خبر عام على المحرقة .. خيامٌ في مهب الريح وذكرياتٌ تحت الركام

الساعة 07:05 ص|28 ديسمبر 2009

فلسطين اليوم : غزة والوكالات

الحرب على قطاع غزة لم تنته بعد، وآثارها لا تزال ماثلة في عيون آلاف المشردين المقيمين في خيام مهترئة، وآهات الجرحى والمعاقين الذين يحملون جروحاً غائرة في أعماقهم . وتزداد معاناة سكان القطاع الساحلي الصغير والفقير مع الحصار الخانق المضروب عليهم منذ نحو ثلاثة أعوام .

غزة صمدت في وجه الحرب والحصار، لكن الأوضاع المعيشية المتدهورة لسكانها، والتردي الحاصل في مستشفياتها ومؤسساتها ومناحي الحياة كافة، تشكل مأساة إنسانية حقيقية ربما لم يتعرض أي شعب لمثلها في هذه المعمورة في العصر الحديث، فحرب الإبادة التي بدأت قبل عام تتواصل يومياً من خلال تداعياتها التي يتحمل شعب القطاع أوزارها وحيداً من دون مغيث أو معين، وكأنه كتب على هذا الشعب أن يعيش محرقة متواصلة جراء سياسات همجية صهيونية- غربية تستهدف تصفية القضية وأهلها .

خيام في مهب الريح

لا يكاد صالح أبو ليلة يصدق أنه قضى عام كامل مع أفراد أسرته الخمسة عشر في خيمة مهترئة لم تقيهم حرارة الصيف ولا برد الشتاء .

ويقول صالح (52 عاماً) إنه فقد الأمل بإعادة إعمار منزله المدمر بسبب الانقسام والخلافات الداخلية والحصار “الإسرائيلي” المضروب على قطاع غزة ومنع سلطات الاحتلال إدخال مواد البناء ومستلزمات إعادة الإعمار.

ويشكو صالح بمرارة من الإهمال الذي يواجهه المشردون من أمثاله بعد انتهاء الحرب . ويقول: “كنا مزاراً للجميع لبضعة شهور بعد انتهاء الحرب . زارتنا وفود محلية وعربية ودولية . لم ننل منها إلا كلمات التعاطف والتضامن . لكن الآن لم يعد أحد يذكرنا إلا في المناسبات” .

ولم يستطع صالح مغادرة خيمته واستئجار منزل للإقامة فيه كما فعل آخرون ممن فقدوا الأمل في حل قريب لمعاناتهم، ولم يستطيعوا الصمود في وجه برد ورياح الشتاء .

ومن بين مئات الخيام في مخيم “الثبات” الذي أقيم في منطقة العطاطرة شمال قطاع غزة للمشردين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم خلال الحرب “الإسرائيلية” على غزة، لم يتبق سوى بضع خيام متفرقة يعجز أصحابها عن مغادرتها ولأن لا مأوى لهم سواها .

وشردت الحرب “الإسرائيلية” على غزة حوالي 60 ألف أسرة بعد استهداف منازلها خلال 22 يوماً من القتل والتدمير .

ويحاول صالح التأقلم مع حياة الخيمة بعد انقضاء عام على الحرب، ويقر بفقدانه الأمل في إعادة اعمار منزله المدمر، لكنه يبدو في قمة الحزن على أبنائه الصغار، ونظرات الحزن التي تملأ عيونهم، وتراجع مستواهم في الدراسة .

ويتساءل صالح والحزن يعتصر قلبه والمعاناة ظاهرة في قسمات وتجاعيد وجهه: كيف لهؤلاء الصغار أن يستوعبوا دروسهم وهم يفتقرون إلى حياة الاستقرار .

وهنا تدخلت كفاح (7 أعوام) ابنة صالح، وتحدثت عن فقدانها كتبها ودفاترها في ليلة ماطرة عصفت بالخيمة، وكادت أن تقتلعها . وقالت إنها لم تتمكن في اليوم التالي من الذهاب للمدرسة لأن ملابسها غرقت بسبب المطر ولا تمتلك غيرها .

وتعترف كفاح بتراجع مستواها في المدرسة بعد الحرب، وتقول: “كنت الأولى في الروضة، لكن درجاتي الآن متدنية، وبصعوبة أستطيع فهم ما تشرحه المعلمة” .

وتحتفظ كفاح في ذاكرتها المليئة بالأحزان بذاك اليوم الذي اقتحم فيه جنود الاحتلال “الإسرائيلي” منزلهم في بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، وانهالوا على والدها بالضرب المبرح قبل أن يقتادوه معهم غير آبهين بصراخ أطفاله .

ويكمل صالح ما لم تشاهده ابنته كفاح، اذ احتجزته قوات الاحتلال “الإسرائيلي” مع 12 فلسطينياً من سكان البلدة في غرفة واحدة لستة أيام، حرمتهم خلالها من الأكل والشرب والحركة .

ويشير صالح إلى أنه طلب من أحد جنود الاحتلال أن يشرب ماء، فرد عليه الجندي المليء بالحقد والكره أنه لو امتلك القرار لقتلهم جميعاً .

ويقول صالح: “بعد توقف الحرب عدنا إلى منازلنا على أمل أن نجدها، ولكننا صدمنا من هول ما رأينا . لقد غيرت قوات الاحتلال معالم المنطقة، ولم تبق على منازل ولا شجر . لقد دمرت كل شئ، وبدت المنطقة وكأنها تعرضت لزلزال مدمر” .

حامل تحت النار

وتتذكر أم صابر (40 عاماً) زوجة صالح، كيف نجت بأعجوبة مع أطفالها من المنزل قبل أن تدمره قوات الاحتلال، وقالت: “خرجنا من المنزل بالملابس التي نرتديها، حتى إن بعض أطفالي خرجوا حفاة، ولجأنا إلى “مخيم الثبات” لنعيش في خيمة لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة .

كانت أم صابر حاملاً في الشهر الثاني في طفلتها “حنين” عندما اندلعت الحرب على غزة، وكادت أن تجهض بسبب استنشاق الغازات السامة المنبعثة من القنابل والأسلحة “الإسرائيلية”.

وقالت “لقد شاء الله أن ألد طفلتي حنين بعملية قيصرية، قضيت على إثرها أسبوعين في المستشفى، وليلة أن عدت إلى الخيمة كان المطر غزيراً، ولم أستطع أن أغادر وطفلتي خيمتنا إلى عيادة “أونروا” المجاورة مع باقي العائلات المهجرة، فوضع زوجي فوقنا قطعة من النايلون، قضينا تحتها حتى الصباح”.

وأضافت: “ظل أطفالي الباقون الذين ذهبوا مع الجيران إلى العيادة طوال الليل من دون أغطية، ولم تستطع ملابسهم التي بدت قديمةً ومهترئة أن تحميهم من البرد القارص، كما لم تسمح إدارة العيادة ببقائهم فيها، وطردتهم بمجرد طلوع الفجر”.

وتبدو أم صابر في قمة القلق على صحة طفلتها “حنين” التي تعاني من اتساع في عنق المعدة ولا يكاد وزنها يتغير بسبب عدم استقرار الطعام في معدتها.

وبينما كانت أم صابر منهمكة في غسيل ملابس بدت قديمة ومهترئة، لم تكف عن الشكوى من تدهور حياتها بعد الحرب، وقالت وهي تشير بيديها إلى الخيمة: “حتى الحيوانات لا تستطيع أن تعيش هكذا عيشة”، وقالت: “إذا عاشت حنين اليوم فلا أمل لدي في أن تعيش ليوم آخر. فلا أحد يسأل عنا، ووضعنا المادي لا يسمح لنا بتوفير نوعية خاصة من الحليب وصفها الأطباء لمثل حالتها” .

وتشير أم صابر إلى أن الحكومة في غزة وفرت في خيمتها المياه والكهرباء التي تنقطع لفترات طويلة فتجعل دراسة الأولاد مستحيلة وتحديداً في هذه الأيام التي تغيب شمسها بعد وقت وجيز من عودة طلاب الدراسة المسائية من مدارسهم.

وتتحدث بمرارة عن افتقاد دورات المياه العامة في المنطقة للمياه الساخنة التي تبدو ضرورية لغسل الأواني وملابس الأولاد والاستحمام، خاصةً في ظل غياب المال اللازم لشراء الحفاظات (الفوط الصحية) للرضيعة .

ولا تخفِ أم صابر وزوجها صالح مخاوفهما من حرب “إسرائيلية” جديدة على غزة، ويعتقدان أن استمرار الانقسام والخلافات بين حركتي “فتح” و”حماس” يشجع الاحتلال على ارتكاب مزيد من الجرائم. وبلغ اليأس بصالح وفقدانه الأمل في انفراج الأزمة الداخلية قريباً إلى حد الاعتقاد أن “لو أبو عمار موجود لما صار فينا اللي صار” .

خيام بلا رجال

وفي خيمة مجاورة لأسرة صالح، تقيم كوثر معروف (42 عاماً) مع أبنائها العشرة، منذ أن فقدت منزلها المكون من طبقة واحدة في حي الأمل في مشروع بيت لاهيا شمال القطاع .

وتتذكر كوثر بألم ومرارة عندما استهدفت قوات الاحتلال الحي بقنابل الفوسفور الأبيض، التي أشاعت سحابة بيضاء أفقدتها القدرة على رؤية أبنائها، وسط قصف مكثف من الطيران الحربي والدبابات، وقالت: بحثت عن أبنائي وخرجنا بملابسنا التي نرتديها، وتركنا وراءنا كل ما نملك لتأكله النيران ويدفن تحت الركام.

ولجأت كوثر مع أبنائها إلى إحدى المدارس التي حولها المشردون إلى ملاجئ إيواء، ومكثت فيها لشهر بعد انتهاء الحرب، وانتقلت بعدها للعيش في خيمة .

وتعاني كوثر من ضيق شديد في التنفس جراء استنشاقها الدخان المنبعث من القنابل الفسفورية خلال الحرب، وتتلقى علاجاً لا تقوى غالباً على شراء دوائه .

وتزداد معاناة كوثر مع غياب زوجها، وإعالتها اثنين من أبنائها معاقين، أحدهما جاكلين (13 عاماً) التي فقدت نسبة كبيرة من سمعها وبصرها بسبب الحرب، فيما ابنها رمضان (14 عاماً) يعاني من إعاقة عقلية .

وتقسم كوثر أنها لا تمتلك ثمن قطعة من النايلون (البلاستيك) لتغطية خيمتها وحمايتها من المطر، وتضطر إلى إرسال بناتها الثلاث الكبار للمبيت في بيت خالتهن لخوفها عليهن في خيمة لا تسترهن، ولا تمنع دخول الكلاب إليها خلال الليل .

وتشير كوثر إلى ابنها عمار (11 عاماً) الذي أصبح يعاني من التهابات جلدية مفرطة من قلة الاستحمام لقلة المياه الساخنة في الشتاء، وإلى ابنها حمزة (6 أعوام) الذي يصاب بالخوف الشديد إبان سماعه لأصوات البرق والرعد .

ولا تبدي كوثر تفاؤلاً بإمكان مغادرتها الخيمة إلى بيت ذي جدران يسترهم ويلم شملهم من جديد، وتتساءل: “كيف للعالم أن ينظر إلينا بعين الرحمة ونحن لا نرحم أنفسنا؟” .

وعلى بعد أمتار من أسرتي كوثر وصالح، تقيم شيرين البل (25 عاماً) مع طفلتها هداية ذات العامين ونصف العام .

يقيم زوج هداية مع زوجته الثانية لدى أهلها، فيما وفرت شيرين مستلزمات الحياة البسيطة من عائلتها كي تساعدها على مواصلة حياتها في خيمة صغيرة بالكاد تتسع لها ولطفلتها .

ويبدو طموح هداية متواضعاً فهي تطالب بمبلغ شهري يساعدها على تكاليف الحياة الباهظة والاسعار الملتهبة بسبب الحصار .

هواجس حرب جديدة

ولم يحتمل خليل العطار (49 عاماً) الاقامة في الخيمة لأكثر من ثلاثة شهور، انتقل بعدها مع أفراد أسرته السبعة للاقامة في شقة صغيرة تعود لأحد أقاربه .

ويمتزج حديث خليل عن منزله المدمر كلياً بين الفخر والحزن، ويقول وهو يشير إلى كل ركن في المنزل بما له من ذكريات في مخيلته: في هذا المنزل نفذت المقاومة عملية قتلت فيها ثمانية من جنود الاحتلال، قبل أن تقصفه الطائرات وتدمره بالكامل .

أخرجت قوات الاحتلال خليل وأسرته من المنزل وحولته إلى ثكنة عسكرية، لترصد منه حركة المقاومين، الذين كانوا أكثر يقظة من مكر الاحتلال، ونجحوا في تفجير المنزل على من فيه من جنود الاحتلال .

ومنذ تفجير المنزل، وحتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لم تقو “أم محمد” زوجة خليل على رؤية المنزل مدمراً فوق ذكرياتها ويومياتها الزوجية والحياتية .

لم يخسر خليل منزله وحسب، ولكن مصيبته كانت أكبر بخسارته معدات ومواد زراعية قدرها بما يزيد عن 100 ألف دولار كانت تمثل كل ثروته التي جمعها بمعاناة وتعب سنين طويلة .

وقبل أن يجيب خليل عن توقعاته للمستقبل القريب ومدى أمله في انتهاء المعاناة، سارع نجله محمد (13 عاماً) وتساءل ببراءة: “معقول ممكن ترجع غرفتي وألعابي”؟

ويبدي محمد حزناً شديداً على غرفته الكبيرة في منزله المدمر، ويقول: كانت غرفة جميلة. فيها خزانة ومكتب وألعاب، والآن لي غرفة صغيرة في شقة صغيرة، ويقيم معي فيها أشقائي. ويشعر محمد، الذي تأثر تحصيله العلمي وبات متأخراً بين أقرانه في المدرسة، بخوف شديد كلما سمع عن الحرب، ويخشى من اندلاعها مجدداً.

الخشية من حرب جديدة تسيطر على المشردين وكثير من سكان غزة، الذين لم ينسوا بعد مشاهد القتل والدمار، ولم يكن العام الماضي كافياً ليساعدهم على نسيان جرائم الحرب ومحوها من ذاكرتهم.