بقلم: هاني المصري
بعد إعلان لجنة الانتخابات المركزية عن عدم قدرتها على تطبيق المرسوم الرئاسي بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها، اعتبر الكثيرون أن هذا الإعلان يجعل الرئيس أبو مازن في حل من تنفيذ رغبته بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة. فإعلان لجنة الانتخابات عن تعذر إجرائها يضع الكرة في ملعب الرئيس ابو مازن الذي يستطيع أن يقرر تأجيل الانتخابات أو عقدها في موعدها.
ابو مازن اختار إحالة الأمر الى المجلس المركزي لمنظمة التحرير مع أن عدم المسارعة في البت بذلك اعتبر قبولاً ضمنياً بتأجيل الانتخابات، وبالتالي لم يعد مطلوباً من الرئيس أن يترشح أو لا يترشح، بل إنه سيبقى رئيساً حتى الرابع والعشرين من كانون ثاني القادم، والكرة الآن أصبحت في يد المجلس المركزي لـ م.ت.ف الذي بمقدوره التمديد للرئيس أو الموافقة على استمرار عمله حتى إجراء الانتخابات أو تعيين رئيس جديد. وهذا ممكن لأن هناك في القانون فرقاً ما بين المدة القانونية والولاية القانونية. وعلى خلفية هذا الفرق لا يستطيع الجندي المكلف بحراسة نقطة عسكرية أو مدنية أن يغادرها، حتى بعد انتهاء فترة مناوبته، لأن القانون يلزمه بالمكوث في مناوبته لحين مجيء جندي آخر، وإذا خالف ذلك يتعرض للمحاكمة العسكرية، واذا كان الجندي ممنوعاً ان يترك مناوبته قبل مجيء من يخلفه فالأولى ان هذا ينطبق على الرئيس.
ومن أجل عدم نشوء فراغ قانوني ودستوري نص القانون الأساسي على أن المجلس التشريعي لا تنتهي ولايته القانونية إلا عندما يسلم مهامه لمجلس تشريعي منتخب آخر. وما ينطبق على المجلس التشريعي ينطبق بالقياس على الرئيس، لأن روح القانون والسوابق القانونية في التاريخ، ومنطق الأشياء، يرفض إحداث فراغ دستوري، فهناك شيء اسمه شرعية الأمر الواقع وضرورة الاستمرارية. فالطبيعة تكره الفراغ. صحيح أن الشرعية التي تستند الى قوة الواقع أو الى ظروف قاهرة تكون شرعية مؤقتة وضعيفة، ومن السهل الطعن بها، ولكنها أفضل من إجراء انتخابات لا تشمل القطاع وبدون وفاق وطني، ومن الفراغ الذي سيؤدي الى نتائج كارثية تمس بالمصلحة الوطنية العليا التي تسمو على كل شيء، "فالضرورات تبيح المحظورات" و"درء المفاسد أولى من جلب المنافع".
وفي يد حركة حماس، التي بمقدورها أن توقع على الورقة المصرية، والتي تتضمن تأجيل الانتخابات الى 28/6/2010، وهي ستجري حينها، اذا سمحت باجرائها اسرائيل، في ظل وفاق وطني، ويمكن الاتفاق في حينه على كيفية إخراج المسألة بشكل قانوني، وذلك ممكن من خلال دعوة المجلس التشريعي للانعقاد وإصدار قانون بتأجيل الانتخابات أو تعديل القانون بما يسمح بتأجيل الانتخابات.
ابو مازن لا يزال عند رغبته بعدم الترشح، رغم تأجيل الانتخابات، وصرح في مقابلة مع التلفزيون المصري اذيعت، مساء يوم الثلاثاء الماضي، ومقابلة اخرى مع فضائية BBC اذيعت، مساء الخميس الماضي، بأنه يدرس التنحي من منصبه كرئيس للسلطة ومن كافة مناصبه الأخرى واعتزال العمل السياسي قبل عقد الانتخابات. لقد قال انه ليس هناك ضرورة لوجوده على رأس السلطة ما لم يكن هناك ما يخدم القضية الفلسطينية، وأضاف: قراري واضح وقاطع، لن أترشح لأي انتخابات قادمة، وقال إنه طلب من اللجنة المركزية لحركة فتح، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن يبحثوا عن بديل له. وأضاف أيضاً: أنا شخص عنيد ولن يتغير قراري تحت أي ضغط.
إذاً الرئيس مصمم على موقفه، إلا كما أضاف: إذا انتهت الدوافع التي دفعته لاتخاذه، وأصبح لديه شيء يمكن أن يقدمه لشعبه، ولا يبدو ان هناك ما يكفي لكي يبقى في موقعه رغم مرور اسابيع على اعلان رغبته بعدم الترشح.
إن تكرار الموقف بوضوح أكبر والإصرار عليه، رغم الضغوط الشعبية والسياسية الفلسطينية والعربية والدولية، يجب أن يؤخذ على محمل الجد، حتى لا يفاجأ الجميع باستقالة لم يتم الاستعداد لها.
فإذا لم يحصل الرئيس على إنجاز سياسي جوهري وحاسم من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل يتجاوز خطوات بناء الثقة مثل إزالة بعض الحواجز وإطلاق سراح بعض المعتقلين الذين أنهوا معظم محكومياتهم، ويتعلق بتحديد واضح لمرجعية عملية السلام وتجميد الاستيطان تجميداً تاماً، وتراجع رغم ذلك عن عدم رغبته بعدم الترشح او الاستقالة، سيقدم على انتحار سياسي، ومصداقيته ستتضرر كثيراً، ومكانته السياسية والشعبية ستتراجع. وإذا حصل على انجاز سياسي سيعزز موقفه بشكل كبير جداً ويواصل طريق المفاوضات من موقع قوي.
لذا يجب الاستعداد لكافة الاحتمالات، وخصوصاً أن إقدام الولايات المتحدة الأميركية على تغيير جوهري في سياستها إزاء إسرائيل، ليس أمراً مرجحاً، وفضلاً عن أنه لن تكون له قيمة كبيرة وحاسمة إذا لم يترافق مع استعداد لممارسة ضغط جدي ومتواصل على إسرائيل. فأي موقف أميركي أو ضمانات أميركية إن لم ترافقها ضغوط وعقوبات سياسية واقتصادية وقانونية على إسرائيل ستكون مثل شيك بلا رصيد. وواهم كل من يعتقد أن الإدارة الأميركية الحالية، وأية إدارة قادمة، يمكن أن تمارس ضغطاً جدياً كافياً على إسرائيل، بدون أن تكون هناك أزمة كبيرة في المنطقة وضغوط فلسطينية وعربية ودولية، لا يمكن أن تتوفر بدون جمع أوراق القوة الفلسطينية والعربية والدولية الى حد كافٍ لجعل الإدارة الأميركية تجري مقارنة ما بين الفوائد والأرباح التي تجنيها هي وإسرائيل من استمرار الاحتلال والاستيطان والعدوان الإسرائيلي، والخسائر والأضرار الناجمة عنه، وعندما تصبح الأرباح تساوي الخسائر أو تقل عنها عندها ستغير الإدارة الأميركية سياستها، وستسعى لتغيير السياسة الإسرائيلية.
إن الوصول الى هذا الوضع، بحاجة الى وقت وصبر ومثابرة، والى بلورة واعتماد استراتيجية جديدة وبديلة. فلا يكفي مجرد تهديد بالتنحي أو الغضب وإنما نحن بحاجة الى عمل وكفاح طويل يستند الى توحيد الشعب وقواه على أساس إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني.
إن الرئيس من حقه وواجبه أن يستقيل إذا وجد أن الطريق الذي سار به لم ينجح، وإذا وصل الى قناعة بأنه لا توجد له فرصة كبيرة للنجاح مستقبلاً.
صحيح أن الرئيس بمقدوره أن يدعو الى طريق جديد ويسعى لقيادته، ولكنه لا يزال يؤكد باستمرار أنه رجل سلام ومفاوضات وعمل ديبلوماسي، وأي طريق آخر ليس هو المناسب له، فهو لن يكون بعد هذا التاريخ وفي ظل هذا العمر، رجل مقاومة، رجل يدعو ويستعد لقيادة الخيارات الأخرى.
في هذا السياق، قام الرئيس أبو مازن بصرخته في محاولة أخيرة لإنقاذ طريق المفاوضات الذي آمن به وسار فيه الى نهاية الشوط.
وإذا نجحت أو لم تنجح صرخة ابو مازن باختراق الطريق المسدود، على الفلسطينيين أن يبقوا مستعدين لكافة الاحتمالات، وأن يفتحوا كافة الخيارات والبدائل بما فيها احتمال إقدام أبو مازن على عدم الترشح أو الاستقالة.
ابو مازن أعرب عن رغبته ومطالبه، وهذا أمر لن يطول الحسم به، فخلال عدة أسابيع أو عدة أشهر على الأكثر يجب أن يختار: فإما الاستمرار أو الانسحاب؟ وعلينا أن نكون مستعدين في كلتا الحالتين، وخصوصا أن مرحلة ما بعد ابو مازن، ستكون مرحلة مجابهة مع مد اليد للسلام، وليس كما كانت المرحلة السابقة، تعاوناً وتنسيقاً أمنياً وتنفيذ الالتزامات الفلسطينية من جانب واحد، بدون سلام ولا التزام إسرائيلي مقابل. فأي رئيس بعد ابو مازن لن يكون قادراً على قبول ما رفضه ياسر عرفات وابو مازن وهذه ورقة قوية في يد ابو مازن. وكل الاحتمالات في هذه الحالة ستكون مفتوحة بما في ذلك انهيار السلطة.
الامر الحاسم هو ليس بقاء الرئيس او عدمه على اهمية ذلك وانما ضرورة وضع استراتيجية جديدة بديلة عن استراتيجية المفاوضات الثنائية التي استنفدت اغراضها وفشلت والحقت أضراراً فادحة بالقضية الفلسطينية !!.