الاقتتال الفلسطيني، لكن الإعلام يركز على فتحاوي وحمساوي يتبادلان إطلاق النار، أو على فلسطينيين يتجادلان كالديكة الهوجاء على شاشات التلفاز. هذا أمر ليس مقصودا بالضرورة لأن الإعلام بطريقة عمله لا يركز على رتابة الحياة وإنما على ما يشق هذه الرتابة، أو ما يشكل حدثا مختلفا يشد الانتباه أو يعطي مؤشرا حول أمر قد يخرج عن الرتابة. هناك بعض وسائل إعلام تتعمد البحث عن الفضائح وعما يسيء، لكن السمة السائدة في الاهتمامات الإعلامية هي الجديد، أو ما يسمونه خبرا يستحق النقل. وفي كل الأحوال، إذا تجاهلنا التعمد الكيدي في الإساءة الإعلامية، لا ينقل الإعلام المحترم الإساءة إلا إذا كانت هناك خميرة، أو بعض دخان يشير إلى نار.

 

أساء الفلسطينيون لأنفسهم

 

لا إنكار بأن فلسطينيين أساؤوا للشعب الفلسطيني وما زالوا يسيئون. وهنا أعدد بعض الأمور التي لم تعد خافية لا على فلسطيني ولا غير فلسطيني:

 

أولا: لم يتصرف فلسطينيون بطريقة لائقة عندما عملت المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان، ولم تحرص القيادة الفلسطينية على الانضباط، وتركت العديد من الزعران والقبضايات يشيعون الرعب والتخويف والابتزاز في الشارع، ونقلت ذات التصرفات المشينة إلى فلسطين بعد قيام السلطة الفلسطينية.

 

ثانيا: على الرغم من أن التضحيات الفلسطينية كانت هائلة إلا أن الاختراقات الأمنية الإسرائيلية للصفوف الفلسطينية كانت واسعة مما كلف الفلسطينيين غاليا، ولم تعمل أجهزة منظمة التحرير على تصحيح الوضع الأمني.

 

ثالثا: قيادات فلسطينية وقعت اتفاق أوسلو في مخالفة صريحة وواضحة لكل المواثيق الفلسطينية، وفتحت بابا واسعا أمام دول عربية وإسلامية وعالمية للاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها. فعلت القيادة ذلك دون أن تستعيد أيا من الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ملبية في ذلك المطلب الإسرائيلي المتمثل بإقامة سلطة حكم ذاتي تريح الاحتلال من هموم إدارة الحياة المدنية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.

 

رابعا: بدأت القيادة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، وأقامت عددا من أجهزة الأمن للقيام بالمهمة، وأحبطت الكثير من محاولات العمل العسكري ضد إسرائيل، وأخذت تعتقل المقاومين.

 

خامسا: تحولت الضفة الغربية وقطاع غزة (غزة لغاية 2006) إلى مسرح للأمريكيين والأوروبيين، وأمسك القنصل الأمريكي والمنسق الأمني الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية بزمام الأمور على حساب الإرادة الفلسطينية.

 

سادسا: فاضت الأرض المحتلة بحكايات وقصص الفساد والاختلاسات المالية حتى أصبحت الدول الفاسدة تزايد على الشعب الفلسطيني.

 

سابعا: اقتتلت الفصائل الفلسطينية، وقد تفرج القاصي والداني على الفلسطينيين يسفك أحدهم دم الآخر.

 

أحسن الفلسطينيون لأنفسهم

 

في مقابل الأعمال السيئة، هناك أعمال عظيمة تأتي بالثناء على الفلسطينيين، وتبقي لهم على صورة جميلة بعيدا عن أعمال القيادات أذكر منها:

 

أولا: الشعب الفلسطيني يقاتل على مدى مائة عام، وهو ما زال يصر على الاستمرار حتى استعادة وطنه. جزء من هذا الشعب يصافح إسرائيل الآن، لكن الأغلبية داخل فلسطين وخارجها تصر على البقاء وتحرير الأرض. الشعب يتحمل مخيمات اللجوء والملاحقة المستمرة من قبل إسرائيل وأنظمة عربية ودول كثيرة، ويتحمل القتل والتدمير والتجويع والآلام والأحزان ومعاناة التشريد والتهجير. هذا الشعب الذي يتحمل كل هذا هو شعب عظيم يستحق التقدير.

 

ثانيا: لم يستسلم الشعب الفلسطيني لقياداته، وبقي وفيا لدماء الشهداء، ومستعدا لتقديم المزيد من التضحيات.

 

ثالثا: خاض الشعب انتفاضات شعبية واسعة استمرت على مدى طويل من الزمن، وتحمل كل الضغوط التي واكبت نضالاته.

 

رابعا: ما زال التراحم والتعاطف قائما في صفوف الشعب على الرغم من كل السياسات التي هدفت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي واستنزاف المستوى الأخلاقي.

 

خامسا: هناك من الشعب من هو مرتاح لارتهان لقمة الخبز للأوروبيين والإسرائيليين والأمريكيين، لكن أغلبية الشعب تدرك أن أموال الدول المانحة تستعمل من أجل شراء المواقف السياسية والتخلي عن الحقوق الوطنية الثابتة للشعب.

 

سادسا: أغلب الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع يرفضون التطبيع مع إسرائيل، ويرفضون التنسيق الأمني، ويرفضون الاعتراف بإسرائيل والاتفاقات التي وُقعت معها.

 

سابعا: الشعب الفلسطيني يتطلع إلى إخوته العرب، وإلى المسلمين جميعا وأحرار العالم كشركاء، وهو يمد لهم يده للتعاون. إنه شعب يرفض القطرية، ويرفض حالة التمزق التي تجتاح الوطن العربي، ويتطلع إلى اليوم الذي يلتئم فيه شمل الأمة.

 

بين الشعب والقيادات

 

سوء صنيع القيادات الفلسطينية ليس سوء صنيع الشعب الفلسطيني، والشعب لا يتحمل وزر الفضائح والسرقات والصلح مع الكيان الصهيوني. صحيح أن الشعب الفلسطيني يتحمل جزءا من المسؤولية بسبب سكوته على ما يجري، أو عدم تحركه ضد ما يجري، لكنه شعب لا يختلف عن بقية الشعوب العربية المغلوبة على أمرها. للأسف، استطاع الشعب أن يواجه الغزو على مدى مائة عام، وما زالت لديه الطاقة للمواصلة، لكنه لم يستطع التغلب على مائة فاسد ينطقون باسم فلسطين، أو يظهرون على الشاشات وكأنهم يمثلون فلسطين.

 

الشعوب تتحمل مسؤولية الصمت على الموبقات التي تُقترف بحقها، لكنها تصطدم أحيانا بتراث غير مشجع، وأحيانا أخرى بإغراءات وشراء ذمم، وأحيانا أخرى بالقمع والتنكيل. يتعرض الشعب الفلسطيني لمختلف أنواع السياسات من أجل المحافظة على سكوته، لكنه أيضا يعاني من الاحتلال الذي يعمل بقوة السلاح على وأد التغيير. (لو) تأتى لهذا الشعب أن ينقلب على أوضاعه الداخلية، فإنه ببساطة سيواجه مئات الحواجز الصهيونية الفاعلة، وسيواجه منع التجول ومنع الحركة الداخلية، وحظر تحويل الأموال من الخارج، الخ. أي أن الموانع أمام الشعب الفلسطيني للتغيير وفرض إرادته على قياداته أو تغييرها مضاعفة.

 

الدول الغربية

 

ناهيك عن إقامة الدول الغربية للكيان الصهيوني، واستمرارها في دعمه في كافة المجالات، تلعب هذه الدول الآن دورا آخر وهو هدم الشعب الفلسطيني من الداخل. لقد عملت طوال السنوات على الإبقاء على الشعب ضعيفا ومهزوما من قبل إسرائيل، ولاحقت مقاوميه، لكنها الآن، ومنذ أواخر ثمانينات القرن العشرين تعمل على تخريب المجتمع الفلسطيني والتحكم بمساراته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والتعليمية. فتحت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني لعام 1988 الباب على مصراعيه أمام العبث بالشعب في الضفة الغربية وغزة تحت شعار السلام وإقامة دولتين لشعبين، وتعزز هذا العبث بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية.

 

أهم ما في الأمر هو ربط لقمة خبز الشعب الفلسطيني بأموال الدول المانحة، والتي تتحكم بصرفها في النهاية أمريكا وإسرائيل. وفي هذا عمل الأوروبيون بالتعاون مع إسرائيل وأمريكا على التالي:

 

أولا: شجعوا تضخيم الطواقم الإدارية في المؤسسات الرسمية الفلسطينية من أجل تزايد أعداد الناس الذين يعتمدون على الرواتب الآتية من الدول المانحة. لا أعرف كم هو عدد الموظفين الحكوميين الآن، لكنني أقدر أنه أكثر من 180,000 بمن فيهم أفراد الأجهزة الأمنية، وهؤلاء يعيلون عائلات بقدرهم. جرب الشعب الفلسطيني التمرد في انتخاب حماس للتشريعي، فثار أغلب هؤلاء الموظفين مطالبين بالرواتب، وشكلوا حبلا حول رقبة الشعب الفلسطيني. أي أن الدول الغربية تعمل على استعباد الشعب الفلسطيني من خلال المال، وبمساعدة فلسطينيين مروضين مدجنين معلوفين.

 

ثانيا: أمد أهل الغرب أفرادا كثرا في السلطة الفلسطينية بمال وفير وسيارات فخمة ومتع كثيرة، ونقلوهم من حالات الفقر و "الطفر" إلى حالات من النعيم الذي لم يحلموا به أو يتخيلوه. هؤلاء مستعدون لبيع الوطن العربي، وليس فقط فلسطين، مقابل استمرار الحليب.

 

ثالثا: شجع أهل الغرب الفساد ومولوه وما زالوا يمولونه لأنهم يعرفون أن الاعتراف بإسرائيل والدوس على دماء الشهداء والتهاون في الحقوق اللفلسطينية وجر الشعب إلى التفسخ لا يقوم به إلا فاسدون. أصحاب الشرف والالتزام الوطني لا يقومون بمثل هذه الأعمال، وكان لزاما على الأوروبيين صناعة طبقة فاسدة من أجل الاستمرار في قيادة الشعب الفلسطيني نحو الهاوية. طبعا كانت الخميرة موجودة، فقط كان على الأوروبيين إضافة المزيد من السمن والعسل.

 

ضاق الأوروبيون ذرعا بالفساد الذي ساد على مدى سنوات من عهد السلطة الفلسطينية، لكنهم وجدوا وسيلة في النهاية للإفساد المهني. أي يجب أن يستمر الفساد، لكن بطريقة علمية منهجية لا تعطي انطباعات سيئة عن الفاسدين. وأكبر مثل على ذلك هو تخصيص الجزء الكبير من ميزانية السلطة للأجهزة الأمنية، والتغاضي عن أهمية الزراعة والإسكان.

 

رابعا: المساهمة الفعالة في حصار وملاحقة كل فلسطيني يشذ عن قواعد تحقير الشعب الفلسطيني والإساءة إلى سمعته.

 

المعنى أن هناك جهدا دوليا ممنهجا من أجل الإساءة لشعب فلسطين وجره إلى المخازي من أجل تجفيف الدعم الشعبي المتوفر له في الساحتين العربية والإسلامية. وطبعا أغلب الأنظمة العربية غير بريئة، وهي شريكة في تنفيذ سياسات الأوروبيين والإسرائيليين.

 

شعب فلسطين كشعوب الأمة

 

شعب فلسطين يعاني كما تعاني شعوب الأمة، بل معاناته أكبر مجالا ومدى. وهو لا يختلف جذريا في قيمه وأخلاقه عن هذه الشعوب، وهو يتأثر بالأحداث وبالقيادات والمؤامرات والسياسات الخارجية كما تتأثر كل الشعوب. إنما يقع الشعب الفلسطيني في دائرة الاستهداف المركز، وهناك قوى ودول كثيرة معنية بإركاعه وقتل روحه المعنوية وتمزيق أواصره. وشعب يواجه كل هذه الأثقال لا بد أن يتأثر وينعكس هذا التأثر أحيانا على بعض أدائه فيقبح بنظر بعض الناس.

 

شعب فلسطين شعب جيد ومعطاء وكريم وشجاع، وإن ألم به إحباط حينا، فذلك لا يعني نهاية المطاف، ولا يعني أنه تحول إلى مطية لا تتمرد، أو تدور كما يشتهي راكبها. هناك عثرات الآن، ولكن هناك مخاض أيضا. مزيد من الناس باتوا يدركون الخديعة، ويدركون ما دبره لهم اللئام، وستعود قاماتهم إلى الارتفاع، وسيعود الشموخ إلى الجباه.