بقلم: بلال الحسن
لقي الموقف الإيراني الرسمي من قضية تمرد الحوثيين المسلح في اليمن، استهجانا واستغرابا واستنكارا من الأوساط السياسية العربية كافة. وحتى بعض أصدقاء إيران العرب، المدافعين عن بعض مواقفها الإشكالية، لم يستطيعوا أن يجدوا لها عذرا في موقفها «الحوثي» هذا. ولا يقتصر الأمر هنا على مجرد انتقاد لموقف سياسي، إنما يقدم الموقف الإيراني حجة شديدة القوة تدعم المخاوف التي يعبر عنها خصوم سياستها في المنطقة العربية، وأنها إذ تدعم موقفا عربيا ما، تفعل ذلك لمصلحة آنية تخدم سياساتها الخاصة، ولا بأس من أن يخدم موقفها مصلحة الطرف العربي المعني. وكانت إيران تستفيد كثيرا من الناحية السياسية حين تدعم طرفا عربيا يخوض معركة ضد إسرائيل، فيبدو تدخلها دعما للمصلحة العربية في مواجهة إسرائيل، وتكسب بسبب ذلك تأييد أوساط عربية عديدة. أما في معركة اليمن، فإن دعمها للحوثيين يرقى إلى مستوى العمل التخريبي الذي يقف إلى جانب قوة متمردة ضد نظام حكم عربي قائم. وبدلا من أن تتدخل مثلا لتكون وسيطا في حوار بين الحوثيين والسلطة، تدخلت بوضوح كامل لدعم المتمردين ضد السلطة. وهذا أمر ستكون له نتائجه الصعبة في المنطقة العربية كلها.
وما أن نجح الجيش اليمني في صد هجمات الحوثيين وتكبيدهم خسائر ملحوظة، حتى شعر الحوثيون بالخطر، واجتهدوا كما ظهر واضحا، بتوسيع نطاق المعركة، وإعطائها أبعادا غير يمنية، لتغطية تراجعهم في أرض المعركة، أو من أجل أن يمكنهم ذلك من العودة للإمساك بزمام المبادرة التي فقدوها، فكان هجومهم على السعودية وعلى المواطنين السعوديين، وهو ما هدد بأن يعطي للصدام أبعادا إقليمية، ثم أبعادا دولية، لولا أن السعودية تدخلت بشكل حاسم لرد هجوم الحوثيين. وكان أن فشل هجوم الحوثيين في تحقيق أهدافه. وكان أن وقع الحوثيون في كماشة الهجومين: اليمني من جهة والسعودي من جهة أخرى، وبدا أن الحوثيين على وشك الهزيمة الكاملة في ميدان المعركة. وهنا.. وفي هذه اللحظة بالذات، جاء تدخل إيران الإعلامي والسياسي، وبدا بوضوح أن الهدف الأساسي من تدخلهم هو محاولة إنقاذ الحوثيين من مواجهة الهزيمة العسكرية، ثم من مواجهة الهزيمة السياسية. ودخلت إيران بهذا في مواجهة سياسية قاسية مع دولتين عربيتين، مع اليمن المعنية بالأمر مباشرة، ومع السعودية التي يولد الصدام معها تأثيرات عالمية.
لقد شكل الموقف الإيراني بحد ذاته، مفاجأة للسعودية وللسعوديين، ولكن المفاجأة كانت أكبر مع انتهاء المواجهة السعودية العسكرية الأولى مع الحوثيين. فقد تمت مهاجمة الجيش السعودي من داخل المناطق الحدودية السعودية، ومن دون أن يلحظ الجيش السعودي نقلا للسلاح أو المسلحين من اليمن إلى داخل المنطقة السعودية. وساد هذا اللغز لساعات، إلى أن اكتشف السعوديون وجود مخابئ للسلاح في أراضيهم، تم إعدادها وإخفاؤها منذ زمن سابق، ثم حين جاءت اللحظة المطلوبة، كان يكفي أن ينتقل بضعة أشخاص يمنيين، على أنهم أشخاص مدنيون من سكان المناطق الحدودية، ولا يلحظ أحد خطورة تنقلهم، وتكون مهمتهم استخراج السلاح من مخابئه، واستعماله في مواجهة الجيش السعودي من حيث لا يتوقع. لقد كشف هذا الوضع عن وجود إعداد مسبق، وعن وجود تخطيط مسبق، لمهاجمة السعودية، وحين برز الدعم الإيراني للحوثيين، ظهرت خطورة هذه المسألة، والتي تجاوزت مجرد الدعم لفريق متمرد، إلى التحضير المسبق، وبواسطة دولة جارة كبيرة، للاعتداء عسكريا على السعودية.
والغريب.. أن هذا كله قد حدث، بينما تخوض إيران معركة دبلوماسية شرسة مع الولايات المتحدة الأميركية، حول تجربتها النووية وأهمية بقائها في إطارها السلمي. وقد وقف العرب جميعا موقفا رافضا لمعالجة المسألة الإيرانية عسكريا، ورافضا بالتالي لكل التهديدات الأميركية والغربية والإسرائيلية. وكانت مصلحة إيران تستدعي الاستفادة من هذا الموقف العربي لدعم موقفها، ولكنها برهنت على قصر نظر سياسي حين انكشف دعمها للحوثيين ضد دولتين عربيتين، معرضة كل علاقاتها العربية للخطر.
لقد استطاع الجيش السعودي أن يؤمن السيطرة الكاملة على حدوده. كما استطاع الجيش اليمني أن يوجه ضربات قوية لتنظيم الحوثيين. وعاجلا أم آجلا سينجلي غبار المعركة عن حوار يمني داخلي لا بد منه، يرسم المخرج السياسي للأزمة، حيث لا بد أن يتحمل تنظيم الحوثيين مسؤولياته عن زج البلد في صراع عسكري ذي طموحات ذاتية تخدم مصلحة تيار سياسي معين، على حساب مصلحة البلد الشاملة، وسيؤسس الحوار اليمني الداخلي بالضرورة لسيادة جو الاستقرار في البلد، ولبناء علاقة إيجابية بين الطوائف كافة، وبما فيها الطائفة الزيدية التي تشكل طيفا أساسيا في التشكيل الطائفي اليمني، وهي الطائفة التي يحاول الحوثيون الآن ادعاء النطق باسمها، بينما هي بعيدة كل البعد عما يمثله الحوثيون باتباعهم نهجا متطرفا خاصا بهم.
وقد ارتبطت مشكلة الحوثيين في اليمن، بقضية أخرى هي قضية ما سمي بـ «الحراك الجنوبي»، حيث خرجت قوى شعبية في العديد من مدن المحافظات الجنوبية التي كانت تشكل قبل الوحدة دولة مستقلة في الشطر الجنوبي من اليمن. وحصلت خلال هذا الحراك صراعات ومواجهات، وسقط قتلى وجرحى، وبدا لفترة وجيزة أن المشكلتين في الشمال والجنوب، تتلاقيان وتهددان النظام اليمني. ويستدعي هذا الوضع وقفة خاصة ولو قصيرة.
لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى أزمة عالمية، ولكن دولتين استفادتا من هذه الأزمة إلى أقصى حد ممكن، هما ألمانيا واليمن. ألمانيا حققت وحدتها مع انهيار جدار برلين. واليمن حققت وحدتها في الحوار بين شطري اليمن، وحين دخل الرئيس علي عبد الله صالح بوابة التاريخ كمؤسس للوحدة اليمنية، كان يرافقه في دخول بوابة التاريخ الرئيس علي سالم البيض (رئيس الشطر الجنوبي) الذي أصبح نائبا له. ولكن علي سالم البيض لم يدرك معنى دخول بوابة التاريخ، فآثر أن يعود أدراجه ليخرج منها متسللا، ومعلنا الحرب تحت شعار غريب من نوعه، هو شعار «الانفصال». إذ بينما تناضل الشعوب من أجل الوحدة، أعلن رئيس الحزب الاشتراكي اليمني أن شعاره هو «الانفصال». وحدثت في ظل هذا الشعار حرب يمنية مؤسفة، ولكن هذه الحرب المؤسفة انتهت بانهيار تيار الانفصال، وبناء اليمن دولة موحدة، بقيادة الرئيس على عبد الله صالح.
وبقدر ما كان إنجاز الحفاظ على وحدة اليمن، ولو بالحرب، كبيرا، بقدر ما كانت السياسات التي اتبعت بعد ذلك خاطئة وقصيرة النظر، فبرزت عقلية «استئصال» للحزب الاشتراكي اليمني وكوادره، من جميع مراكز السلطة والمجتمع. وكان هذا خطأ كبيرا استمر في توليد المشكلات حتى الآن.
لقد أراد القائمون على الأمر في صنعاء، أن يستبدلوا الحزب الاشتراكي المهيمن في الجنوب بزعماء القبائل التقليديين، وكان أن نتج عن ذلك أمران:
الأمر الأول: فشل محاولة الهيمنة القبلية، ذلك أن الحزب الاشتراكي اليمني كان قد أصبح هو «القبيلة» الأكبر في الجنوب. أما زعماء الحزب فقد أصبحوا هم زعماء القبائل الجدد، ولذلك استحال على القبائل الأخرى أن تخترق حصونهم.
الأمر الثاني: أن بعض من تم تشجيعهم والاعتماد عليهم من زعماء القبائل القدامى، ليكونوا زعماء المرحلة الجديدة، كانوا قد أصبحوا يمثلون تيارات دينية متطرفة، تستطيع أن تولد المشاكل ولكنها لا تستطيع أن تولد الهدوء.
ومع الزمن.. تحولت سياسة «الاستئصال» لقادة الحزب، إلى محاولة «استئصال» لقوى اجتماعية كاملة، ومحاولة إبعاد عن الوزارات، والإدارات، والجيش، ومختلف دوائر الدولة الأخرى. وأسس هذا كله لحالة غضب اجتماعي متنام، هي التي انفجرت أخيرا، ووقعت مجددا في الخطأ، إذ تبنت شعار «الانفصال» من جديد.
وبالطبع.. لا يمكن مواجهة الحراك الجنوبي بالإجراءات الأمنية وحدها، ولا بد من سياسة يمنية جديدة تبتعد عن منهج «الاستئصال»، ثم تحتضن الجميع داخل إطار الدولة الواحدة والموحدة، وآنئذ يمكن للاستقرار أن يسود.