خبر الجهاد في القرآن والحديث .. محمد عابد الجابري

الساعة 11:48 ص|01 ديسمبر 2009

بقلم: محمد عابد الجابري

من المفاهيم الإسلامية الأصيلة مفهوم "الجهاد" الذي يترجم خطأ إلى اللغات الأجنبية بمعنى "الحرب المقدسة" وهو معنى غير مناسب وغير دقيق! فما "الجهاد"، إذن، من المنظور الإسلامي؟

نقرأ في معاجم اللغة: الـجَهْد (بالفتح) : الـمشقة، يقال :" اجْهَدْ جَهْدَك في هذا الأمر"، أي ابلُغْ غايتك. والـجُهْد (بالضم) الطاقة. ولا يقال اجْهَدْ جُهْدَكَ. أما في القرآن الكريم فلم يرد لفظ "الجهاد" كـ"اسم معرف بأل" (هكذا الجهاد) وإنما ورد الفعل (جاهد، يجاهد) والمصدر: "جهاداً" مقترناً في الغالب بفعله، ولم يرد منه في الذكر الحكيم مصدر المشاركة (مجاهدة) مثل "قاتل مقاتلة" لأن فعل "الجهاد" هو من جانب المسلم، لأنه يقاتل دفاعاً عن النفس أو في سبيل الله. أما مقاتل المسلم فيقع خارج هذا المعنى.

وردت ثلاث آيات مكية في القرآن ذكر فيها "الجهاد" والمعنى فيها منصرف إلى "غير القتال" بالسيف أو غيره، لأن القتل والقتال لم يكن أسلوباً في الدعوة في المرحلة المكية، وبالتالي فمعنى "الجهاد" في الآيات المكية ينصرف إما إلى معنى الحِجاج والإقناع (القتال بالكلمة، لا بالسيف)، وإما إلى قمع هوى النفس، وكبح الشهوات... الخ.

الآية الأولى (حسب ترتيب النزول) هي: قوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم: "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ (بالقرآن) جِهَاداً كَبِيراً"، ( الفرقان 52). والمعنى: "لا تطع الكافرين فـيـما يدعونك إلـيه من أن تعبد آلهتهم، ولكن جاهدهم جهاداً كبـيراً (جادلهم وأقم الحجة عليهم)، حتـى ينقادوا للإقرار بـما فـيه" (الطبري).

والآية الثانية هي قوله تعالى : "وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت 6)، والمعنى: "وَمَن جَاهَدَ" نفسه في منعها مما تأمر به، وحملِها على ما تأباه "فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ" لها، لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمَر الله، عز وجل، ونهى رحمة لعباده؛ وهو الغني عنهم وعن طاعتهم" (الزمخشري). وهذه الآية هي كقوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ" أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد" (ابن كثير).

والآية الثالثة قوله تعالى : "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت 69) والمعنى : "الذين يعمَلون بما يعلَمون، يهديهم الله لما لا يعلمون". وفي هذا المعنى نفسه قوله عليه الصلاة والسلام : "من عمِل بما علِم علّمه الله ما لم يعلم" (القرطبي، ابن كثير... الخ).

هذا عن الآيات التي نزلت في مكة عن "الجهاد" أما في المدينة (أو في الطريق إليها) فقد نزلت آية الإذن في القتال في السياق التالي: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ! وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج 38- 40): ثلاث آيات تشكل سياقاً واحداً مجمل مضمونه: إن الله هو الكفيل بالدفاع عن الذين آمنوا، في مكة قبل الهجرة، والذين كانوا يتعرضون للظلم والأذى من طرف مشركي مكة، وبالتالي فعلى هؤلاء المسلمين ألا ينساقوا مع الرغبة في الانتقام من كفار قريش بنفس أسلوب هؤلاء، القائم على القتل غيلة (الاغتيال)، أي دون مواجهة صريحة تتيح للمعتدَى عليه الدفاع عن نفسه. لقد أكد سبحانه وتعالى أنه لا يقبل مِثْل هذه الردود التي وصف من تصدر منه بالخيانة والكفر. لكن بعد أن أصبح المسلمون قوة مادية في المدينة بعد الهجرة إليها، فإن الله يأذن لهم بقتال كفار قريش، أولئك الذين ظلموا المسلمين فقتلوا منهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق... الخ. وقد بين تعالى أن الحكمة في الإذن بالقتال هي "دفع الناس بعضهم ببعض": بمعنى دفع ظلم بعض الناس لبعضهم بإقرار حق الدفاع للمظلوم عن نفسه ودينه وماله... الخ. والقتال المعني هنا هو المواجهة الصريحة المعلنة التي تخلو من الغدر بالخصم وقتله غيلة. وقد أكد تعالى هذا المعنى في القرآن الذي نزل في المدينة فاستنكر الغدر بالعدو أو اغتيال أفراده من دون مواجهة صريحة تجعل كلاً من المسلم والكافر على علم بنية الآخر في مقاتلته. قال تعالى: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ (تعلمن) مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (أعلمهم أنَّك نقضت عهدهم لئلا يتوهَّموا منك الغدر)، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ" (الأنفال 58).

بمجرد ما وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أخذ ينظم حملات "جهادية" ضد مصالح قريش التي أخرجت المسلمين من ديارهم، فكان التعرض لقوافلها التجارية والدخول مع أصحابها في مواجهة عسكرية واضحة لا خيانة فيها ولا غدر. وكذلك الشأن عندما تطورت هذه الحملات الجهادية إلى حرب صريحة بين الرسول وجنده من المهاجرين والأنصار وبين زعماء مشركي مكة ومن تحالف معهم من القبائل من داخل مكة أو من خارجها. وجميع ما نزل في المدينة من آيات في القتال والحث على الجهاد بالنفس والمال كان يخص الحرب بين المسلمين الذين ظُلموا وأخرجوا من ديارهم... الخ وبين المشركين (وحلفائهم) الذين ظلموهم في مكة وخارجها. والمنطق العام الذي يسري في جميع آيات "الجهاد" التي نزلت في المدينة هو قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (البقرة 218)،.

وقد بين الرسول الكريم نطاق الجهاد في أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ (فتح مكة) ولكنْ جِهَادٌ ونِيّةٌ". قيل: والـمراد بالنـيّة هنا إِخلاص العمل للَّه، أَي أَنه لـم يبقَ بعد فتـح مكّة هجرةٌ لأَنها قد صارت دار إِسلام، فلم تعد منها الهجرة ذات قيمة وإِنما بقي الإِخلاص فـي الـجهاد. وقد حدد بعضهم حَقيقة الجِهاد بصورة عامة بأنه: "استفراغُ الوُسْع والجُهْد فيما لا يُرْتَضَى وهو ثلاثةُ أَضْرُبٍ: مُجاهدةُ العَدُوِّ الظاهِرِ، والشيطانِ، والنَفْسِ. وتدخل الثلاثةُ في قوله تعالى: "وَجَـهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ" (الحج: 78). وفـي الحديث أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يَجْهَدُ الرجلُ مَالَه ثم يقعد يسأَل الناس"، والمعنى: "لا يجهد ماله أَي يعطيه ويفرقه جميعاً هنا وهناك" إلى أن يصير فقيراً مُعدماً. وقد ورد أَن رجلاً قال للنبـيّ: أُبايعك علـى الـجهاد، فقال (النبي): "هل لك من بَعْلٍ؟ (أي من تعوله وتجب عليك نفقته كالأولاد والوالدين"؟ ومن هنا استخلص الفقهاء أن من شروط الجهاد الذي هو فرض كفاية (إذا قام به البعض سقط عن الباقي) إذن الوالدين، وعدم تعريض الأطفال للعسر والإهمال... وللمقال صلة.