بقلم: رشاد أبو شاور
كلّما تفاقم حزني وغضبي من (الفصائل) وصراعاتها، لا أجد لي ملاذا سوى أهلنا الذين أدارت هذه (الفصائل) الظهر لهم، وإن واصلت تمجيد الجماهير، والتغنّي ببذلها، بل وبأنها أفضل من قادتها.. شوف التواضع اللفظي، وراقب تشبثهم بالكراسي التي تدّر عليهم أرباحا لا تُحصى!.
عرفت مبكّرا أن الأغاني ( للشهداء)، والتغنّي بالشهادة، لم تكن سوى دعاية للفصيل، أو المنظمة، التي كان الراحل( البطل) قد انضوى في صفوفها، فأعدته للشهادة، ورحل مودعا بعبارات تبدأ بـ( العهد).. لشهيدنا البطل، وتنتهي بـ( الوفاء).. للشهداء أن نمضي على طريقهم حتى تحرير فلسطين، كّل فلسطين، مع ملاحظة أن ( كل فلسطين) بدأت تغيب مع اكتشاف ( القيادات) لصعوبة المشوار، وهو ما دفعها للتساوق مع البرنامج الوطني ( المرحلي)!
مثل غيري، تكشّف لي أن عبارات العهد والوفاء، وبيوت العزاء ليست سوى استعراضات ومظاهر ودعاية.
كثير من الشهداء لا يحضر القادة إلى بيوت العزاء بهم، لأنهم درجة ثانية، وثالثة، وربمّا أقل، فالشهداء درجات ومقامات، وقد يشاد بمن قضى في حادث سير، ويتّم تجاهل من نزف دمه في الميدان!
خطباء الفصائل في الاحتفالات ينفخون صدورهم، ويتغنّون بعدد ( شهدائهم)، وبهذا يبررون استمراريتهم، وبقاءهم، بل وبه يطالبون بحصص تناسب هذه التضحيات: حصّة ماليّة، وظائف في السفارات، ومدراء في دوائر المنظمة، والسلطة بعد نشوئها، حتى وهذه الفصائل تردد يوميّا أنها لا توافق على ( أوسلو)، بل وترفضه بشدّة، وإن كانت بعض هذه القيادات ( العائدة) إلى ( الوطن) تغرق في بركات ونعم دعم المنظمات غير الحكوميّة، التي يتصدّر فضح دورها ودور المتعاونين معها صديقنا الدكتور عادل سماره صاحب كتابي: مثقفون في خدمة الآخر، و..منظمات غير حكومية أم قواعد للآخرNGOS، والكثير من الأبحاث والدراسات التي عرّت الساقطين يمينيين، ويساريين سابقين، ومثقفين يلعبون دور( العيون) والسماسرة على شعبهم!.
ولأن شعبنا، ورغم الحرب بكّافة أشكالها وضراوتها عليه، داخل الوطن وفي الشتات، يتمتع بروح مبدعة عصيّة على التدمير، فإنه يجترح أساليب ووسائل تمكنه من تجاوز المعوقات، والمكائد، وعمليات التخريب والتيئيس، وهو دائما من يعيد إلى نفوسنا الثقة، ويدفع بنا لمواصلة السير والتحمّل، ويقينا من الانكسار والقنوط والاستنكاف عن العمل والسقوط في حالة العجز الذي يبدأ من الرأس وينتهي في الروح.
قبل أيّام كنت في دمشق، تلبية لدعوة من وزارة الثقافة السوريّة، للمشاركة في ملتقى الرواية الفلسطينيّة، وحتى تكون زيارتي لدمشق مجدية، فقد بكّرت يومين قضيتهما في مخيّم ( اليرموك) مع الأصدقاء القدامى، وهناك دعاني صديقي الكاتب محمد عبد الله لمرافقته لحضور حدث سار يبرهن على أن شعبنا ينجب دائما من يتجاوزون الظروف الصعبة والمعوقات، ويقومون بواجبهم ملبين نداء ضميرهم الوطني.
هنا لا بدّ من أن أشير إلى أمر محزن، من يتسببون به لا يخجلون، ولا يأبهون بعذابات من بفضل استشهادهم وتضحياتهم ودموع أمهاتهم وآبائهم وأراملهم وأطفالهم، تبوأوا هذه المناصب الرفيعة، وبلغوا هذا الثراء المسروق من دم وزفرات من رحلوا، ومن معاناة من خلفوهم وراءهم من الأحياء المنسيين!
هل يتصوّر إنسان أن المساعدة التي تقدّم لكثير من أسر الشهداء لا تزيد عن 500 ليرة سوريّة، أي 10 دولارات لا غير؟!
وأن والدي الشهيد لا يملكان ثمن الدواء لتهدئة نوبات الربو، أو لقطرة العين، أو ثمنا لثوب يستر جسد أم الشهيد التي حملته وأنجبته ليعينها في كبرها هي ووالده؟ وأن ابنة الشهيد تذوب خجلاً قبل أن تتحرك قدماها لتحملاها إلى الجامعة لأن ثوبها عتيق تنسّل خيوطه من بعضها، وأنها لا تملك أن تشتري فستانا من البالة، لذا تقبع في ( الغرفة) الوحيدة مع الجد والجدة والأم الأرملة الكسيرة، والأشقاء الصغار الذين ما عادوا يسألون عن والدهم الشهيد بعد أن عرفوا بأنه لن يعود، وأنه لا يملك أن يقدّم لهم سوى الحزن و..المباهاة أحيانا بأب ضحّى لفلسطين!
أنا أعرف أن هناك قلّة تقيم في (فيلل) وقصور في أحياء لم يسمع بها أب الشهيد، والأم التي لم يبق من نور عينيها غير بصيص من ضوء، والزوجة التي صارت تبيع بعض الخضار في السوق، والأطفال الذين يحملون بعض علب السكائر ليجنوا منها ملاليم قليلة، في حين ينعم ( رأسماليو) الثورة في أحياء عمّان، ودمشق، والقاهرة، و..حتى في ( مدريد) وغيرها، بحياة الرغد!
كيف أثرى من جاء من المخيّم، وكانت أسرته كأسرتنا تعيش على الحصيرة، وتأكل ما لا يختلف عن طعامنا، ووالده يشتغل في بيّارات ( أريحا) أو ( غزّة) أو ( صور) و(صيدا)، أو موظفا صغيرا في دول الخليج، بينما رحل رفاق طفولته وخلّفوا وراءهم أسرا جائعة مهانة مذلّة، أو زملاء في الأسر، أو يشتغلون بعد أن رمجتهم ( الفصائل) وعوضتهم عن عمرهم الثوري ببعض القروش التي أنفقوها في أقل من سنة؟!
كيف صار هذا مليونيرا وهو جاهل وتافه، بينما ضاع ذاك وهو جامعي مثقّف؟!
كيف يمتلك هذا الملايين ويتنقل بالطائرة الخاصة، بينما يضيع هذا، ولا تعود فلسطين، ولا تدوم الثورة؟
كيف انتقل هذا إلى ( عبدون) في عمّان، وانتقل ذاك إلى مقبرة الشهداء في بيروت، أو في مخيم اليرموك؟!
هل حدث هذا في فيتنام؟ لا، لا كبيرة..فقط هنا يحدث عندنا، وما زال اللصوص وهم أخطر من أنفلونزا الخنازير على شعبنا، يواصلون نهبهم وثراءهم، ولا من يعاقبهم!
ثمّ أعود إلى ذلك اللقاء في مخيّم اليرموك. هناك التقيت بمن جعلوني أزداد ثقةً بأن شعبنا يتجاوز هذا الحال المريض، وأن لمثل هذا التحرّك ما بعده.
مناضلون بسطاء طيبون شرفاء، أطباء ومهندسون مقاولو بناء- لا ثورة وشهداء!- فجعتهم ظروف عيش أسر الشهداء، فقرروا التحرّك لتأسيس ( جمعية الوفاء للشهداء).
زاروا عديد الأسر، وكما قال أحدهم بصوت يرتجف ألما: أهلنا يعيشون حياة أبشع من حياة جوعى أفريقيا. أهلنا فضيحة لمن سرقوا الدم والمال وفسدوا وأفسدوا...
الجمعيّة ستكون مرخصة من وزارة الشؤون الاجتماعيّة السوريّة. ومن تحرّكوا اكتشفوا وجود 1000 طبيب في مخيّم اليرموك، و1500 مهندس، ومئات المتعهدين.. وهؤلاء قادرون على جمع مبالغ شهرية من بعضهم، وهم التزموا فورا، وبهذه المبالغ، سيبدأون في تغيير حياة الكثير من أسر الشهداء المحتاجة، وسيعيدون الثقة للآباء والأمهات والزوجات والأبناء والبنات، بشعبهم، بعد أن فقدوها بمنظمات أدارت الظهر، وتخلّت عن واجبها، وبات قادتها أمراء النفط الفلسطيني الأحمر!
انفضّ اللقاء في وقت متأخّر من الليل، وغادرت هذه النخبة المتآخية التي تجمع الطبيب بالمهندس بالمناضل القديم بالمتعهد، وقد بدأت في قطع شوط على طريق تحقيق الهدف النبيل...
هذا اللقاء ملأ نفسي ثقة بأن شعبنا بدأ يبادر متجاوزا حالة الانقسام والعجز.
سترت الظلمة دموعي التي لم أسأل نفسي عن سببها، وقد وطنت النفس أن أكتب محييا هؤلاء المبادرين الشرفاء، داعيا الأثرياء الفلسطينيين لتقديم العون للجمعيّة التي ستوسّع عملها ليصل إلى كل أسرة شهيد محتاجة، والتي أوّل حاجاتها أن لا تشعر أنها نُسيت، وأن دم الشهيد ضاع هباءً، وأن أسرته مقطوعة من شجرة، فها هي شجرة فلسطين تخضّر، ونحن ننتظر ثمارها، وهي ستينع بكّد من يعطون، لا من يسرقون ويتاجرون ويثرون من دم الشهيد...