بقلم: بثينة شعبان
مستشار الرئيس السوري للشؤون السياسية والإعلامية
لم يكن أحد يعتقد أن الأمم المتحدة سوف تتجاوب مع طلب فلسطيني لاتخاذ قرار بولادة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، وكذلك التجاوب مع الحق الفلسطيني في القدس واللاجئين وفق كل المرجعيات الدولية وقرارات مجلس الأمن، ولكن، ومع ذلك، فإن الطريقة التي تمت بها مقاربة هذا الموضوع تستحق التوقف عندها، خصوصا أن هذه المقاربة قد تزامنت مع إعلان إسرائيل ارتكاب جريمة إضافة 900 وحدة استيطانية جديدة في حي جيلو بالقدس رغم «انتقادات» و«استياء» أوروبا والبيت الأبيض، ورغم مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة بإيقاف البناء وطي القرار. واللافت في الأمر هو تبني البعض للغة والمصطلح الذي رد به الإسرائيليون على هذه الانتقادات، فقد أطلق رئيس بلدية القدس نير بركات كذبته بالقول: «لن أسمح بوقف البناء لليهود والعرب في شرقي المدينة وغربها، والقانون الإسرائيلي لا يميز بين اليهود والعرب وبين الشرق والغرب»، وطبعا في هذا كذب وافتراء فاضحان اعتاد العالم على سماعه من المسؤولين الإسرائيليين، لأن ما يقوم به الإسرائيليون هو هدم المنازل العربية وتهجير سكان فلسطين من جهة، وبناء مستوطنات جديدة للأجانب من يهود الوافدين من أي مكان في العالم.
ولكن ردة الفعل الرسمية الإسرائيلية الأهم تتمثل في قولهم: «إن الاستيطان مستمر منذ عشرات السنين ولا نعمل شيئا جديدا، فعلام كل هذه الضجة حول بناء 900 وحدة استيطانية في حي جيلو في القدس؟». يعني ذلك أن إسرائيل تمكنت خلال العقود الستة الماضية من المضي في احتلال الأرض وطرد الفلسطينيين وبناء المستوطنات الجديدة رغم انتقاد العالم واستنكاره، وأنها تتقبل هذه الاعتراضات التي تعلم أنها لن تقود إلى أي إجراء عملي يردع إسرائيل عن ارتكاب جرائمها. حتى وزير خارجية فرنسا برنارد كوشنير يقع في الفخ اللغوي والمفهوماتي الذي نصبه الإسرائيليون للعالم فيعبر عن «أسفه» لمضي إسرائيل في الاستيطان، ويضيف: «لكن الأمر كان كذلك دوما». فبما أن إسرائيل تعرف أن التعبير عن الاستياء والانتقاد والاعتراض لن يتعدى حدود الحبر الذي كُتبَ به فلماذا يُتوقع منها أن ترتدع؟ وبما أن الانتقاد مقترن دائما بالتعبير عن الالتزام الغربي المعهود بـ«أمن إسرائيل» دون أن يقترن بالالتزام بأمن الفلسطينيين، رغم أن الاستيطان يهدد أمن الفلسطينيين وليس أمن إسرائيل، فلماذا تهتم إسرائيل بهذه التصريحات والاستنكارات التي لا تصل، إلا نادرا، إلى حد الإدانة والتي ينساها مطلقوها بعد خمس دقائق من إطلاقها؟ إسرائيل لا تهتم بهذا «الأسف» وبذلك التصريح عن «خطورة الاستيطان»، ولأنها تعلم أن الفيتو الأميركي جاهز في لحظة الحسم لحمايتها من أي إجراء حقيقي يمكن أن يرغمها على تغيير أسلوبها أو التوقف فعلا عن ارتكاب كل هذه الجرائم بحق الفلسطينيين المخالفة للقانون الدولي والإنساني. والسؤال هو: ما معنى إذن أن يصرح السياسيون في دول أوروبا والولايات المتحدة أنهم يدعمون قيام الدولة الفلسطينية إذا كانوا غير قادرين على اتخاذ أي إجراء عملي بحق إسرائيل، ولماذا تُحاكَم جميع الدول في العالم على جرائم ترتكبها بحق الإنسانية، وحين يصل الأمر إلى الجرائم التي يرتكبها حكام إسرائيل يتسابق السياسيون الأوروبيون والأميركيون في التعبير عن التزامهم بـ«أمن إسرائيل» بدلا عن دفاعهم عن أمن الفلسطينيين المنتهك فعلا؟
في ضوء هذه المواقف الكاشفة لحقيقة الموقف الغربي الثابت بالدفاع عن جرائم إسرائيل لم يعد مجديا على الإطلاق الحديث عن مساعدات أوروبية للفلسطينيين ببناء مشفى هنا أو ترميم مدرسة هناك، لأن القضية الفلسطينية ليست مشروعا خيريا يحتاج فقط إلى ممولين ومانحين ومتصدقين، بل هي قضية حرية يكافح شعب فلسطين منذ أكثر من ستين عاما لنيلها، ولذلك فهي تتطلب مواقف واضحة منها، تتجاوز الحدود الدنيا المألوفة من الانتقاد اللفظي والتعبير عن الاستياء والاستنكار الإعلامي، لأن هذا الأسلوب الذي استمر لأكثر من ستة عقود ماضية قد مكن المتطرفين من حكام إسرائيل ومستوطنيها من قضم غالبية الأراضي الفلسطينية وحرم الفلسطينيين من الحرية وسبل الحياة الكريمة وسبّب كارثة إنسانية لم تشهد البشرية مثيلا لها. وهذه مرحلة مفصلية بالفعل يجب ألا تمر كما مرت مراحل غيرها، حيث لم يصل العرب إلى تقييم فعلي لما يجري ولم يتخذوا موقفا حقيقيا وفاعلا منه، بل بدلا من ذلك فإن معظم عناوين الصحف العربية تضع عناوين الخبر الأخير بأن إسرائيل «توافق» على بناء 900 وحدة استيطانية في القدس. ولا شك أن هذا العنوان إسرائيلي تقتبسه وسائل الإعلام العربية كما هو وتلصقه على رأس صفحاتها للقراء العرب جميعا. وينشغل الشارع العربي «بحرب كرة قدم» بين مصر والجزائر ونرتعد خوفا من أن تسيل الدماء بين بلد عبد الناصر وبلد المليون ونصف المليون شهيد، لا من أجل فلسطين، ولا دفاعا عن شعب غزة المحاصر، وليس دفاعا عن القدس والمقدسات العربية، وليس لتغيير واقع الصراع العربي الإسرائيلي، بل من أجل التأهل لموقع في مباريات كروية تتكرر دوريا لأغراض التسلية. والأكثر من ذلك أن المسؤولين الإسرائيليين الذين يخافون اليوم من السفر إلى أوروبا، خشية الاعتقال لارتكابهم جرائم حرب بحق الفلسطينيين، بدأوا يجدون في بعض الدول العربية ملاذا آمنا لهم، حيث لا يوجد أي إجراء لمحاكمتهم، أو ملاحقتهم قضائيا، أو على الأقل منعهم من الدخول إليها، بل إن دعوات عدة توجَّه اليوم من بعض الدول العربية لإسرائيليين لا يتجرأون على السفر إلى أي مكان في العالم لأنهم مجرمون مدانون بسفك دماء الأطفال العرب.
القراءة الدقيقة للموقف الغربي من الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين لفلسطين العربية يجب أن تُربَط مع موقف الغرب من القضايا الإقليمية الأخرى أيضا. ففي الوقت الذي رفض الغرب فكرة إعلان الدولة الفلسطينية بقرار من الأمم المتحدة، وعبر فقط عن انتقادات لفظية للاستيطان اليهودي للأراضي العربية، بينما كان المستوطنون اليهود يضعون حجر الأساس لمستوطناتهم الجديدة، ركزت جولة أوباما في آسيا على توجيه انتقادات لإيران، ودق الغربيون طبول العقوبات من جديد على إيران التي لم تعتد على أحد، والموقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والعالم كله يدرك أن المسوق الأوحد للحملة الغربية ضد إيران هو الكيان الصهيوني الذي لا يريد لأي بلد مؤيد للحقوق العربية أن يمتلك الطاقة النووية ولا يريد للعرب أو المسلمين أن يمتلكوا المعرفة، وذلك نتيجة النظرة العدائية العنصرية تجاه العرب والمسلمين والتي تعبر عنها سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب عموما. إذن يجب أن لا يُقرأ أي ملف بمفرده، بل علينا أن نجد نقاط الوصل بين هذه الملفات وأن نزيّلها أيضا بقراءة للتاريخ الذي يُري أيضا أن «الأمر كان دوما كذلك».
ألم تقم هذه الحضارات الأندوأوروبية بإبادة السكان الأصليين وثقافاتهم حينما توجهت إلى أوروبا وبنت المستوطنات للأوروبيين البيض على أنقاضها؟ فكيف نتوقع منهم اليوم موقفا حازما في موضوع الاستيطان اليهودي على أرض فلسطين؟ لقد سبق أحرار العالم العرب في دفاعهم عن غزة وفي تسليط الضوء على جرائم الحصار المفروض بالحديد والنار على المدنيين العرب في غزة، بينما إعلام العرب منشغل بإعادة بث الأخبار التي تصممها لهم الدوائر الصهيونية.
إن مواقف أوروبا وأميركا منذ أكثر من ستين عاما من الفلسطينيين ومن قيام دولتهم الفلسطينية ومن حق تقرير المصير، ومن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك نقدهم اللفظي الحالي لما يقوم به حكام إسرائيل، يستحق من الحكام العرب وقفة جادة مع كيفية التعامل بعد اليوم مع مواقف غربية ما دامت هي ملتزمة بـ«أمن إسرائيل»، أي أنها لا تزال ملتزمة بدعم وتمويل جرائم إسرائيل ضد الإنسانية. دون ذلك لن نستطيع فعل شيء حقيقي على الأرض لمساعدة الفلسطينيين على نيل الحرية، وسيستمر الأمر هكذا وسيكررون القول بعد عشرات السنوات من الجريمة الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين: «ما الجديد؟ لقد كان الأمر كذلك دوما». الجديد الذي يجب أن ينبثق من موقف رسمي وشعبي عربي مختلف يركز على هذه الحرب السياسية والمعرفية والحقوقية بين العرب والعالم، والتي تتطلب الكثير من العمل والجهد لكسبها بدلا من التركيز على «أولا» مضافة بعد اسم أي بلد عربي، أو من التركيز على ربح مباراة كرة قدم وتصوير ذلك على أنه انتصار حقيقي لأمتنا وشعبها الحائر ضمن لعبة عالمية خطيرة لا بد من مواجهتها بذكاء وإرادة.