بقلم: ياسر الزعاترة
جميل أن نسمع الذين طالما وصفوا صواريخ القسام بالعبث يتباكون عليها على شاشات الفضائيات (بعضهم لا زال يفعل) ، وإن كنا ندرك أن ذلك إنما يتم في سياق تشويه خصم سياسي لا أكثر ولا أقل.
في المقابل ثمة ارتباك من طرف حماس في الرد على تلك الأصوات ، وقصة وزير داخلية غزة مع "التوافق" الذي نفته بعض الفصائل ، ومن ثم نفي كتائب القسام لوجود اتفاق بذلك الشأن ، تؤكد ذلك ، والسبب أن الرد المقنع والمفحم لن يتوفر بعيدا عن الاعتراف بصعوبة ، بل ربما استحالة الجمع بين السلطة والمقاومة ، الأمر الذي ينطوي بدوره على الاعتراف بخطأ الاجتهاد الذي دخلت الحركة على أساسه الانتخابات في ظل سلطة أوسلو التي صممت لخدمة الاحتلال ، ولم يفلح ياسر عرفات في تغيير بوصلتها من خلال انتفاضة الأقصى ، وإن لم يجرؤ على حلها وقلب الطاولة في وجه الإسرائيليين ، وحرمانهم من المزايا الأمنية والاقتصادية والسياسة التي تمتعوا بها بعد إنشائها.
ثمة جانب مضيء في موقف حماس ، فهي لم تعلن تخليها عن برنامج المقاومة ، وما ساعدها على ذلك هو موقف العدو المناهض لها ، والمؤيد للطرف الآخر الذي أعلن تخليه عن المقاومة وذهب في اتجاه تكريس واقع السلطة ـ الدولة بصرف النظر عن مسار المفاوضات.
بعد فوزها في الانتخابات بشهور قليلة نفذت حماس عملية الوهم المتبدد الرائعة وغير المسبوقة ، لكن العملية كانت مكلفة إلى حد كبير ، لا سيما لفرع الحركة في الضفة الغربية الذي تعرض لحملة استهداف بشعة من الاحتلال أكملها المنسجمون معه بعد الحسم العسكري في القطاع.
ما لا ينتبه إليه كثيرون ، ومن ضمنهم مناصرون لحماس ، في سياق تقدير الموقف هو الفرق الكبير بين واقع القطاع وواقع الضفة الغربية ، فهنا في القطاع لا وجود لجيش الاحتلال ، وثمة معبر على عالم خارجي مهما قيل عن إشكالاته ، ويمكن للفصائل أن تتحرك بحرية نسبية في سياق التجييش واقتناء السلاح ، بينما يبدو ذلك بالغ الصعوبة في الضفة الغربية المستباحة بالكامل من قبل جيش الاحتلال ، وهي الاستباحة التي ضربت خلايا المقاومة وكبدتها خسائر كبيرة ، بدليل أن 90 في المئة من المعتقلين في سجون الاحتلال هم من الضفة الغربية.
كل ذلك منح حماس فرصة الإصرار على برنامج المقاومة بعد دخول السلطة والحسم العسكري ، وهي دفعت ثمنا باهظا لقاء ذلك من أبنائها وأنصارها وجماهير شعبها ، وإن سجلت الحرب الأخيرة انتصارا معنويا وسياسيا كبيرا من خلال عجز الاحتلال عن تركيع الشعب الفلسطيني رغم حرب الإبادة التي شنها في عملية الرصاص المصبوب.
اليوم يعيش القطاع وضعا صعبا ، وأي إطلاق للصواريخ سيكون مكلفا للناس ، بينما تحتاج المقاومة بعض الوقت لكي ترمم قوتها ، أما الأهم فهو أن المقاومة خارج سياق الصواريخ تبدو مستحيلة ، مع العلم أن محاولات عديدة لتكرار عملية الوهم المتبدد لم تنجح ، وإذا كان بوسع أحد أن يتجاوز السياج الأمني ويستهدف جنود الاحتلال ، فلن تمنعه حماس.
للتذكير ، فالتهدئة الحالية ليست الأولى كما يشيع البعض في سياق المناكفة ، فقد قبلت الفصائل وحماس بتهدئة مشابهة في عام 2005 ، أي قبل الانتخابات بطلب محمود عباس ، وتكرر ذلك في العام 2008 ، لكن العدو لم يلتزم بتعهداته ، فكان رفض التمديد الذي ردّ عليه الإسرائيليون بالحرب على القطاع.
أسوأ ما في المشهد القائم هو مزايدة من باعوا المقاومة قولا وفعلا ، بل وطاردوا كل من يؤيدها ، وليس فقط من يمارسها ، فهم يتباكون على وقف حماس لإطلاق الصواريخ ، ولو أطلقتها أو سكتت على إطلاقها وردّ الإسرائيليون بقصف القطاع ، لدبّوا الصوت وقالوا إن حماس تأخذ الشعب في غزة رهينة لحساباتها الإقليمية. ألم يقولوا ذلك عندما رفضت تمديد التهدئة نهاية العام 2008؟،.
مشهد عبثي من دون شك ، يفضح الكثيرين ممن اعترفوا بفشل 18 عاما من المفاوضات ، ولا يريدون الاعتراف بفشل مشروع أوسلو ومن ضمنه مشروع السلطة ، وبالطبع لكي لا يطالبهم الشعب بالبديل ممثلا في خيار المقاومة.
المشكلة الحقيقية هي في حركة فتح المعترف بها عربيا ودوليا بوصفها ممثل الفلسطينيين ، فهي التي يجب أن تأخذ المسار الفلسطيني من جديد نحو التخلي عن برنامج السلطة التابعة للاحتلال بدل الحديث عن تكريسها بانتخابات جديدة ، وعندها لن تجد من حماس والآخرين سوى التعاون ، بل التحالف (حاتم عبدالقادر ، مسؤول ملف القدس في السلطة له رأي مماثل لرأينا حول هذا الموضوع ذكره خلال محاضرة ألقاها أول أمس في الناصرة).
ولأن ذلك يبدو مستبعدا في الظرف الراهن ، فإن على حماس أن تبادر إلى قلب الطاولة وعرض إدارة لقطاع غزة بالتوافق بوصفها منطقة شبه محررة وقاعدة للمقاومة ، مع إعلان مقاومة حتى دحر الاحتلال دون قيد أو شرط في الضفة الغربية وكل الأرض الفلسطينية ، كما حصل في جنوب لبنان.