بقلم: د. بشير موسى نافع
فجأة، وإذا العقل السياسي الإسرائيلي يمطر الفلسطينيين والعالم بمشروع تلو الآخر للتسوية. هذا، بالطبع، تطور جديد في سياق الصراع على فلسطين وفي المسار التفاوضي للتسوية. تقليدياً، كان الجانب العربي هو الذي يتقدم بمبادرات السلام، والجانب الإسرائيلي يعمل على تفريغ هذه المبادرات من محتواها، أو تقزيمها، أو إعادة تفسيرها إلى أن يصبح من المستحيل تطبيقها أو قبولها من الجانب العربي ـ الفلسطيني. خلال الأسابيع القليلة الماضية، تقدم الإسرائيليون بمشروعين متتاليين للتسوية؛ هذا، خلافاً لمشروع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، الذي لا يبدو أن الضغوط الامريكية قد استطاعت بعد إحداث تغيير جوهري في تصوره للإمور. جاء نتانياهو للحكم وقد أعلن بوضوح أن حكومته لن تؤيد إقامة دولة فلسطينية كهدف نهائي لعملية السلام؛ وهو الأمر الذي كان كل من إرييل شارون وأيهود أولمرت قد قبلا به خلال العقد الماضي، وتبنته إدارة الرئيس جورج بوش الابن. ليس من الواضح لماذا يرفض نتانياهو فكرة إقامة دولة فلسطينية، ولكن بعضاً من الإجابة تقدم بها ليبرمان، وزير خارجية حكومة نتانياهو وحليفه السياسي. من وجهة نظر ليبرمان، ستشكل الدولة الفلسطينية المستقلة، على المدى البعيد، خطراً أمنياً لصيقاً على الدولة العبرية، كما أن الدولة الفلسطينية ستصبح مركز جذب لفلسطينيي الدولة العبرية، وقوة دفع إضافية لهويتهم القومية، مما يشكل تهديداً أكبر لاستقرار الدولة العبرية وأمنها الداخلي.
مهما كانت المبررات، فما يطرحه نتانياهو هو حكم ذاتي موسع للفلسطينيين، تحسين لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، والتوصل إلى ترتيبات ما لعلاقة إدارتهم الذاتية بالدولة الإسرائيلية. ولأن ثمة إجماعاً غربياً أوروبياً وأمريكياً، قد تم التوصل إليه خلال العقد الأخير، حول ضرورة أن تنتهي عملية السلام إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فقد أعربت واشنطن عن معارضتها لتصور نتانياهو، بالرغم من أن الدافع الغربي يتعلق بحماية إسرائيل من نفسها، وليس مجرد الاستجابة للمطالب الفلسطينية.
أدت الضغوط الامريكية إلى أن يتراجع نتانياهو عن خطاب 'الحكم الذاتي الموسع'، ظاهراً على الأقل. ولكن رئيس الحكومة الإسرائيلية ما كان له أن يفقد كثيراً من النوم؛ فهو يعرف بالتأكيد أنه سواء أثيرت مسألة الاستيطان أو لم تثر، فإن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ليست مرشحة للانطلاق، وإن انطلقت فلا يبدو أن بالإمكان التقدم بها في الظروف الحالية أبعد مما تقدمت في عهد ليفني أولمرت. ولكن مواقف نتانياهو، على أية حال، لم تترك للرئيس عباس والقيادة الفلسطينية مجالاً للقبول بالذهاب إلى قاعة المفاوضات. وبالرغم من أن الإدارة الامريكية وجدت في النهاية أنها لا تستطيع المضي في طريق تصعيد المواجهة مع حكومة نتانياهو بخصوص مسألة الاستيطان، وقبلت بالانحناء أمام تصميم الحكومة الإسرائيلية على عدم إيقاف الاستيطان كلية، إلا أن من الواضح أن العلاقات بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو ليست على ما يرام. دول السلام العربية، وعلى رأسها مصر والأردن، أعربت عن موافقتها على الموقف الأمريكي الجديد، الذي يدعو إلى استئناف المفاوضات بدون الوقف الكلي للاستيطان. ولكن هذه الدول لا تخفي امتعاضها من تعامل حكومة نتانياهو مع ملف التسوية. ما لا يقل أهمية، من وجهة النظر الإسرائيلية، التدهور المستمر في العلاقات الإسرائيلية ـ التركية. ولم يكن من الغريب، بالتالي، أن تولد هذه الأجواء شعوراً بالأزمة في الدولة العبرية، سيما في أوساط الطبقة السياسة. وهذا، ربما، ما دفع عدداً من الأوساط الإسرائيلية إلى التحرك المحموم لطرح تصورات جديدة للتسوية.
جاءت المبادرة الأولى من خارج الحكومة الإسرائيلية، وبالتحديد من الشخصية القيادية الثانية في حزب كاديما المعارض، وزير الدفاع الأسبق، شاؤول موفاز. تتمحور خطة موفاز حول التفاوض على إقامة كيان فلسطيني مؤقت على ستين بالمائة من مساحة الضفة الغربية، بدون أن يتمتع هذا الكيان بصفة الدولة المستقلة، وأن تقوم بين هذا الكيان والدولة الإسرائيلية علاقات سلام مبنية على الأمن المتبادل. وقد أعرب موفاز عن استعداده للتفاوض حتى مع حركة حماس إن فازت في الانتخابات القادمة وأقرت الحكومة التي تشكلها بشروط الرباعية. مثل هذا التصور، كما هو واضح، يقترب من فكرة الهدنة المؤقتة، طويلة المدى، التي كانت أوساط من حماس قد أعلنتها منذ سنوات. على أن الفارق بين الفكرتين كبير؛ ففي حين بنيت فكرة حماس على أن الهدنة إياها لا تلزم الفلسطينيين بأية تعهدات مسبقة، تمس بحقهم في كافة وطنهم، فإن خطة موفاز تقوم أصلاً على إلزام الفلسطينيين بتعهدات كبرى. خطة موفاز، تشير بعض الدوائر الإسرائيلية، ليست أكثر من برنامج انتخابي، يتعلق بالمنافسة بينه وبين تسيبي ليفني على قيادة حزب كاديما، سيما أن الأخيرة، على خطى شارون، تقول بإقامة دولة فلسسطينية.
أما المبادرة الثانية فجاءت من الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، بالاشتراك من وزير الدفاع الحالي وزعيم حزب العمل، أيهود باراك. ويبدو أن هذه المبادرة قد طورت أصلاً بهدف العلاقات العامة وتحسين المناخ المحيط بالدولة العبرية، إقليمياً ودولياً. ولم يكن غريباً بالتالي أن تكون المبادرة محور محادثات الرئيس الإسرائيلي في القاهرة، التي زارها في مطلع هذا الأسبوع. تدعو مبادرة بيريز ـ باراك إلى أن تنطلق المفاوضات للتوصل إلى اتفاق على إقامة دولة فلسطينية مؤقتة على نصف مساحة الضفة الغربية، على أن تقوم الولايات المتحدة بتقديم تعهدات للجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، تتعلق بما يمكن أن تصل إليه جولة مفاوضات أخرى بعد سنتين للتوصل إلى تسوية نهائية. للجانب الفلسطيني، يضمن الأمريكيون أن تصبح الدولة المؤقتة في التسوية النهائية دولة مستقلة، على حدود دائمة، تضم ما يعادل كامل مساحة الضفة الغربية، وإن لم تتطابق مع حدود 1967. وللجانب الإسرائيلي، تتعهد الولايات المتحدة بأن يقر الفلسطينيون في التسوية النهائية بيهودية دولة إسرائيل.
ترفض القيادة الفلسطينية، حتى الآن، على الأقل، أيا من هذه التصورات الإسرائيلية للسلام. الأفق الذي يطرحه كل من نتانياهو وموفاز لا يتضمن إقامة دولة فلسطينية، مستقلة، وذات سيادة، ولا يعطي الفلسطينيين دولة على حدود 1967 أو ما يعادلها. أما الخطر الذي يراه المفاوض الفلسطيني في مبادرة بيريز نتانياهو فينبع، أولاً، من 'المؤقت' في الدولة التي يطرحانها، سيما أن تاريخ المشرق ينحو إلى أن يصبح 'المؤقت' دائماً. من جهة أخرى، لا توحي سوابق التعهدات الامريكية بالثقة، منذ توقيع اتفاق أوسلو، مروراً بتعهدات أنابوليس، وصولاً إلى انحناء إدارة أوباما فيما يتعلق بملف الاستيطان. الخطر الآخر، كما هو معروف، ينبع من مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، الأمر الذي يعرف الفلسطينيون أنه يستبطن تهديداً لوضع الفلسطينيين في الدولة الإسرائيلية، الذين يزيد تعدادهم عن المليون وربع المليون نسمة. التصورات الإسرائيلية، باختصار، لا توفر مناخاً مواتياً لاستئناف عملية المفاوضات، ولا توحي باقتراب الطرفين من تسوية نهائية، مقبولة من عموم الفلسطينيين، ولا حتى إن وضعنا في الاعتبار ضعف الوضع العربي وسوابق التراجعات الفلسطينية. فهل جاء الوقت الذي يعيد فيه الفلسطينيون التفكير في كل النهج الذي ساروا عليه منذ توقيع اتفاق أوسلو؟
ثمة مسألتان هامتان لابد لمن يقرأ الموقف الفلسطيني أن يأخذهما في الاعتبار. الأولى، وتتعلق بالانقسام الفلسطيني الداخلي، الذي يوصف أحياناً بالانقسام بين فتح وحماس، بالرغم من أنه ليس كذلك في حقيقته، وأنه أقرب إلى انقسام بين برامج ومقاربات للعمل الوطني أكثر منه انقساماً بين التنظيمين الرئيسيين في الساحة الوطنية. يشكل هذا الانقسام عامل ضعف خطير، ويشل أي إمكانية لتطوير برنامج وطني فلسطيني إجماعي. وقد بات واضحاً أن مشروع المصالحة في صيغته المصرية قد وصل إلى طريق مسدود، وينبغي بالتالي إعادة النظر من جديد في نهج المصالحة، في شروط هذه المصالحة، وفي ما تهدف إليه. مثل إعادة النظر الجذرية هذه تفرضها الحقائق التي تطرحها المسألة الثانية، والمتعلقة بمتغيرات الواقع الذي يحيط بالقضية الوطنية. واقعياً، لم يعد من الممكن إنشاء دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية، بعد أن وصل التوسع اليهودي - الإسرائيلي إلى ماوصل إليه، مدناً ومستوطنات وممرات طرق هائلة، وبعد أن تحولت القدس الشرقية إلى حي صغير محاصر بالاستيطان من كل الجوانب، وبعد أن استقطع الجدار الفاصل ما استقطعه، وبعد أن تراجعت المعارضة الدولية (وبعض العربية) للاستيطان إلى كلمات هامشية خجولة، وبعد أن أصبح واضحاً أن تسوية على أساس إقامة كيان فلسطيني (مهما كانت طبيعة هذا الكيان) تهدد وجود وبقاء الفلسطينيين العرب في الدولة العبرية.
لا المصالحة الوطنية يمكن بناؤها على مشروع إقامة دولة فلسطينية، ولا الدعوة المتصاعدة لإطلاق انتفاضة فلسطينية مدنية وغير مسلحة، يمكن أن تستند إلى مثل هذا المشروع الوهمي. الرفض الفلسطيني للذهاب إلى المفاوضات في ظل الشروط الإسرائيلية هو قرار صحيح، بلا شك؛ وكذلك هو الرفض الفلسطيني لسلسلة مشاريع السلام التي باتت تتدفق من الدوائر السياسية الإسرائيلية. ولكن هذا الرفض يصبح موقفاً بلا معنى ولا أثر ملموسا إن لم تبدأ القوى الفلسطينية إعادة النظر في البرنامج الوطني الفلسطيني.
ولعل هذا التنافس الإسرائيلي المتزايد في إطلاق مشاريع التسوية يشير هو الآخر إلى المخاوف الإسرائيلية المتصاعدة مما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع. ما يريده الإسرائيليون هو استمرار الاحتلال، بدون أن يسمى الاحتلال باسمه؛ أن يستمر التوسع الاستيطاني في ظل وجود كيان فلسطيني ما؛ أن تستمر السيطرة والهيمنة الإسرائيلية إلى جانب استقرار وازدهار اقتصاد الضفة الغربية. ما يمكن أن يقلب هذا الوضع رأساً على عقب هو وضع نهاية لسلطة الحكم الذاتي، وانطلاق النضال من أجل دولة واحدة.