خبر أقتل ولا تدع أحداً يرى../ نصري الصايغ

الساعة 03:58 م|04 فبراير 2010

أقتل ولا تدع أحداً يرى نصري الصايغ 

 

04/02/2010  12:27 

 

نصح وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر (الحائز جائزة نوبل للسلام) صديقه رئيس وزراء العدو اسحق رابين (الحائز ايضا جائزة نوبل للسلام) بتكسير الكاميرا، ومنعها من تصوير المشاهد ونقلها إلى العالم إبان حملة تكسير عظام أطفال الحجارة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

 

المعادلة هي: اقتل، ولا تدع أحداً يرى كيف تقتل.. عندها يتحول القتل إلى فعل مجهول والقتيل إلى رقم.. وتتناقل وكالات الأنباء بعد ذلك، أخباراً إنشائية، لا إحساس فيها، لا لون فيها ولا وجع فيها، ولا دماء تلطخ أيدي القتلة.

 

الكاميرا حاضرة في زوايا الأرض، مثلها مثل أجهزة التنصت، مثل أجهزة الكشف عن بعد، ولكنها غائبة عن المذبحة اليومية، التي تحصل في بلدان عربية وبلدان آسيوية... الكاميرات الدولية مشغولة بأوشفيتز. تنقل على مدار الساعة وببث مباشر، الحضور الدولي استنكاراً لمذبحة وإبادة ارتكبتها النازية الأوروبية، بحق اليهود... وآخرين مكتومي الحضور في وسائل الإعلام.

 

تحضر الكاميرا، ومعها وسائل البث المباشر، لنقل وقائع الحرب الفرنسية على «البرقع»، وكأن هذا البرقع، القادم من مجاهل الجهل الديني، يهدد الهوية الفرنسية بالاجتياح والاحتلال... الكاميرا حاضرة وكذلك أدوات البث، لنقل وقائع النقاش حول البيئة في كوبنهاغن، وفي قمة دافوس المذهبة، وفي مؤتمر لندن «اليمني»... ولكنها غائبة عن الأزمة الاقتصادية العالمية وكوارثها الطاغية على فقراء المدن، في كل بقعة من بقاع العالم. ولولا بعض أقلام، لما عرفنا أن مدينة ديترويت الأميركية، تاج الحواضر الصناعية، بانية مجد السيارات الأميركية، تحولت إلى مدينة أشباح، ومن بقي فيها، يعيش على الكفاف. فكيف حال ضواحي المدن في العالم الثالث؟

 

الكاميرا حاضرة حيثما يفترض أسياد العالم والمال أن تكون موجودة، وممنوعة من الحضور في مناطق العار الدولي، إلا في المناسبات، والطريقة مجتزأة، حيث لا مفر من إثبات الوجود.

 

الكاميرا غائبة كليا عن صعدة في شمال اليمن.. الإعلام يصور جنوداً أنيقين، وطائرات من دون طيار، وضباطاً بلباس فاخر، ومسؤولين على مقاعد مذهبة... الكاميرا لم تنقل ما تتناقله وسائل إعلام بدائية عن مجازر يرتكبها القصف بحق أطفال ونساء وشيوخ ورجال، تقطعت أوصالهم، بترت أياديهم، لم يجدوا من يدفنهم، ومن بقي منهم على قيد، ما بين الحياة والموت، يتعثر بدموعه وآلامه، بحثاً عن مكان يلجأ اليه، قبل أن تدهمه غارة ثانية.

 

إنها غائبة عن مناطق القصف الجوي في أفغانستان، حيث طيران الإبادة يحلق عاليا ـ ضارباً الرقم القياسي في قتل الأبرياء، بحجة مطاردة الإرهابيين... إنها غائبة عن مجاهل باكستان المتروكة في العراء، لقصف منهجي متتابع، لا حدود زمنية له... انها غائبة كليا عن الفضيحة وحاضرة حيث يكون أوباما المعسول، لتبارك نواياه، وتبرز طيبته، وتبرر عجزه..

 

الكاميرا غائبة عن الأنفاق في غزة، ومن يدفن حياً فيها، ومتغيبة عمداً، عن شعب، تعداده مليون ونصف مليون، يعيش في ما لا يوصف من فقر وحاجة ومذلة وركام في غزة... الكاميرا غائبة عن فظائع الجدار الفاصل بين فلسطين وفلسطين، وبين أحياء في بغداد، وبين العراق وسوريا.

 

الكاميرا غائبة، بقرار يومي، يمنع وسائل الإعلام المقبوض عليها، وهي بنسبة 95% من الإعلام العالمي، من نقل، مجرد نقل سطحي، لأي مشهد درامي، يسيء إلى صورة الأميركي، التي شاء العالم أن تكون اليوم، على صورة باراك أوباما... وصورته، لا يجوز تلطيخها بالدم. علماً بأن الوضع الدولي، وسفك الدماء، ازداد كثيراً، عما كان عليه، في زمن سلفه جورج دبليو بوش.

 

قد تكسب الكاميرا العمياء معركتها، إذا كان من يراقبها أعمى مثلها. ولدينا في العالم العربي، أعداد مليونية، قررت أن تسبل عيونها، وأن تحجب أنظارها، وأن تمتع أبصارها، بما لذ وطاب من كرنفال النفاق السياسي العالمي.. شعوب تحب قاتلها.

 

قد تكسب الكاميرا العربية الرسمية المعركة، فهي مشغولة دائماً، بتنظيف السلطة، وتبييض صفحتها، وتأهيل الورثة فيها، والتعتيم على سراديب الحل والسياسة والجنس والرخص والتفاهة. غير أن عيونا أخرى، لم تلوثها عوارض الزيف، ولا تزال قادرة، على تخيل ما يحدث، وإعادة تصويره في وعيها، ومتابعة الأحداث، وفق ما هو متجاهل من وسائل الإعلام العالمية، ووفق ما هو معلوم باليقظة والمعرفة والوعي.

 

لقد أسقطت وسائل الإعلام الغربية دولا وشعوباً من دون طلقة وهذا ما تمارسه في إيران.. فتحت دول وشعوب أبوابها وسياداتها وثقافاتها، لغزو ناعم، قادته وسائل إعلام بالغة النعومة، ودقيقة التصويب. لقد استطاعت أن تغير أراضيَ ودولا وثقافات ومعتقدات وأديانا، ولكنها، لم تستطع أن تجعل الاحتلال جميلاً. ولم تعرف كيف تحول طعم القتل ليصبح لذيذاً.

 

لذا، فحيث يكون الاحتلال، لست بحاجة إلى كاميرا، بل إلى سلاح. وحيث يكون قتل، لست بحاجة إلى دموع، بل إلى قبضات. الأمران متوافران، برغم الصعوبات.

 

لذا: زمن الكاميرا إلى حين.. وزمن القبضات، إلى كل حين. فهل لا تزال المعركة في أولها؟

على الأرجح، أنها كذلك.

"السفير"