خبر مقال: الدكتور شلّح قدّم رؤيةً لانتشال الوضع الفلسطيني من حالة البيات المحرجة

الساعة 09:41 ص|25 نوفمبر 2009

بقلم: معن البياري .. نشر في صحيفة "الحياة" اللندينة اليوم الأربعاء ..

يتأمل بطل رواية ربعي المدهون الرائقة «السيدة من تل أبيب» مشهداً بانورامياً في بلدتي جباليا وبيت لاهيا في قطاع غزة الذي يزوره بعد غياب ثمانية وثلاثين عاماً، فيرى أمامه أعلاماً خضراً وصفراً وسوداً ترفرف فوق العمارات، تُعرّف عن ولاءات سكانها، أو بعضهم، فيحس بالكآبة، لأنه لا يجد بينها العلم الذي علمه الأناشيد. ولأن المشهد ليس تخييلاً أدبياً، فإنه يحيل إلى تفاصيل في الحالة الفلسطينية الراهنة، عنوانها الأهم تآكل «الوطنية الفلسطينية»، أو ربما احتضارها في توصيف متشائم، بالنظر إلى الغياب الفادح لمشروع وطني يلتمّ حواليه الجمهور الفلسطيني (أو غالبيته). ويزيد من حدّة الأمر أن نحو نصف المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة أطفال وفتية دون الثامنة عشرة، بحسب ما أعلنه قبل أيام جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، ما يعني أن الفلسطينيين ذوي الفئة العمرية المذكورة لم يختبروا وجوداً حقيقياً للمشروع المتحدّث عنه، والذي كان في عافيته، منذ قامت منظمة التحرير، أو على الأصح، منذ واصلت النهوض به، بغير صيغة في غير محطة ومرحلة، وأجمعت كلها على تمثيلية الفلسطينيين في كيان يوحدّهم، وعلى عملهم الكفاحي المشروع من أجل إقامة دولتهم المستقلة، وعلى أفق تحرري ينشدّون إليه وجدانياً وثقافياً.

ليست اللحظة الفلسطينية الراهنة على مثل العافية الوطنية التي كان لها نفوذها النفسي الجامع، ولا يعود الافتقار الملحوظ إليها الآن فقط إلى الانقسام الحادّ بين جناحي الوطن، على ما يسميان به قطاع غزة والضفة الغربية، بل أيضاً إلى انزواء هدف الاستقلال عن الاحتلال لدى الجمهور الفلسطيني أمام أولويات وجوب الإحساس بالأمان أمام وطأة المجهول، وكذلك لسيطرة اليأس والإحباط بسبب انسداد الآفاق، وشيوع القناعة بأن فشل المفاوضات، بحسب صائب عريقات، يتوازى مع فشل المقاومة بالكيفية التي ارتأتها حركة حماس وأخواتها، من عمليات انتحارية (أو استشهادية) أولاً، ثم إطلاق صواريخ محدودة الفاعلية (عبثية؟) على مستوطنات يهودية، جاءت أكلافها على أهل القطاع شديدة الفظاعة، وتالياً، الاكتفاء بالثرثرة عن الحق في المقاومة، مع مناكفة حركة فتح واختطاف قطاع غزة ومناطحة مصر. وفي الأثناء، يكشف استطلاع للرأي أجراه مركز متخصص في جامعة النجاح في نابلس أن نحو 50 في المئة من الفلسطينيين يرون أن «فتح» و «حماس» غير معنيتين بإنهاء الانقسام، وأكثر من 66 في المئة يعتقدون أن قيادات الحركتين تسعيان إلى تحقيق مكاسب شخصية أو تنظيمية.

في السياق نفسه، نجدنا مع الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح في اتفاق في نقاط غير قليلة في كلمته المهمة بمناسبة ذكرى استشهاد فتحي الشقاقي قبل أيام، ومنها قوله، بكل صراحة ووضوح على ما شدّد، إن ليس هناك مشروع وطني فلسطيني اليوم، ولا برنامج وطني فلسطيني، وإلى أن ما يسمى اليوم بالمشروع الوطني الفلسطيني هو بقايا من تاريخ مضى ورثه «الأشقاء والإخوة» في حركة فتح، لكنه لا يعبر عن المجموع الفلسطيني، ولا عن الغالبية، ولذلك، لا صواب في وصفه بأنه المشروع الوطني الفلسطيني.

وعما إذا كان يمكن بناء مشروع يعبر عن الكل ويحظى بإجماع، يرى شلح أن الإجابة صعبة والمهمة شاقة جداً، لكنها ليست مستحيلة، ويستعرض مبادئ وأسساً وحقائق في إطار اجتهاده بحثاً عن المشروع والبرنامج المشتهيين. وتزيد في الأثناء نقاط الاتفاق مع الرجل، خصوصاً حين يمايز بين أن تكون القضية الفلسطينية قضية لقمة عيش، وهو ما صُممت خصيصاً له السلطة الوطنية على ما يقول، وأن تكون قضية تحرر وطني.

ولتحليل شلح أهميته في ذهابه إلى أن المأزق الفلسطيني الراهن بنيوي وتاريخي وتراكمي، وأنه ينبغي ألا نحمّل المصالحة بين «حماس» و «فتح» أكثر مما تحتمل، لأنها «مجرد معالجة لجزئيات او مكونات مشروع السلطة الحالي من انتخابات وأجهزة أمن ووزارات، ولا تلامس المشروع الوطني بتعقيداته».

لا تزيّد في القول إن الفلسطينيين لم يستمعوا، منذ سنوات، من قياديّ بينهم أو من أحد نخبهم، إلى رؤية نقدية وذات موضوعية عالية، بالمقدار الذي اتضح في ورقة رمضان شلح السياسية الأكثر صراحة منذ زمن.

ويمكن وصلها مع كتابات مثقفين وأحاديث سياسيين وناشطين فلسطينيين، تتوالى منذ أسابيع، عن فقدان المشروع الوطني الفلسطيني، أو رخاوته على الأقل. وفي أثنائها، جاء إعلان الرئيس محمود عباس عن عدم رغبته بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، ما قد يمثل محطة انعطاف جديّة في التفكير السياسي الفلسطيني.

ويكاد الإجماع يكون واسعاً في الاجتهادات المتداولة على أن المأزق الحقيقي أمام الفلسطينيين الآن يتمثل في فشل أهل التسوية والاعتدال والتفاوض، وكذلك فريق إشهار المقاومة والممانعة، في السير إلى إنجازات جوهرية ومؤكدة في إنهاء الاحتلال.

يرى رمضان شلح أن الحل يبدأ بالاعتراف الصريح بوصول خيار التسوية إلى طريق مسدود، ثم الدعوة إلى مراجعة شاملة لكل مسيرة العمل الوطني من أجل عمل مشروع وطني حقيقي يعبر عن الكل الفلسطيني.

وإذ يبدو هذا وجيهاً وضرورياً، إلا أنه عام ويحتاج إلى تفاصيل، ربما كان منها أن تنقذ حركة فتح نفسها، طالما أنها صاحبة المشروع السياسي الأوضح، بأن تعيد تعريف مشروعها الوطني وبناء تحالفاتها وتحديد مختلف علاقاتها بالسلطة وحركة حماس والحكومة... وغيرهم.

والمدهش أن هذه التوصية يوردها تقرير جديد لمجموعة الأزمات الدولية، تسوق نتائجه إلى تبني الأطروحة الأكثر إقناعاً، وباتت الأكثر شيوعاً في النقاش الفلسطيني المستجدّ، وهي وجوب المزاوجة الخلاقة بين خياري العمل السياسي والمقاومة بأشكالها الشعبية والجماهيرية. ويعني الاستغراق الكثير في هذه الأيام في الحديث عن هذه المزاوجة أن سوء الأداء السياسي والتفاوضي هو ما كان محل الرفض والانتقاد، وليس الخيار نفسه بالضرورة، وإلاّ ما معنى أن يستجيب محمود عباس مطلب تسيبي ليفني قبل نحو عامين عدم تكريم أسيرات في سجون الاحتلال، وما معنى أن يأتي عباس أيضاً بعلبتي بقلاوة من دمشق هديتين إلى ليفني وإيهود أولمرت، كتبت عليهما المبادرة العربية للسلام. وقبل تينك الواقعتين وبعدهما، ما معنى كل هذا الاستغراق في العملية التفاوضية من دون رهن الاستمرار فيها بتيسير معيشة الفلسطينيين؟

إنه استنفار الروح الوطنية الفلسطينية، بإعادة الاعتبار الى حق الشعب المحتل بالمقاومة، ولكن، المقاومة القادرة على تعظيم مكتسباتها وتثمير صمود الفلسطينيين، وليس إنهاكهم وتحميلهم أعباء خيارات فصائلية، لا تستهدف المدنيين ولا تقوم على خطاب مغلق يضر بإنسانية القضية الفلسطينية. إنه استنفار عمل شعبي واسع ينهض على مقاطعة الاحتلال ومؤسساته، ويقع على كل المشتركات الفلسطينية، وتتقدم أولوياته استعادة الوحدة الوطنية.

إنها بعض عتبات أولى في مسار انتشال الوضع الفلسطيني من حالة البيات المحرجة والمقلقة التي يكاد يغيب فيها أفق هدف إزالة الاحتلال، ويكاد المشروع الوطني يحتضر. ولا قيمة، في النهاية، لأي أطروحة وجيهة الأهداف، طالما أن العلم الفلسطيني لا يرفرف بين أعلام خضر وسود وصفر على سطوح جباليا وبيت لاهيا، فلا يراه بطل رواية ربعي المدهون «السيدة من تل أبيب».