خبر آخر طريق الصبر الاستراتيجي .. عاطف الغمري

الساعة 09:58 ص|25 نوفمبر 2009

بقلم: عاطف الغمري

الأمريكيون مولعون بصياغة كلمات، لتتحول من كثرة تداولها داخل بلادهم وخارجها إلى مصطلحات ضمن لغة الخطاب السياسي، مثل مصطلحات: صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، والدولة التي لا غنى عنها، والدولة الاستثنائية، والدولة المارقة، والدولة الفاشلة، والفوضى الخلاقة، وغير ذلك الكثير.. ويبدو أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تسير على الدرب، بالتعبير الذي استخدمته أخيراً، وهو الصبر الاستراتيجي strategic paitenrece، وهو تعبير قد يصلح للتعامل مع دول تكون طرفا في أزمات ومشكلات إقليمية أو دولية، لكن التعامل به مع “إسرائيل”، يفقده مفعوله، ويجعله بلا طائل من ورائه.

إن “إسرائيل” حسب مفاهيم علم النفس السياسي هي حالة نفسية، أكثر من كونها دولة بل إن ما يطلق عليه الرأي العام “الإسرائيلي”، لا يعد في واقع الأمر، رأياً عاماً بالمعنى المتعارف عليه في كل دول العالم، بل إنه توجه عام يتشكل في صورة ما حسب ظروف اللحظة التي تمر به، وتتحول به من هذا الاتجاه إلى نقيضه، وإن كان المستوطنون ذوي النزعة الموغلة في التعصب، هم من يمكن أن يطلق على توجههم أنه رأي عام.

والمعايير التي تقود الرأي العام في مرحلة أو أخرى، هي معايير مزاجية، تتدخل في صنعها أساساً المؤسسة العسكرية، والقيادة السياسية، والحريصة على أن ترسخ في عقول “الإسرائيليين”، مخاوف دائمة مما يحيط بهم، حتى يظلوا في حالة استنفار عدائي، بما يتيح لهاتين المؤسستين، الحارس على المشروع الصهيوني، ضماناً ألا يموت هذا المشروع.

المزاج النفسي “الإسرائيلي” كان موضوع دراسة للمطبوعة الأمريكية الرصينة politcal psychology المتخصصة في الدراسات التحليلية للسياسات الخارجية، قالت فيها: إن جانباً مهماً من “الإسرائيليين” لا يزال ينظر إلى الأحداث من زاوية حالتهم المزاجية السائدة، تجاه النزاع مع العرب، ولا يستطيعون أن يستوعبوا التغييرات الجارية من حولهم، أو أن يتواءم تفكيرهم معها.

هذه الحالة التي استحكمت في عقل حكومة نيتنياهو، جعلتها تبدو وكأنها وضعت نفسها في خندق، لا تريد أن تخرج منه، أو أن ترى ما يجري على المستوى الأعلى من قاع الخندق، ولعل هذا كان أحد الأسباب وراء ظهور حركة J.street من داخل مجتمع اليهود الأمريكيين، والتي ضمت شخصيات يهودية أمريكية لها ثقلها، ومعروفاً عنهم أنهم من أنصار “إسرائيل”، ليعلنوا رفضهم التام لسياسات حكومة نيتنياهو بدافع من خوفهم على “إسرائيل” وشعبها من كارثة تجلبها سياسات حكومة نينتياهو.

والآن وقد مرت تسعة أشهر على وجود أوباما في البيت الأبيض، وثبت أن التعامل مع الحالة “الإسرائيلية”، لا يصلح معه أسلوب الصبر الاستراتيجي، وهو ما يعكسه أسلوب أوباما الذي يفصل الحوار والإقناع طويل النفس، وهو ما تأكد لأمريكا تاريخياً عدم جدواه مع “إسرائيل”.

فهي لديها عادة مزمنة، بأن تصل إلى أقصى درجات التشدد والعناد، مع أي رئيس أمريكي، ولا تتراجع إلا إذا واجهت موقفاً أمريكياً حازماً، يردع عنادها.

وهو ما تحدث عنه بوضوح الكاتب الأمريكي المعروف جوكلين الذي قال: إن مطالبة أوباما ل”إسرائيل” بتجميد الاستيطان، لن تكون فعالة، إلا إذا كانت مصحوبة بتهديد صريح بقطع المعونة عنها.

والمعونة بالنسبة ل”إسرائيل”، لا تقتصر فقط على المساعدات المالية، لكنها شبكة متشعبة في كياناتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتمس العصب النفسي الحساس ل”الإسرائيليين”، فهي متداخلة في الكيانات الإنتاجية ل”إسرائيل”، وعلى سبيل المثال، فإنها تسهم في إنتاج الصناعات العسكرية “الإسرائيلية”، ثم تستورد منها نوعيات من السلاح المنتج بمشاركتها على أنه صناعة “إسرائيلية”، كما تساعدها في فتح أسواق لإنتاجها وترويجه في دول العالم، خاصة إنتاج صناعتها العسكرية.

والتهديد بقطع المعونة له سوابق، أبرزها تهديد أيزنهاور بمعاقبة “إسرائيل” وقطع المعونة عنها عام ،1957 حتى تنسحب من سيناء، وقرار بوش الأب، بوقف إمدادها بقرض قيمته عشرة مليارات من الدولارات، بل إن الرئيس جيرالدفورد، هدد عام 1975 بإعادة النظر في مجمل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وهو ما أرغم حكومات “إسرائيل” على التراجع فوراً، والإذعان لما طلبه الرئيس الأمريكي.

إن “إسرائيل” مجتمع يحكمه تفاعل متناقضات، فالمفترض أنها تتعامل واقعيا مع مجتمع دولي تنتمي إليه لكنها ترسم سياساتها خضوعاً لعقيدة ألبستها رداء دينياً، وهي تقنع شعبها بأن هذه الأرض كلها ملك لها منذ آلاف السنين، وأنها تستعيدها بالحق الديني والتاريخي، وهي جغرافيا جزء من الشرق الأوسط، لكنها في عقلها الواعي ترفض الروابط المعنوية لهذا الواقع الجغرافي، وترى نفسها جزءا من المجتمعات الغربية.

وهي عضو في الأمم المتحدة ومنظماتها، التي اعتبرت تصفية الاستعمار في الخمسينات وأول الستينات، تتويجاً إنسانياً ونبيلاً، لكفاح الشعوب، بينما هي في الوقت نفسه دولة استعمارية تحتل أراضي شعب آخر بالقوة، وتمارس معه أعتى صنوف القمع والبربرية، و”إسرائيل” تعيش في عصر، يشهد فيه العالم بداية تغيير جوهري في العلاقات الدولية، وتحولات في مراكز القوة والنفوذ، لكن عقلها مصبوب في قالب المشروع الصهيوني الذي ولد في القرن التاسع عشر.

وإلى اليوم لم تشهد مناقشاتهم الاستراتيجية، وأيضاً مؤتمراتهم السنوية التي تعقد بمناسبة الاحتفال بذكرى إنشاء “إسرائيل”، وآخرها المؤتمر الستون في عام ،2008 أي تغيير في لهجة خطابهم العقائدي تجاه الدولة اليهودية ومستقبلها، أو حقوق الفلسطينيين، والاحتلال، وثقافة الخروج على القانون الدولي، وانتهاك حقوق الإنسان.

وهي اللهجة نفسها التي ظهرت في اجتماع المؤتمر اليهودي العالمي الذي عقد في “إسرائيل” يناير/ كانون الثاني 2009 تحت شعار نحن نقف مع “إسرائيل”، ولم تعلن كلمة واحدة عن حقوق الفلسطينيين، أو رفض للممارسات التي تتخذ معهم.

إن طريقة رئيس حكومة “إسرائيل” في التعامل مع أي بادرة لا ترضاها في موقف أمريكا من عملية السلام، ثابتة لا تتغير، فهي تدفع بالمواجهة إلى قرب حافة الهاوية، مستخدمة مخزونها من أوراق الضغط، بحشد المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، واللوبي اليهودي في الكونجرس، والمؤسسات النشطة في الإعلام، ومراكز البحوث، إلى جانب الجماعات غير اليهودية المتعصبة ل”إسرائيل”، والتي لا تخفي عداءها للعرب، وأبرزها ائتلاف اليمين المسيحي، وهو تجمع منظم في إطار الحزب الجمهوري.

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإنني أذكر ما حدث في أكتوبر/ تشرين الأول عام ،1998 أثناء مفاوضات نيتنياهو وعرفات بحضور الرئيس كلينتون، والتي عرفت بمفاوضات واي ريفر، فإننا أبلغنا وكان إبلاغاً للمراسلين في واشنطن أن البيت الأبيض سوف يصدر الليلة بياناً يتضمن خطة الرئيس الأمريكي النهائية لتسوية النزاع، وقبيل الموعد المحدد، كان الثلاثة كلينتون وعرفات ونيتنياهو، في المكتب البيضاوي للرئيس، يتلقون أسئلة الصحافيين، قبل أن يبدأ الاجتماع المغلق وفجأة وجه أحد هؤلاء الصحافيين سؤالاً إلى كلينتون عن حكاية علاقته مع مونيكا لوينسكي.

نزل السؤال على كلينتون كالقنبلة، ولم يكن أحد حتى هذه اللحظة قد سمع باسم مونيكا، لكن الفخ كان معداً ليقع فيه كلينتون في هذا التوقيت، وفوجئنا نحن بأن الخطة التي حدثونا عنها، لم تعلن وراحت في دروب النسيان.

إن الصبر الاستراتيجي لن يصل بأوباما إلى نتيجة، والخوف أن يكون في آخر طريق صبره، فخ يجهزونه له، ولعله يعيد قراءة تاريخ مواقف لرؤساء سبقوه مع الحالة “الإسرائيلية”.