بقلم: ماجد كيالي
ثمة نوع من التسابق على الحلبة الدولية بين حكومة إسرائيل برئاسة نتنياهو والسلطة برئاسة محمود عباس، بشأن التسوية، ولاسيما بخصوص البت بشأن قيام دولة فلسطينية، من عدم ذلك.
ويبدو أن إسرائيل استشعرت، خلال الأسابيع الماضية، بتحسّن مركز السلطة، على الصعيد الدولي، بعد أن نفّذت القسط الخاص بها من "خريطة الطريق" (الجانب الأمني)، وحققت نوعا من الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الضفة، وبعدما رتبت أوضاعها الداخلية (بعقد مؤتمر فتح وجلسة المجلس الوطني)، ما جعلها أكثر قدرة على التحرك لجلب التعاطف مع القضايا التي تطرحها؛ وهو ما أشر إليه تقرير "غولدستون"، وجملة الانتقادات الدولية من حكومات ومنظمات تجاه ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين، وإزاء تعنتها في عملية التسوية.
ومافاقم الأمر بالنسبة لإسرائيل قيام حكومة سلام فياض (في نهاية أغسطس المنصرم) بالإعلان عن خطتها بشأن إقامة مؤسسات الدولة الفلسطينية للإعلان عن قيام هذه الدولة في غضون سنتين.
وقد نظرت إسرائيل إلى هذه التطورات بحذر وقلق شديدين، برغم تحكمها بأوضاع الفلسطينيين، ماجعلها تقوم بكل ما من شأنه إحراج السلطة أمام شعبها (الاعتداءات على الأقصى والأنشطة الاستيطانية ومحاولات انتزاع البيوت من ساكنيها في القدس)، كما حاولت تأليب الإدارة الأميركية على السلطة، بدعوى أنها باتت تفرض شروطا على استئناف المفاوضات، وأنها تعرض المسؤولين الإسرائيليين على محاكم دولية. وهاهي تدعي اليوم بأن السلطة بسعيها لإقامة الدولية إنما تقوم بخرق اتفاق اوسلو، من جانب واحد، متناسية أن كل وضعها في الأراضي المحتلة عام 1967 هو اجراء قسري من طرف واحد، ومتناسية أنها هي التي تعمدت تكريس الاحتلال، بالاستيطان والجدار والحواجز وتحويل غزة إلى سجن لأهلها، على الضد من اتفاق اوسلو المذكور.
على أية حال يبدو أن إسرائيل استطاعت تحقيق نجاح معين بشأن ثني الإدارة الأميركية عن مواقفها السابقة بشأن تجميد كامل الأنشطة الاستيطانية كشرط لاستئناف المفاوضات (وهو ما تجلى في تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في المنطقة أخيرا).
لكن هذا التحول لم يثن السلطة، إذ إنها بدلا من ذلك قامت باتخاذ خطوة كبيرة، ذات دلالات خطيرة على عملية التسوية، تمثلت بإعلان الرئيس عباس عزوفه عن الترشح في الانتخابات المقبلة، احتجاجا على تشبّث إسرائيل باستمرار الاستيطان ومحاباة الولايات المتحدة لها واقتناعا منه بأن عملية التسوية باتت أمام أفق مسدود.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ تم تصحيح تصريحات كلينتون (من قبلها ومن قبل البيت الأبيض)، وبعدها جاءت زيارة نتنياهو إلى واشنطن، ولقائه بالرئيس اوباما، لتؤكد أن الأمور ليست على مايرام؛ حيث عادت فكرة الضغط الأميركي على إسرائيل لتليين موقفها في عملية التسوية. ومن جهتها، فإن السلطة لم تكتف بإعلان رئيسها العزوف عن الترشح في الانتخابات، وإنما قامت أيضا بالدعوة لعقد اجتماع للجنة المتابعة العربية لعملية السلام، التي شنّت من خلالها هجوما سياسيا ودبلوماسيا على إسرائيل، تمثل بطرح قضية إعلان الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران (1967) على مجلس الأمن الدولي، ودعوته لتحديد حدود هذه الدولة والاعتراف الكامل بها في الأمم المتحدة، في تحدٍ جديد وجدي لإسرائيل، وكرد على سياساتها المتعنتة.
ومشكلة إسرائيل أن هذه التطورات تأتي في ظل التحول الدولي نحو الضغط عليها، لتسهيل إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، خصوصا أن هذا التحول تقوده الولايات المتحدة؛ في ظل إدارة مقتنعة بأن حل أزمة الشرق الأوسط يسهل عليها حل الأزمات التي تواجهها (من باكستان وأفغانستان إلى العراق ولبنان مرورا بالملف الإيراني).
ومشكلة إسرائيل أيضا أن جميع الأطراف المعنية(لاسيما الفلسطينيين) باتوا مقتنعين بفكرة مفادها أن الدولة الفلسطينية إما تقوم في هذه المرحلة، وإلا فإنها لن تقوم، ما سيبدد كل الجهود التي بذلت لتحقيق السلام في المنطقة، ما يضع إسرائيل في مواجهة وضعها كدولة ثنائية القومية، بحكم الأمر الواقع، ولكن على محمول استعماري وعنصري.
كل المؤشرات تفيد بأن عملية التسوية، التي انطلقت من مدريد (1991) بوعود "الشرق الأوسط الجديد"، تقزّمت كثيرا بفعل تملصات وسياسات الأمر الواقع الإسرائيلية، إلى مجرد نوع من السلام الاقتصادي في المنطقة، ومجرد إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح وبحدود موقتة، مرتهنة لشبكة من العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع إسرائيل.
على ذلك يبدو أن التصارع بين الفلسطينيين والإسرائيليين اليوم يتمحور على شكل هذه الدولة، وحدودها الجغرافية والسيادية. وهو بمعنى أخر صراع على سلطة تصارع الاحتلال لانجاز الاستقلال الوطني، أو سلطة تتعايش تحت الاحتلال.