خبر أسئلة الوحدة في ظل الاقتتال ودعوات الانفصال .. علي عقلة عرسان

الساعة 03:25 م|20 نوفمبر 2009

بقلم: علي عقلة عرسان

في ظل الاقتتال العربي اليوم الذي ينذر بانتشار الفتنة الدموية إلى أبعد من صَعْدَة اليمن، وفي ظل دعوات الانفصال، والتمزق المزري والهزال والعجز العربي عن استنقاذ شيء في القدس أو وقف تهويدها وتشريد سكانها العرب، يسأل المعادون لأية صيغة من صيغ العمل العربي المشترك والمزرون بأي شكل من أشكال التضامن والاتحاد والوحدة عربياً، وكذلك الذين يتكلمون عن التضامن والاتحاد الوحدة، ويحلمون بأي شكل من أشكال العمل العربي التي تقربنا من الوحدة والقوة، وتخرجنا من دوائر الضعف والمحنة:

هل الوحدة العربية، ما زالت شعاراً ممكناً معقولاً مقبولاً في زمن تفعيل السيادة القطرية العربية وشمرختها، ورسم الحدود، والكلام على " أنا أولاً"؟! وهل من أمل، مجرد أمل، في وحدة عربية بعد أن تدنى مستوى حلم المطالبين بها إلى أقل من اتحاد، وإلى أدنى من تضامن.. وحتى إلى مجرد تنسيق عربي مرعي الاعتبار؟!

وهل نقول بالوحدة العربية بعد أن فقدنا ظل التضامن العربي الهزيل ذاته، ولم يعد للجامعة العربية مكانة وهيبة يطمئن إلى دورها وفعلها وقرارها أحد؟!

وهل في ظل هذا يُقبل من القوميين التمسك "بطوباوية" الوحدة، فضلاً عن "بالاشتراكية" التي انهارت أو تراجعت في أكثر من موقع عالمي هام. ألا يستدعي ذلك كله مراجعة جوهرية تصل إلى حدود مراجعة الأهداف وإعادة النظر بالشعارات؟!

نقول إن الوحدة العربية "حلم" مشروع لكل من يرى فيها مدخلاً لتغيير الواقع العربي المتهافت، والحلم دائماً أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع. وفي ظل التكتلات الدولية الكبرى التي يشهدها هذا العصر، ليس لنا إلا الاحتماء بظل تكتل عربي اقتصادي وسياسي وثقافي..الخ، يكون قادراً على المقاومة ودرء الأخطار عن الأمة وتوفير حدٍّ أدنى من الأمن القومي في كل مجال من مجالات الحياة والعمل والعلم والتقدم، فالأقطار العربية التي تشكل بيادق على رقعة الشطرنج الدولية لا يمكنها أن تحمي حقوقها ومصالحها وتحرر أرضها وقرارها وتحافظ على سيادتها باستقلالية تامة واقتدار مؤثر، من دون التكامل والتضامن والوحدة أو الاتحاد.

لقد تعرضت تجارب الوحدة العربية إلى إجهاض تلو إجهاض في مراحل متعددة الأطوار، كان أقساها وأكثرها إيلاماً إجهاض تجربة الوحدة بين مصر وسورية. وحين نستعرض اليوم المشاريع الوحدوية أو الاتحادية التي تمت بعد الانفصال الذي قوض دولة الوحدة، فإننا نجد الكثير مما ينم عن عمق التعلق العربي بالوحدة أو الاتحاد، ونجد في حنايا كل تلك المشاريع ورماً قطرياً خبيثاً كان يبدأ النمو والتضخم في الوقت الذي تبدأ فيه الفكرة الوحدوية- الاتحادية جنيناً في أعماق الوجدان ومن ثمة حركة في الشارع.. ونجد أنفسنا أمام حقيقتين كبيرتين:

1 -حقيقة أن الحلم العربي بالوحدة أكبر وأقوى من كل الإحباط الذي رافقه، بدليل استمرار الحلم والتمرد على الإحباط وعدم الاستسلام لليأس منه.

2 -حقيقة أن التجزئة والقطرية وقوة الجهات العربية والدولية التي تقاوم الوحدة ولا تجد لها مصلحة فيها، ما زالت أقوى من قدرة الوحدويين على نشر الوجود والريادة والقيادة والسيادة. والاستمرار في النضال على طريق عمل وحدوي ذي صيغة جادة وقوية وفعالة، تقدم الأنموذج القدوة وتغري الآخرين باختياره والاقتداء به والانضمام إليه، أو بتمثُّله والتحقُّق من خلاله.

وينبغي أن يقودنا ذلك الوضع إلى التفكير بصيغة عربية مقبولة تحقق لنا قدراً معقولاً من التضامن الذي يجعل أحد فروع الأمة يحتمي بجذعها وظلها بأمان واطمئنان عند الضرورة، ويجعل الأمة قادرة على أن تحقق مصلحة أو تحجب ضربة مؤلمة أو تحفظ كرامة مهدرة، أو تستعيد أرضاً وحقاً وكرامة.

إن الصيغة القطرية الحالية لن تنقذ أو تستنقذ شيئاً في المستقبل وقد لا تبني شيئاً يُذكر، وستصبح موقعاً ينبعث منه التهديد الأجنبي ضد أي قطر عربي ذي نظرة قومية يسعى إلى تحرير إرادته وقراره واقتصاده وسيادته وثقافة الأمة من أشكال التبعية. لأنها ستكون- أرادت ذلك أم لم ترد- بحماية العدو أو حليفاً له، أو منطلقاً لقوة عدوانه، أو أداة لذلك العدوان وسنَداً له ـ وما زالت صور من ذلك مرتسمة في بؤر عيوننا وقلوبنا ـ ويبقى القطر التابع المحتمي بالأجنبي في كل هذه الأحوال مأكولاً مذموماً ذليلاً، يرفع فيه أشخاصٌ من داخل النظام أو من خارجه رؤوسهم على حساب ذل شعبهم وأمتهم.

ومما نشير إليه من معطيات وحقائق عربية ودولية ذات صلة بهذا الشأن ما يلي:

أولاً: رسوخ النظام القطري العربي، واستقطابه لولاء جماهيري داخل القطر ذاته، وإسباغ صفة "القدسية" على ذلك الولاء، فهو "الوطنية التامة"، عرفاً وقانوناً. وأن القطرية تكرِّس الصيغة التجزيئية المناقضة للوحدة والمناهضة لها عملياً، بصرف النظر عن الشعارات التي ترفع هنا وهناك، وهي تتمتع بثلاث دوائر من القوة حامية لها ومدافعة عنها، عدا الدوائر الأخرى المحتمَلة، وتلك الدوائر الثلاث المعلنة هي:

1 ـ القوة العسكرية القطرية ذاتها التي تُستَنْفَر وتُستخدم لحماية الدولة القطرية ونظامها،

2 ـ الجامعة العربية التي يقر ميثاقُها تلك الصيغة ويحميها ويعزز استمرارها ولا تريد كما لا تستطيع أن تخرج عليها.

3 ـ الأمم المتحدة التي تجسد الاعتراف الدولي بالكيان القطري العربي القائم وتحميه عند الضرورة.

ثانياً: تمسك الأقطار العربية والأنظمة ومعظم الأحزاب بالصيغة القطرية كصيغة نهائية، ووضع الأهداف والخطط وبرامج العمل والسياسات الرئيسة التي تتبناها فعلياً على هذا الأساس.

ثالثاً: حقيقة وجود واستمرار "الفيتو" الغربي على الوحدة العربية.

إنني أرى في الوحدة هدفاً متجدداً في هذه الظروف أكثر من أية ظروف أخرى، وأجد أنه، في ظل التكتلات الدولية الكبرى، وتحديات العصر المتعددة الأشكال، وتجذُّر القطرية ـ التجزئة ـ وتهافتها في آن معاً، ينبغي أن تتصاعد الدعوة للعمل العربي المشترك بكل الصيغ الممكنة بواقعية وتصميم، لتقريب الأمة من التضامن والاتحاد في إطار نُشدان الوحدة بوصفها منقذاً وهدفاً أسمى يتطلع إليه الجميع.

والنقلة النوعية التي أرى أنها ضرورية الآن هي تلك التي تجعلنا نأخذ بتنفيذ الشعار الوحدوي خطوة متواضعة إثر خطوة أخرى متواضعة، بواقعية شديدة الدقة، وعلمية جادة، ودراسة منهجية تامة لواقع الأقطار ومصالحها وتجاربها، ودراية كافية بكيفية التعامل مع النزوع القطري المستفحل، وبمسؤولية قومية ومبدئية وخلقية عالية.. لكي تصبح هناك رؤية منقذة وآمال مجسّدة ومصالح على الأرض وقوة تحمي الأمة والقطر، البيدق، على الرغم من نمو مظاهر تفعيل السيادة القطرية بوجه الطرح القومي، تلك السيادة التي أخذ يتعلق البعض بها أكثر من تعلقه بسيادة الأمة وكرامتها.

ولا بد من الإشارة إلى أمرين رئيسين يستقطبان أشخاصاً وآراء ومنظمات وتنظيمات وأنظمة في هذا المجال ويشكلان معادلة جدلية صعبة في الظرف الراهن لا يمكن مجاوزة وجودها:

الأول: كلام عن "طوباوية" طرح هذا المشروع الآن بوصفه مشروعاً قابلاً للتحقيق والتنفيذ.

والثاني: قصور كل رؤية للتقدم العربي في أي مجال، لا تضع في اعتبارها حقيقة أن الوطن العربي وحدة مجال حيوي: اقتصادي وثقافي وحضاري تامة وقائمة بذاتها.

وتأسيساً على أن الحلم الوحدوي أساسٌ راسخ في الوجدان الجمعي العربي، واختيارٌ تاريخي للجماهير لم تستطع الأنظمة القطرية المجاهَرة بالتنكر له ولا رفضه، وتأسيساً أيضاً على أنه يتمتع بمرتسمات واقعية تَعِدُ بتحقيق الكثير مما تطمح الأمة العربية إلى تحقيقه؛ فإنه سيبقى على رأس الثوابت القومية، ومركز إستراتيجيات التفكير والتنظير وبعض التدبير لشخصيات فكرية وسياسية وتيارات ثقافية، ولمنظمات شعبية ونقابات مهنية وتنظيمات حزبية وقومية أكثر، تعمل على تحسين الأداء في مجالات الحياة كلها.

ومما يلحق الضرر بالعمل الوحدوي أن مشاريع الوحدة تكاد تكون قسرية لأنها تقدم وفق نماذج منها: القول بتحقيق الوحدة العربية على النمط الذي يقدمه النظام أو الحزب، أي نظام وأي حزب وحدوي في الوطن العربي، حصراً وحتماً، وحسب الصيغة التي يختارها والطريقة أو الآلية التي يفرضها لتحقيق ذلك. ويتضمن هذا الطرح، منطقياً وفعلياً، نفياً للآخر الشريك في صنع الوحدة، وإلغاءً له ولدوره في البحث عن الصيغة الوحدوية الملائمة والمساهمة في صنعها والدخول الطوعي الإرادي الواعي فيها.

إن الصيغة الإلحاقية صيغة استفزازية وقمعية والغائية على نحو ما، وهي صيغة تنال من الكرامة وتؤسس لنقض البناء الوحدوي في نفوس "الملحقين أو الملتحقين به"، لأنها لا تأخذ الجانب النفسي والاجتماعي والواقعي وحتى التاريخي عند العربي بالاعتبار. ويدخل في هذه الصيغ:

1-الدعوة إلى "فرض الوحدة" بالقوة وإباحة أسلوب الضم.

2-العمل على تعميم "الأنموذج" الوحدوي المختار قطرياً- حزبياً أو رسمياً- على الأقطار الأخرى، بأساليب النضال المختلفة، وصولاً إلى أنظمة قطرية تقبل مشروعاً واحداً مختاراً للوحدة وتطبقه.

3-القول بتبني أسلوب الفرز الاجتماعي الذي كان في يوم من الأيام، على أساس "طبقي"، و إشاعته، والقول بالصراع الطبقي الذي عوق الوحدة والتقدم وكل أشكال التضامن العربي وأثار  زوابع الاتهامات بين المدعوين لصنع المشروع الواحد، وأجّل مشروع التحرير، لأن الذين اختاروا نهج الصراع الداخلي أو أوحوا باختياره وبتقديمه على كل ما سواه، أرادوا عملياً، أن يلغوا مشروع الوحدة والخطو في طريقه، أن نقتتل داخليا إلى ما لا نهاية، حيث نكون فعلياً مقاتلين بالوكالة عند القوى الكبرى والمتحاربين الكبار.

إن الوقائع تشير إلى أن المصلحة القطرية نمت بنمو الحكومات العربية المؤسسة على أرضية المخططات والمشاريع والتقسيمات السياسية التي وضعها الاستعمار ورسخها ودعم كل من يرسّخها ويدافع عنها ويرفعها فوق القومي والمصالح العربية العليا. وقد تجذَّرَت تلك السياسات والتقسيمات وأصبحت تتحكم بالمواقف وتمليها، وتساهم في رسم السياسة العربية فتعدّلها أو تعطّلها. ومن الواضح أن صراعاً بين "القومي" في الوجدان الجمعي و"القطري" في الميدان العملي، هو صراع محسوم لحساب المصلحة القطرية الآن وليس لحساب المصلحة القومية العليا، كما أشارت وتشير الوقائع باستمرار، وأنه لا يحسم لصالح العاطفة والمبدئية القومية في معظم القضايا والمواقف، إن لم نقل فيها كلها، ومن جانب جل الأقطار العربية إن لم نقل منها كلها؛ بل يحسم لصالح النزوع الضيق، سواء أكان ذلك النزوع قطرياً أم عشائرياً أم فئوياً أم حزبياً أم طائفياً. ويمكن أن نعزو، بشيء من اليقين، تراجعات العمل العربي المشترك، وفشل المشروعات الوحدوية، وتجميد صيغ اتحادية عديدة أو موتها، وكذلك البطء القتّال في مجالات عمل قومي هامة ورئيسة في الساحة العربية مثل: السوق العربية المشتركة، الدفاع العربي المشترك.. وغير ذلك من الأساسيات البنيوية والحيوية في "صرح" العمل القومي، يمكن أن نعزو ذلك:

-إما إلى تضخم في الهدف القومي مبني على توهم في مدى انتشار ذلك الحس والالتزام به سياسياً وعملياً.

- وإما إلى تضخم في المصلحة القطرية، وخروجها على مبدئية أو على "مقولة" الجزء من أجل الكل، أو رفضها لتلك المقولة ضمنياً ما دامت "تستطيع" – ولو مجازاً وبالاعتماد على "الآخرين" ـ أن تكون "كلاً" أو خارج نطاق الحاجة إلى هذا النوع من أنواع "الكل".

- وإما إلى عدم مراعاة المصالح والتباينات والخصوصيات القطرية ونسيجها الاجتماعي، والمعطى التاريخي المتمايز جزئياً الذي لها إلى الحد الذي يحفز أقطاراً عربية على التمسك بمصالحها وخصوصياتها ويدفعها إلى أن تُماهيَ بين وجودها واستقلالها من جهة، وبين تلك المصالح والخصوصيات من جهة أخرى، مما أدى إلى غياب الإرادة السياسية الوحدوية.

إن من الخطأ إهمال المصالح "القطرية" في أي بناء تضامني أو اتحادي أو تعاقدي أو "وحدوي" عربي، لأن ذلك يضعف أرضية العمل العربي في ظروف نشأته وتكوينه، ومن الخطأ التوجه إلى مراعاة المصلحة القطرية وحدها عند التعامل مع أمة تحتاج لكل طاقة أقطارها، ويحتاج كل قطر من تلك الأقطار إلى طاقة الآخر ليقوم بينها تكامل يؤدي إلى الازدهار والقوة والمنعة للأمة كلها؟!

وما من شك في أن تدقيقاً وتمحيصاً وتبصّراً بخصوصيات كل قطر عربي وأخذ مصالحه بالاعتبار، من الأمور المهمة عند البحث في أي مشروع أو عمل بين قطرين أو أكثر يحمل الطابع التضامني أو التعاوني أو الاتحادي. وما من شك أيضاً في أن إقامة الصلات على أرضية من المصالح هو من أهم العوامل في استمرار تلك الصلات وتعميمها وتعميقها والحيلولة دون انفصامها أو ضعفها، ولكن لا ينبغي أن يكون العامل الوحيد ولا الحاكم المتحكم في العوامل الأخرى، ولا الأفق الأعلى للمنظور القومي وضروراته.

 

إذا أردنا لبعض أهدافنا الكبيرة والنبيلة أن تبقى وأن تعيش فإن علينا أن نلتمس الإقناع بتلك الأهداف والتدليل على صلاحها وإمكانية تحقيقها بالتركيز على أمرين:

* إظهار المصلحة القطرية والقومية في تلك الأهداف، والتركيز على الرؤية القومية السليمة الشاملة في برمجة تأخذ المستقبل البعيد والهوية والخصوصية العربيتين والبعدين الروحي والثقافي بالاعتبار.

* التفكير، ولو مرحلياً، بصيغ عمل عربي سياسي ـ ثقافي ـ اقتصادي عام تقربنا من الإطار الاتحادي فالوحدوي تدريجياً.

وبناء على كل ما تقدم فإن التفكير في اختيارات عربية عملية قابلة للتحقق والاستمرار، تأخذ من القطرية شيئاً لصالح القومية من دون أن تلغي "الخصوصية" القطرية أو تستفزّها، وتعزز كيان الوحدة بتعزيز مكانة الجزء في الكل، وتفعيل دوره وتوظيف إمكاناته والاستفادة من كل طاقاته ومقومات القوة لديه.. أقول إن التفكير في اختيارات موضوعية ـ مرحلية قادرة على أن يضعنا على طريق تجسيد الأمل والحلم الوحدويين الكبيرين اللذين سيبقيان الهدف الاستراتيجي الأعلى الرئيس والبعيد نسبياً، لأمتنا العربية ونضالها والمؤمنين بمستقبلها وبأن الوحدة هي الأرضية الوحيدة الصالحة لولادة ذلك الحلم واحتضانه؛ هو ما أرى أنه يستحق الاهتمام به والتركيز عليه، وتمحور الجهد حوله، ووضع البرامج لإنجازه .

إن صيغة تقربنا واقعياً وعملياً من الوحدة الاندماجية التامة وتضعنا على طريقها، هي صيغة تحتاج على اكتشاف وتدقيق وبلورة ضمن منظور الممكن ومن منطلقه، مع مراعاة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية الراهنة، والتحديات القائمة، ومتطلبات مواجهة احتياجاتنا في هذا العصر، وأسئلة العصر ذاته وتحدياته العلمية والتقنية والاقتصادية والمعلوماتية وحتى الثقافية.

وأكاد ألمس في التوجه نحو صيغة "الولايات العربية المتحدة" في إطار دستوري عام، يراعي خصوصيات الأقطار العربية ويمنحها استقلالاً وسيادة في إطار الدستور والقوانين الخاصة بها، هو توجه مناسب نحو صيغة تلبي متطلبات النزوع القومي -الوحدوي في حدوده الدنيا وتحقق بعض مستلزماته وضروراته، وتتماشى مع الواقع القطري المتجذِّر الآن، بخصوصياته ومقوماته واعتباراته وقوامه الحالي، إلى أن يغير الله ما بنا بفضله ورحمته، ويقربنا من تمثُّل قوله: “ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا “ .

ولكن إلى أن نصل إلى أية صيغة من صيغ الاتحاد أو الوحدة ألا نحتاج إلى تفعيل التضامن العربي وإلى وجوده ولو في حدود دنيا؟! تبقى الثقافة في هذا المجال هي أهم مداخل الفعل المنقذ، وأبرز مسارات العمل العربي وضوحاً واقتداراً على:

ـ تكوين الأجيال والقادة المستقبليين.

ـ شحن الذاكرة والوجدان العربيين بما يجمع ويوحد ويقرب القلوب.

ـ مقاومة أشكال التخريب لما تبقى من قيم وعلاقات وصلات بين أبناء الأمة العربية ودولها.

على أن الثقافة ليست محصنة قومياً، وليست حرة في اختياراتها وسلوك مساراتها، فهي محكومة بامتلاك السياسة لكل الإمكانيات المادية والقرارات الحاسمة، و مأخوذة على نحو ما، بتأثير السياسات القطرية المتضخمة، بتحديد الأولويات والاختيارات والمسارات وفق منظور أضيق من المطلوب.. ولهذا أسبابه وأبوابه التي منها: ولاء المثقف للقطر وولاء المثقف القطري للنظام أو الحاكم، وتبعيته- إلا من حمى ربك ورحم- للخلافية السياسية العربية، خلافات الأنظمة والحكام، وزجه لنفسه أو إقحامه لها في سوق الكلام المفتوح الذي تشرف عليه أجهزة وأنظمة، وتقود إليه أطماع وأوضاع اقتصادية، وأشكال تكوين وتطلعات وانتحاءات مرَضية، مما صنعته وتصنعه أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وسياساتنا المعنية عناية خاصة بمفهوم "الحرية" والممارسة الديمقراطية على نحو لا يخلو من فقدان المواطن للأمن من جوع وخوف.. ويضاف إلى ذلك الاختراقات الخارجية للوسط الثقافي العربي بقوة وكثرة..!؟

لا نقول إن في الوحدة، بمجرد تحققها، بلسماً لكل أدواء الأمة، فهي ليست عصا سحرية من أي نوع.. وقد ترافقها مشكلات كبيرة وأزمات.. ولكنها المدخل الذي لا بد منه لأي مستقبل عربي واعد، في ظل التحديات المعرفية والعلمية والتقنية العصرية وبمواجهة التكتلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية الكبيرة ذات الطموحات والأطماع الكثيرة، ومن أجل تحقيق أية استقلالية ذات مرتسمات ومصداقية.