خبر 48 ساعة في دبي .. يديعوت

الساعة 03:10 م|04 ديسمبر 2009

بقلم: جاد ليئور

اسماعيل يقف في مدخل محله الفارغ "احلام الذهب" وينظر سارحا بمئات الرجال بجلابيبهم والنساء المحجبات الذين يمرون عن دكانه دون حتى ان ينظروا اليها. والى جانبه تقف، دون عمل هن ايضا، ثلاث بائعات. وفجأة اضاءت عيناه. سائح يدخل الدكان ويستطلع ببطء المجوهرات الذهبية الغالية التي يصل بعضها الى 50 الف دولار. بعد دقيقتين عادت النظرة الحزينة الى عينيه. السائح كما تبين، هو مجرد لجوج يسعى الى معرفة القليل عن الاجواء في الفرع في دبي بشكل عام. "نعم" تأوه باسى واضاف: "ايام عسيرة تمر علينا. مزاج مترد جدا إذ حتى  اغنياء دبي ليس لديهم هذه الايام الرغبة في ان يشتروا مجوهرات غالية لنسائهم وبناتهم".

من الصعب التقليل من شدة الضربة المعنوية التي تلقاها سكان دبي. من اللحظة التي هبطت فيها هذا  الاسبوع في الامارة  الغنية وجدت المهانة اللاذعة التي يحس فيها مواطنوها، الاسى الكبير الذي يلفهم في الايام العشرة الاخيرة. الكثيرون منهم يروون بانهم قدروا بان شيئا سيئا يوشك على الحدوث، ولكن احدا لم يخمن موعد وشدة الضربة الاقتصادية القاسية التي هبطت تماما قبل يومين من  عيد الاضحى على واحدة من الامارات السبع التي يتشكل منها اتحاد الامارات  العربية، وهي من أغنى الدول في العالم.

سكان دبي الاغنياء، 20 في المائة من سكان الامارة، لم يتضرروا بشدة بجيوبهم، ولكن من الحديث معهم ترتسم صورة واضحة جدا – كبرياؤهم تضرر بشدة. الكبرياء الضائع لمواطني الامارة الغنية مس بمزاجهم، ومثلما في الدائرة السحرية ابعدتهم عن المحلات وعن الحياة الرغيدة التي طابت لهم في العقدين الاخيرين.

في مدخل "ناشينال بنك أوف ام الكيوان" التقيت نائب مدير الفرع سعيد بن كيلون ورد على اسئلتي – كسائح آخر فضولي يهتم ببراءة بالسقوط الاقتصادي لدبي – في ما كان يعرض علي ان افتح حسابا في البنك. "جاءتنا هذه كالرعد في يوم صاف"، قال، "اعلم انه في دبي نسمع الرعد مرة كل خمس سنوات. هذه ضربة لم يخلقها الشيطان. انا اخشى جدا أن تعلق دبي لسنوات غير قليلة من الجفاف في البناء، في الاستثمارات وفي التنمية للبنى التحتية. كل الاعمال توقفت في الوسط. نحن لا يمكننا ان نعطي ائتمانا. هنا نخطط لاسوأ الشرور".

امارة دبي، اقل من 2.5 مليون نسمة على مساحة خُمس دولة اسرائيل، تلقت مع نهاية شهر تشرين الثاني ضربة ستستمر لزمن طويل الى أن تنتعش منها. ديون فورية بمبلغ 60 مليار دولار لا يمكن تسديدها فورا، ومصير ما لا يقل عن 70 مليار دولار اخرى من الديون بقي غير واضحا.

التقيت هذا الاسبوع دبي التناقضات. منذ بضعة اسابيع والرافعات الضخمة المنتشرة في ارجاء الامارة المزدهرة معطلة. فقد شم المقاولون شيئا ما قبل شهرين – ثلاثة اشهر، واعمال البناء المجنونة توقف في الامارة في معظمها. مع هذه الرافعات بنت في دبي في السنوات الاخيرة اكثر من خمسين شركة دولية اكثر من 200 ناطحة سحاب، بينها المباني الاعلى في العالم. خمسة مجمعات تجارية ضخمة لا توجد مثلها في أي دولة غربية بنيت هي ايضا. حجم احد المجمعات كحجم كل مركز المدينة في القدس. ويمكن بسهولة أن يضيع المرء وهو يسير في شوارعها الاصلية. كما بني ايضا مطار هو الاكثر المطارات تطورا في العالم، وفي كل المدينة تظهر في ذروتها اعمال بنى تحتية واسعة.

درة التاج هي مشاريع تحلية المياه والري. في هذه الصحراء، التي تصل فيها درجة الحرارة في الصيف الى 55 درجة مئوية، كل شيء متفتح واخضر. ليته عندنا. ويمكن فقط أن نحسد سكان دبي وقرابة مليوني عامليها الاجانب الذين يستمتعون هنا بكل لحظة.

 قبل اقل من ثلاثة اشهر فقط في 9/9/09، وهو التاريخ الفريد من نوعه  دشنوا في دبي قطار تحتي فاخر. وكان  هو وسيلة مواصلاتي في زيارتي الى هناك. نظيف، مريح، سريع، لطيف. كل ما لا تجده في القطارات الخفيفة من القدس وتل أبيب، اعوذ بالله. كما أن مسارات المواصلات العليا تثير الحسد. وينبغي أن يضاف لى ذلك المحلات التجارية المفتوحة لـ 24 ساعة في اليوم وشارع البنوك الفاخر خالد بن الوليد، الذي حتى لسكان منهاتن يوجد ما يحسدوه عليه. مبان ضخمة تستوعب الواحد الى جانب الاخرى البنك الوطني لابو ظبي وبالطبع بنك دبي، "فيرست غولف بنك"، بنك سدرات، الايراني، الى جانب المبنى الفاخر لسيتي بنك، بنك اتش.اس.بي. سي، وناشينال بنك اوف ام الكيواني.

 ولكننا قلنا أن دبي أي امارة التناقضات. الصدفة وحدها ادت الى أن اجد نفسي في الامارة الجميلة بالذات في عيد استقلال اتحاد الامارات – اليوم الذي اتحدت فيه الامارات السبع واصبحت قوة عظمى اقتصادية في قارة اسيا وفي العالم بأسره. وهكذا، الى جانب الاهانة والحزن، رأيت عشرات الالاف الذين يحتفلون بالشوارع وفي التجمعات التجارية ولكن حل محل المشتريات هذه المرة الرقص على اصوات الموسيقى العربية الحديثة والتقليدية معا، جلسة لعائلات كاملة في المطاعم والمقاهي في ظل اظهار العزة الوطنية التي نمت بالذات بسبب الازمة واظهرت برفع علم ملون للامارات من كل واحد وواحدة من سكانها المحتفلين، من الشيخ حتى الرضيع.

"نعم، انا حزين ومسرور في وقت لاحق"، قال لي ابراهيم، مدير حسابات في شركة سويسرية تعمل في دبي. "واضح منذ الان لنا جميعا بانه ستكون اقالات في الشركة. صديقي الافضل، من قادتها، سيذهب الى البيت رغم أنه ليس مذنبا في أي شيء. انا نفسي لست واثقا من أني لن اتلقى خطابا مثله. ولكننا نحن دبي حبا روحيا، وسنعيدها الى عظمتها في اقرب وقت ممكن"، ان شاء الله. وبينما كان يتحدث رفع ابراهيم علما ملونا آخر لدبي والصقه بعربة حفيده، سالم ابن الاسبوعين الذين خرج هو ايضا للاحتفال مع ذويه.

يخجلون من التبذير

 دخلت الى مقهى "السلطان" وسعيت لان افهم ما يتحدث به ابناء دبي المحبطين في هذا اليوم، بعد السقوط الاقتصادي الشديد. فوجئت، وليس للمرة الاولى في هذا اليوم (المفاجأة الاكبر كانت بانتظاري بعد ساعتين). الرجال الذين اقتربت منهم في مقهى سلطان تحدثوا معي مثل معظم سكان دبي بالانجليزية الطلقة بفضل الحكم البريطاني الذي كان هنا وأثر كثيرا على سكان الامارات. "نحن نتحدث عن كرة القدم"، شرح لي احمد بن خليف. الذي ظننت عن حق بانه ينتمي لاحدى العائلات الحاكمة في الامارات – يلبس باناقة، مع جلابية مذهبة وسلسلة من الماس تدور في يده. "نحن نتحدث عن لعبة الحرب البشعة التي كانت بين الجزائر ومصر وكذا عن المباراة التي ستكون يوم الاحد بين الزمالك والاهلي – الفريقان الخصمان في مصر. هذه السنة لن اسافر الى المباراة. فكيف سيبدو الامر اذا ما سافرت في هذا الوضع الى كرة القدم في القاهرة لابذر عشرات الاف الدراهم؟".

 في محل الحلويات لشبكة "عرفات سويت" وقفت شابة بعباءة سوداء من اخمص قدمها وحتى الرأس. كان واضحا لي انه محظور  علي باي حال أن اتوجه اليها ولكني فوجئت بانها ظنت انها تجاوزتني في الدور على القهوة وطلبت بالمعذرة. تجرأت على أن اسألها اذا كانت تشتري الحلويات كي تحلي القرص المرير للوضع الاقتصادي. المرأة التي لم ارى سوى عينيها قالت لي بالانجليزية الطلقة دون أي لكنة: "بدلا من شراء حذاء طلب زوجي أن نكتفي بشراء الحلويات لطفلينا". قالت وعرضت علي أن اتذوق حلوى لذيذة جدا. استجبت للعرض. بقيت وراءها في الدور، افكر بضمير يثقل هنا على الجميع. لديهم مال في الجيب ولكن المملكة مدينة بالمليارات، والمواطنون يوفرون ويخجلون من اجراء حملات شراء تظاهرية كما كانت عادتهم.

 السياحة الى دبي تضررت مؤخرا بشدة. سائق السيارة العمومية الاديب الذي اقلني من المطار الى الفندق في دبي روى بان "اعماله انخفضت منذ الازمة الاقتصادية في العالم بـ 30 في المائة، والان نحن نخشى من أن تتضاعف الاضرار. اليوم انت السفرية الثانية لي منذ الصباح وها نحن بتنا في الظهيرة". في استقبال الفندق روى الموظف، العامل الاجنبي من جورجيا بان الفندق مليء بنصفه فقط وانه قبل شهرين كان ينبغي  ان يتم توصية الغرف قبل اسابيع عديدة مسبقا. وبالمناسبة، 80 في المائة من سكان دبي هم عمال اجانب. البلدان الاصلية الرائدة هي ايران، الهند، بنغلادش، افغانستان وباكستان. يكاد لا يكون هناك فلسطينيون. معظمهم طردوا من هنا على مدى السنين. في دبي، كما يتبين لا يحبونهم على نحو خاص ويخشون من أن يبقوا كلاجئين الى الابد. عندما حاولت أمن استوضح ولو بالتلميح عما يفكرون في الامارة الغنية عن اسرائيل لم اسمع اقوالا شريرة. بالعكس، واحد يدعى احمد طلبت ان يلتقط صورة لي معه الى جانب يافطة الاستقلال اعرب عن التقدير للدولة المتقدمة وقال: "ليتني استطيع أن ازور اليهود، هذا يثير اهتمامي جدا أن ارى تل أبيب".

 في مجمع برجمان، الشوارع الطويلة التي بين المحلات التي لا نهاية لها، كان من الصعب ايجاد متر مربع فارغ. اهالي دبي يحبون المجيء الى هنا والتجول، ولكن منذ اعلان الامارة كقاصرة على التسديد يكاد لا يدخلون المحلات. ريتشارد، مهاجر من الهند، يسكن دبي منذ 23 سنة. وهو يعمل في النسيج. ماذا فعلت له الازمة؟ "انا لا انام في الليل. عندي 12 محل. قبل بضعة ايام فقط كنت في شرق اوروبا، في رومانيا، في بلغاريا/ في تشيكا كي استورد البضائع من هناك. فاما الان فاني اخشى ان اعلق بها".

محجبات ومكشوفات الرأس

 كما قلنا، دبي هي ارض التناقضات. الى جانب النساء المحجبات بجلابيبهن التي بالكاد تترك العينين حرتين من وراء القماش الاسود، رأيت في المجمعات التجارية وفي الشوارع مئات السائحات الامريكيات، الالمانيات والاسكندنفيات بالتنانير القصيرة وبالقمصان المفتوحة التي يبررها حرارة 30 درجة في بداية شهر كانون الاول. الى جانب المحافظة والاكراه الديني المتصلب في اوساط المسلمين المحليين رأيت دور سينما تتفجر بروادها تعرض الافلام الاكثر حداثة، من فيلم بودي الن وحتى فيلم نهاية العالم 2012. والى جانب بسطات مع ملابس بـ 4 درهم – دولار امريكي واحد – رأيت كل المحلات الاعتبارية الرائدة في العالم: زاره، دوتشيه آند جبانا، مورغن، لاكوست وحتى كولمبوس كافيه نيويورك وبالطبع ستاربكس في كل زاوية تقريبا.

 والان الى المفاجأة التي ذكرتها من قبل: عندما كنت في محل اعتباري للادوات الرياضية، رأيت في المحل غطاء رأس معروف فوجدت عندما اقتربت اليه أنه الغطاء الاصفر لفرقة مكابي تل ابيب لكرة السلة. فوجئت. ما الذي يجعلكم تبيعون شعار فرقة من اسرائيل؟ سألت البائع، رفيق، بشبه غضب ودون أن اقول اني محب جدا لهبوعيل القدس. جوابه فاجأني اكثر: هذه فرقة كانت بطل اوروبا في سنوات عديدة. لدينا في دبي الكثير من مجمعي الغطاءات والشعارات وبالطبع فاني استوردها لهم ويوجد ايضا قميص لـ تل ابيب. بل اني كنت اريد أن اراهم يلعبون". اتريد ان تقول لي بانكم مستعدون لان ترون مكابي تل أبيب في دبي؟ البائع لا يتشوش: "بالطبع عندما يكون سلام كامل سندعوهم الى هنا".

 يوم مغادرتي الامارة، قبل الظهر، وقف اسماعيل امام محله الفارغ. ابتسم لي عندما لاحظني اقترب. اليوم ايضا محلي فارغ"، قال. حييته سلاما وقررت ان هذه المرة السائح اللجوج لن يضيف الى حرجه.