خبر حنين الغزاوية.. الابتسامة حينما تهزم اليأس

الساعة 06:04 م|10 ديسمبر 2009

فلسطين اليوم: صهباء بندق

في الثاني من يناير 2009م الساعة الحادية عشر صباحاً؛ كانت حنين خالد محمد بصل (17عاما) تقف بجوار باب المنزل مع خالها.. عندما سقط الصاروخ الإسرائيلي ليغير حياتها إلى الأبد.. ويقذف باسمها في قائمة ضحايا الجرائم الوحشية للحرب الإسرائيلية على غزة، لكن هذه الفتاة الشجاعة حولت المأساة انتصارا.

كانت الصواريخ تتساقط من السماء، وكان الأبرياء في غزة يتساقطون أيضا تحت حممها الدامية، حتى أن المشافي كانت مكتظة بهم على نحو فاق استيعاب الغرف، فامتلأت جدران الأروقة بأسرّة يحمل كل منها جسم جريح فقد واحداً أو أكثر من أطرافه.. كان الناس يتهامسون خائفين: "إنها تتساقط كحمم الجحيم، أين يمكننا الاختباء منها؟"..  كانوا يبتهلون إلى الله فهو وحده القادر على إنقاذهم بعد أن خذلهم العالم.

وفي حيّ الزيتون؛ كانت حنين الطالبة في الصف الثاني الثانوي تستعد لدخول الامتحان؛ كان التيار الكهربائي المقطوع يغلف الحي بوشاح كئيب من العتمة.. أشعلت حنين شمعة وعزلت نفسها في غرفتها لتواصل الدراسة تحت القصف.

ليلة من نار

تقول حنين أنها - من بين أخوتها وأخواتها - لم تكن خائفة في تلك الليلة على الرغم من ارتفاع وتيرة القصف وانتشار الذعر بين الناس.. وتساءلت ببراءة طفولية عن سر إحساسها الغريب بالطمأنينة والسكينة وهي تجلس وحدها في غرفتها تلك الليلة.

أطبق الظلام وجلست حنين بثبات وشجاعة.. تحتضن كتابها تحت بقعة الضوء المنبعث من شمعتها الصغيرة.. بعد فترة غفت عينها ونامت في حضن كتابها كما ينام الرضيع على صدر أمه.. وما كادت تغمض عينيها حتى أفاقت مفزوعة على صوتٍ قوي تبعته قرقعة رهيبة أدركت بعدها أن الصاروخ قد أصاب غرفتها ودمر ذلك الجزء من منزل أسرتها.

هرعت أسرة حنين إلى خارج المنزل في نوبة من الذعر والخوف وحاولوا التوجه إلى منزل جدهم لأمهم الذي لا يبتعد كثيرا عن منزلهم، ظناً منهم أن سقف بيت الجد المبني من الأسمنت سيكون أكثر أمانا من سقف منزلهم المتواضع المبني من الأسبيستوس ( الزينجو) .. ولكن حتى هذا الحلم البسيط تبدد؛ فقد منعهم من الوصل إليه شدة القصف وصوت طنين الطائرات المتربصة بكل حركة.. وعادت الأسرة الشاردة إلى منزلها بانتظار قدر الله فيها.

الصباح الدامي

أمضى أفراد الأسرة الباسلة ليلة يقف الموت على باب كل ثانية من ساعاتها؛ لا شئ يطل عليهم سوى لهيب القذائف الحارقة، ولا صوت يصافح آذانهم سوى عويل القصف المتواصل.

وفي الصباح؛ أرسلت الأم نوال صادق عاشور (48 عاماً) ابنتها إلى بيت جدها، كانت تحرص بشدة على أن تتم حنين دراستها بالمرحلة الثانوية وألا تتوقف لظروف الحرب.

انتقلت حنين الخفيفة الروح المُحِبّة للمرح إلى بيت جدها؛ حيث الخال فرج صادق حسين عاشور (18 عاما) الذي تحبه كثيرا وتتندر لكونه خالها ولا يكبرها سوى بعام واحد.. وفي شارع صلاح الدين وبينما تقف حنين مع خالها أمام باب البيت؛ ألقت طائرات الموت جنينها البغيض، ولم تشعر حنين بشئ قبل أن ترى منظر المجزرة البالغ البشاعة.. وجدت نفسها تجلس على رجلها اليمنى وقد قطعت وانثنت تحتها ورجلها اليسرى مشوهة تماما بعد أن تهرأت وتناثر لحمها على الأرض.. كانت الدماء الغزيرة تتفجر في كل مكان، وشعرت حنين بملابسها وقد انصهرت وشعرها المحترق بفعل الصهد المنبعث من انفجار الصاروخ.. كان كل جسدها قد اصطبغ بلون الدخان الأسود.

بقيت حنين هادئة وانتظرت بشجاعة إلى أن وصل أهل الحي وبدأت طواقم الإسعاف في الوصول.. كان الشارع خالياً تماماً وكان عليها أن تنتظر وحدها وصول النجدة بعد أن غاب خالها عن الوعي وظل ينزف وقد تهتكت أطرافه وفقد رجليه، بعد ذلك تم نقلها إلى مستشفى الشفاء، وظلت بكامل وعيها حتى منتصف الليل ولم تشعر بأي شئ بعد ذلك؛ حيث تمدد جسدها الممزق في غرفة الرعاية المركزة لثلاث ليال متتالية قرر الأطباء بعدها نقلها إلى إحدى المشافي المصرية لتلقي المزيد من الرعاية الصحية.

وفي السابع من يناير دخلت حنين الغائبة عن الوعي برفقة والدتها قسم الرعاية المركزة بمستشفى قناة السويس بالاسماعيلية؛ وكان عليها أن تنتظر هناك لعشرة أيام أخرى بين الموت والحياة.. كانت تعاني من ارتشاح بالدماغ وكان التجمع المائي يضغط على مراكز حيوية بالدماغ ويحبس حنين في عالم غامض بين الأموات والأحياء.

كانت الأم الثكلى تتردد على سرير حنين بغرفة الرعاية.. تراقبها ودموعها الملتهبة تتساقط أمام زجاج الغرفة وقلبها يعزف ألحاناً مؤلمة تتصاعد إلى السماء في صورة دعوات تبتهل وتتوسل إلى الله القدير.

"فراولة المستشفى"

بعد عشرة أيام من الترقب والانتظار؛ دب اليأس في قلب الأم وغادرت غرفة الرعاية وهي تبكي مودعةَ ابنتها التي غادرت الحياة أو تكاد.. وفي صباح اليوم الحادي عشر، وفي ذروة لحظات اليأس والألم.. دقت إحدى الممرضات غرفة أم حنين لتخبرها أن ابنتها استعادت وعيها.. ومع دقات الباب انطلقت أجراس الفرح وتفجرت الكلمة الجميلة ( الحمد لله )، هللت الأم وهي تتحقق من الممرضة التي أجابتها بأن بإمكانها التأكد بنفسها.

في ذلك الوقت كانت حنين تستكشف المكان من حولها، وجدت نفسها وحيدة في غرفة غريبة مع عدد من الأنابيب تغزو جسدها.. قامت بنزع جهاز الوريد من يدها فسال دمها على الأرض، بعد ذلك جاءت اللحظة التي تقول حنين أنها كانت أصعب لحظة مرت عليها في محنتها حين حاولت أن تنهض من سريرها فلم تجد رجلها وسقطت على الأرض، ولكن ذلك السقوط كان في الحقيقة بداية النهوض ونفض تراب المأساة ومتابعة الحياة من جديد.

كانت حنين حديث مستشفى قناة السويس في ذلك الوقت وكان طاقم التمريض والأطباء يطلقون عليها اسم "فراولة المستشفى"، وفي قسم أمراض النساء والتوليد أطلق العديد من السيدات المصريات اسم "حنين" على مولوداتهن تيمناً بالفتاة الفلسطينية القادمة من غزة.

في 24 من شهر مارس غادرت حنين الاسماعيلية وانتقلت إلى مستشفى فلسطين بالقاهرة لتركيب الطرف الصناعي، كان وجودها مميزاً نظراً لكونها الفتاة الوحيدة بين الجرحى.. أذكر أنني عندما زرت المستشفى بعد وصولها تسابق كل من يعرفني من الجرحى لإخباري بوجود فتاة في المستشفى، وقبل أن أعرف المزيد عن تلك الفتاة.. تعالت الصيحات التي تناديني لأسعفها وقد سقطت وغابت عن الوعي، وأمام غرفة حنين التقيت بفتاة رقيقة كالزهرة.. شعرت بأن روحها تؤلمها بشدة، وأنها تعاني ألماً نفسياً هائلاً، كانت قد سقطت على الأرض عندما حاولت السير لبضع خطوات مرتكزة على كتف والدتها.

خطاوي الأمل

في الغرفة استعادت حنين وعيها وتعرفت عليّ لأول مرة.. وكانت تلك لحظة ميلاد صداقتنا، وشيئاً فشيئاً تكيفت حنين مع جو المستشفى.. تقول أنها تعلمت الصبر من إخوانها الجرحى الذين فقدوا أكثر من طرف من أطرافهم وأنها كانت تظن أن مصيبتها أعظم مصيبة في الكون إلى أن رأت في مستشفى فلسطين ما هو أعظم.

وبعد أن كانت غرفة حنين معزولة ومغلقة على فتاة محبطة ومدمرة، أصبحت ملتقى الأحباب والأصدقاء، وبفضل الله تعالى ثم العديد من الفتيات المصريات اللاتي واظبن على زيارة حنين وإدخال السرور إلى نفسها؛ تماثلت حنين للشفاء وتوقفت عن متابعة العلاج النفسي، وانطلقت ابتسامتها المشرقة لتهزم اليأس والألم، وتنشر روحاً من المرح والابتهاج في نفس كل يتعرف عليها.

واظبت حنين على جلسات التمرين، وتمكنت سريعاً من استخدام الطرف الصناعي بمهارة واقتدار.. كانت تمزح معي برفع الطرف الصناعي ووضعه فوق رقبتها فجأة أثناء جلوسنا معاً، وكنت أفزع من تلك الحركة بينما تتعالى ضحكاتها الساخرة.

ورغم أن نبأ آخر سيئاً قد عرف طريقه إلى حنين وأمها، إلا انها لم تفقد مرحها وابتسامتها العذبة، فقد علمت الأم والإبنة بسقوط صاروخ  على منزلهما المتواضع دمر كل ما بقي منه، ولكن الأم قالت باحتساب (إيش بدنا نخسر أكثر.. الحمد لله أن الدار كانت فاضية.. والله سلامة حنين بالدنيا)، وكدت أتجمد من الدهشة وهي تتعجب من زوجها الذي رفض مغادرة البيت لحماية "موتور الماء" الجديد من السرقة وقضى ليلة من الرعب وحيداً تحت القصف، ثم اضطر لمغادرة البيت فجراً وبعدها تم قصف البيت بالكامل.. كانت الأم الرائعة تحكي تلك المأساة وهي تضحك وتتندر وقد انفجرت الغرفة بضحكات الزوار والأصدقاء الذين تجمعوا حول فراولة المستشفى.. حنين.

غزة.. شمس حياتي

غادرت حنين إلى غزة برفقة طرف صناعي غير شكل حياتها، وبعد شهرين من عودتها من التقت بإحدى صديقاتها التي أخبرتها بإمكانية السفر إلى الإمارات عن طريق منحة لوكالة الغوث الدولية (الأنروا) لتأهيل الفتيات اللاتي فقدن أطرافهن في الحرب الأخيرة على غزة، وبالفعل تم التنسيق لسفر حنين مع خمسة من الفتيات اللاتي التهم الحقد الصهيوني أجزاء من أجسادهن الرقيقة حيث يخضعن لدورات مكثفة في مهارات الكمبيوتر وعلوم الحاسوب لمدة عامين.

وفي وقت قصير تطورت مهارات حنين كثيراً، وهي مصرّة على إتمام دراستها الثانوية والالتحاق بالجامعة.. وبعد رحلة مع العذاب والألم توهجت الشمعة الصغيرة التي أطفأها العدوان الاسرائيلي من جديد، وعادت حنين لاستئناف دراستها على ضوء شمعة الأمل العصيّة التي ظلت تتألق وتنير طريقها.

وما زالت الفتاة الشجاعة تتواصل معيّ ومع كل من ساهم في تجفيف دموعها ورسم الابتسامة على ثغرها عبر الإنترنت.. و من إمارة العين بالإمارات؛ حيث الرفاهية التي يسيل لها لعاب الزاهدين؛ ما زالت حنين تؤكد حبها الخالد لغزة.. البلد الأبعد ما يكون عن الرفاهية.. وفي آخر محادثة بيننا عبر الماسنجر قالت لي بروحها المرحة: ( اشتقت كثيراً لغزة.. إنها شمس حياتي، ومشتاقة كتير أرجع لها.. أنا بحبها كتير).