خبر الموت نكايةً بالحياة .. ياسر قشلق

الساعة 10:33 ص|26 نوفمبر 2009

بقلم: ياسر قشلق

مؤكد أننا لا نرتبط ـ نحن اللاجئين الفلسطينيين ـ بأية علاقة عضوية مع وطننا الأم فلسطين، كل ما هناك مجرد علاقة روحانية مع وطنٍ ولد فينا مع حكايا الجدات.. واستمر ينمو يوماً بعد يوم إلى أن جاء الوقت الذي سرقنا فيه من وعينا فأصبحنا نعيش فيه بعد أن كان يعيش فينا!

من الممكن لهذا الارتباط الروحاني بين اللاجئ ووطنه والبعيد عن أي اتصال حسي مباشر أن يفسر «شغف» بعض اللاجئين بالأرض حد الجنون، كما أن له القدرة على تفسير وقوف بعضهم الآخر موقف الزاهدين فيه وكأنه لا يعنيهم، ذلك كونهم غير مؤمنين سوى باتصال فيزيولوجي (مادي) بينهم وبين الأرض حتى يرتبطوا بها. إلا أن ما يعجز هذا الارتباط الروحي عن تفسيره هو موقف بعض فلسطينيي الداخل الباقين قهراً من لاجئي الخارج المبعدين قهراً، فهذه العلاقة الروحانية على قداستها وجمالها الخالصين ليست كافية بنظر كثيرين في الداخل لحديث اللاجئ عن فلسطين، حتى أن بعضهم يذهب إلى توصيفها بأنها «حالة حب من طرف واحد»، ما يعطي الامتياز والحق بنظرهم لبعض قياداتهم للمساومة على أبسط الحقوق مثل «حق العودة»، دون أي تأنيب للضمير، ضميرهم.

في مقابل ذلك؛ لا تبدو نظرة اللاجئ الفلسطيني إلى «قياداته» بحال أفضل من تلك، فهو أيضاً لا يعترف بسلطتها الهشة الممزقة، وبالتالي فهو يُسقط من اعتباراته جميع ما يترتب على وجودها الطارئ من اتفاقات ومعاهدات على الساحة الفلسطينية، ولعل أجزل وأبسط توصيفٍ سمعته لحال السلطة الفلسطينية هو ما جاء على لسان شيخ سبعيني في مخيم «البداوي» في لبنان حين قال لي: «لن أعترف يوماً برئيس سلطة سماه أعدائي وأعداؤه..»!

وصفٌ جدُّ طبيعي، فالسلطة الفلسطينية حين جاءت نتيجةً لاتفاقات أوسلو «المباركة» حملت على صدرها «وسام النصر» جائزةً مقدمة من محتلها الصهيوني هذه المرة، ليس لإنجازٍ حققته ضده، بل «لإنجازٍ» سوف تحققه ضد أبناء شعبها لاحقاً، وهذا ما جرى بالفعل وللسبعة عشر عاماً التي تلت الاتفاقات مآسٍ ترويها في إثبات ذلك.

ليس غريباً بعد هذا أن يأتي يومٌ تحتفل فيه إسرائيل بعيد الشهيد، شهيد السلطة، وليس غريباً أيضاً أن تكرم المناضلين على منصة التاريخ الذي لا تاريخ فيه سوى لدمارنا ولهزيمتنا ولموتنا بين موتين، موتنا على أيديهم وموتنا على أيدي أبناء جلدتنا..

قال لي مقدسيٌّ في توصيف ما انتهينا إليه وكان قد زارني قبل مدة: «إن مشيت في طريق السلام تقتل..! وإن مشيت ضد السلام تقتل..! ثم يأتيك مفكر عاش في الكنيست لسنوات يستنكر عليك موتك ويصفه بالمجاني، وكأنّه بذلك قد حوّلك إلى عبثي اختار الموت نكايةً برغد الحياة!!».

مؤسفٌ بحق أن يصبح الموت قاسماً مشتركاً بين الحرب والسلام! ومؤسفٌ أكثر أن يكون خيارك إما القتال لتموت دون أن تدفن، وإما أن تعاهد لتموت وتدفن تحت الركام! بل قل: إن الأكثر ألماً من هذا وذاك أن يأتيك مترفٌ يفلسف لك موتك، ويقسّمه لأنواع: مجاني، رخيص، ونص نص!

سواء أوطئناها أم لا فالأرض لنا جميعاً دون استثناء، وهذا لا يعني طبعاً إنكار عذابات وآلام مرّة تجرعها فلسطينيو الداخل على مر أكثر من ستين عاماً، لكنه لا يعني أيضاً أن اللاجئين كانوا يعيشون في الفردوس الأعلى، الجميع ظلم كما لم يظلم أحدٌ في التاريخ، ويمكن هذا الظلم أن يدفعنا للتكاتف والالتحام بحقوقنا أكثر، لكن يمكنه أيضاً أن يدفعنا للتراخي وللسماح للبعض منا بأن يحولوا هذه الحقوق إلى أوراق مساومات تبقيهم مسـلطين على رقابنا.

قبل أيام شاهدت تقريراً عن تحضيرات أهل غزة للعيد، وأي تحضيرات، كان مشهداً سوريالياً عن أناسٍ يأتون ويذهبون بعبثٍ فوضوي وكأنهم يسخرون من أصوات الباعة المبحوحة عجزاً عن ضبط إيقاعهم واجتذابهم نحو البضاعة الكاسدة رغم قلتها، وبالنتيجة كان حصاد الجميع، باعةً ومشترين، سراباً يا ليته يذبح كأضحية عيد.. وكل عام والوطن بخير.