بقلم: نقولا ناصر
إن الفصام السياسي الفلسطيني بين القول وبين الفعل، لا بل أيضا بين القول والقول، قد وجد في انعقاد المؤتمر العام السادس لحركة فتح مناسبة للاطلاع على نماذج صارخة له، لم يكن آخرها التصريح الذي أدلى به إلى فضائية «الجزيرة» القطرية رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، عندما قال إنه يفاوض دولة الاحتلال الإسرائيلي باسم منظمة التحرير لا باسم فتح.وكان عريقات يعلق على مدى التزامه بالبرنامج السياسي للحركة الذي أقره المؤتمر، ليؤكد التزامه به بصفته عضوا في اللجنة المركزية الجديدة للحركة التي انتخبها المؤتمر، وليؤكد في الوقت نفسه التزامه بنقيضه بصفته الرسمية في منظمة التحرير، ليوحي بأن فتح غير ملزمة باتفاقيات أوسلو الموقعة بين المنظمة وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي، متناسيا مطالبة فتح المتكررة لخصومها السياسيين في حركة حماس بضرورة الالتزام بهذه الاتفاقيات كشرط مسبق لإنجاح الحوار الوطني وتفعيل منظمة التحرير وتأليف حكومة توافق وطني، ومتجاهلا قبل ذلك الحقيقة التاريخية بأن قادة فتح هم الذين فاوضوا على تلك الاتفاقات ووقعوها باسم منظمة التحرير.
وهذا الفصام السياسي هو ظاهرة فلسطينية يتميز بها المفاوض الفلسطيني. وبالرغم مما تنطوي عليه حقيقة أن هذا المفاوض لا ينتسب إلى فتح فقط بل إنه يقودها من ظلم للحركة بسبب التسرع في تعميم فصامه على حركة لا يمكن لأي تقويم موضوعي تاريخي أن يصم الأغلبية الساحقة من قواعدها بفصام سياسي مماثل، فإن المؤتمر السادس للحركة لم يتمكن من نفي هذا التجني على الحركة بوضع خط فاصل قاطع بين فتح وبين من يفاوض من قادتها «باسم منظمة التحرير».
وليتأكد استمرار الخلط بين فتح وبين المنظمة ولتظل حقيقة المواقف مغيبة بينهما، أكد رئيس الحركة محمود عباس في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد أول اجتماع للجنتها المركزية الجديدة نهاية الأسبوع الماضي على أن فتح ستواصل دورها في حماية «المشروع الوطني تحت راية منظمة التحرير».
لقد صادق المؤتمر العام السادس لحركة التحرير الوطني الفلسطيني يوم السبت الماضي على البرنامج السياسي لـ«فتح» الذي، على سبيل المثال، نص على رفض قاطع لمشاريع الدولة الفلسطينية المؤقتة في الأراضي المحتلة عام 1967، وفي المؤتمر الصحفي نفسه شدد عباس على رفض الحركة «بالمطلق» لهذه المشاريع، لكنه، بصفته رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير كما يبدو، جدد مطالبة دولة الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذ «خريطة الطريق» التي تنص في مرحلتها الثانية على إقامة دولة فلسطينية انتقالية مؤقتة بلا حدود بانتظار التوصل عبر التفاوض إلى اتفاق على قضايا الوضع النهائي في مرحلتها الثالثة!
وقد دعا عباس في ذات المؤتمر، كمثال آخر، إلى «حل عادل» لقضية اللاجئين وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وكثيرا ما كرر الدعوة قبل ذلك إلى حل «متفق عليه» بالتفاوض لقضيتهم مستندا إلى مبادرة السلام العربية، ويفهم من دعوته المتكررة هذه أنه كان يتحدث باسم المنظمة، لأنه لو كان يتحدث باسم فتح لدعا مع البرنامج السياسي الذي أقره مؤتمرها السادس إلى «العمل الدؤوب لتحقيق حق اللاجئين في العودة والتعويض واستعادة الممتلكات» لا إلى التفاوض على حل متفق عليه مع دولة الاحتلال لقضيتهم من المؤكد أن نتيجة التفاوض عليه لن تكون «عادلة».
وفي هذا السياق فإن اقتصار تمثيل اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، وتعدادهم يزيد على تعداد مواطنيهم في الوطن المحتل، على عضو واحد في اللجنة المركزية الجديدة للحركة هو مؤشر لم يحظ حتى الآن بما يستحقه من اهتمام، لكنه كان على كل حال مؤشرا إلى الانفصام السياسي ليس بين القول والقول فقط بل بين الفعل السياسي وبين قول عضو آخر في اللجنة المركزية الجديدة، هو نبيل شعث، إن البرنامج السياسي المقر للحركة «لا يستثني أبناء شعبنا في كل مكان سواء في الأرض المحتلة أو داخل فلسطين التاريخية عام 1948 أو في الشتات»!
صحيح أن البرنامج السياسي المقر في المؤتمر السادس أكد بأن «الأهداف والمبادئ والأساليب المنصوص عليها في الباب الأول من النظام الأساسي منطلق أساسي لحركتنا» - فهذا خطاب الحركة - لكن البرنامج اعتبر «خطاب السيد الرئيس محمود عباس عند افتتاح المؤتمر» - وهذا خطاب المنظمة وسلطة الحكم الذاتي - مرجعية له أيضا تتناقض مع هذا التأكيد، ناهيك عن إشارة الخطاب المشار إليه إلى المقاومة و«الكفاح المسلح» كجزء مشرف من تاريخ الحركة قبل أن يخلص إلى الوضع الراهن للحركة الذي ينبذ «الإرهاب». والبرنامج لا يخلو من تناقضات أخرى تقر «الثوابت» الوطنية من جانب وتجمد العمل بها عمليا من جانب آخر بإقرار الالتزام باستحقاقات «المشروع الوطني» الذي يقوده المفاوض الفلسطيني في الحركة وفي المنظمة على حد سواء.ومع ذلك فإن المؤتمر السادس وقع في الفصام السياسي بين برنامجه السياسي، على علاته، وبين الفريق السياسي الذي اختاره لقيادة الحركة، فهذا الفريق في اللجنة المركزية ليس وجوها «جديدة» بل هي الوجوه القديمة نفسها المعروفة منذ توقيع اتفاق أوسلو الأول (إعلان المبادئ في واشنطن عام 1993)، وهو ليس فريقا «شابا» فأصغرهم في الخمسينيات من العمر، أطال الله في أعمارهم جميعا، وهو ليس فريق «تجديد» سياسي بل هو الفريق «التنفيذي» لاتفاقيات أوسلو القديمة، فمنه دبلوماسيان عريقان كانا يسوقان هذه الاتفاقيات دوليا، ومنه، كما قال أحمد قريع الذي لم «يحالفه الحظ» للاستمرار في القيادة، أربعة قادة أمنيين وفروا الحماية لهذه الاتفاقيات ضد معارضيها الفلسطينيين لا ضد انتهاكات «الشريك الإسرائيلي» لها، وقس على ذلك، ناهيك عن عباس مهندسها والموقع عليها «باسم منظمة التحرير».
غير أن الفصام السياسي الأهم سيظل قائما في الهوة الواسعة بين أي برنامح سياسي يقره أي مؤتمر للحركة وبين البرنامج الذي تنفذه قيادتها طالما ظلت قيادتها تقود سلطة الحكم الذاتي وتلتزم بالاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والتي بموجبها أقيمت هذه السلطة، تماما مثلما كان الانفصام بين ميثاق الحركة ونظامها وبرنامجها وبين هذه القيادة طوال العشرين عاما المنصرمة، وهو الانفصام الذي منع هذه القيادة من تقديم أي تقرير عن أدائها طوال العقدين الماضيين من الزمن إلى المؤتمر السادس والذي سيمنعها بالمثل من تقديم أي تقرير مماثل في أي مؤتمر جديد. كان الأمل أن ينهي المؤتمر السادس الذي طال انتظاره للحركة هذا الخلط بين فتح وبين منظمة التحرير، وهذا الفصام بين القول وبين الفعل، وبين القول والقول، وأن ينهي ظاهرة جيل من القيادة يتحدث بلسانين، لسان للقواعد الحركية وهي جزء قيادي من الشعب الرازح تحت الاحتلال والحصار ولسان آخر للمانحين الدوليين، جيل بوجهين يذكر بقصة دكتور جاكل ومستر هايد في الأدب الإنجليزي، لكن المؤتمر للأسف انتهى إلى وضع تلاميذ هذا الجيل في موقع القيادة.