بقلم: د. بشير موسى نافع
ثمة شعور سائد بأن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة بالغة الاضطراب وفقدان البوصلة، الانقسام الداخلي بين الضفة والقطاع، أو بين سلطة رام الله وحكومة غزة، امتد لزمن أطول مما كان يتوقع له. مسار التفاوض حول ما بات يعرف بالحل النهائي متوقف كلية؛ بل إن أحداً لا يعرف على وجه اليقين ما هو الحل النهائي الذي ينبغي التفاوض عليه من وجهة نظر الأمريكيين والإسرائيليين.
الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست في مزاج تفاوضي، وقد صرح رئيسها في أكثر من مناسبة أن قيام دول فلسطينية ليس على جدول أعماله التفاوضية. ولكن هناك ما هو أسوأ؛ فبالنظر إلى حجم القمع الذي تمارسه سلطة رام الله ضد كل فصائل المقاومة وعناصرها المسلحة، وإلى الإشراف واسع النطاق الذي تتمتع به الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية على أجهزة السلطة الأمنية، صار واضحاً أن السلطة قد أوفت بالتزاماتها تجاه خارطة الطريق. الحكومة الإسرائيلية، من ناحيتها، لم توف بالإلتزامات التي تفرضها خارطة الطريق، سيما تلك المتعلقة بإيقاف الاستيطان. هذه، كما هو معروف، باتت عقدة العقد في استئناف التفاوض، لسبب يتعلق بحقائق الوضع على الأرض.
في أساسه، وقبل أن تبدأ سردياته المختلفة في التبلور، الصراع على فلسطين هو صراع على الأرض. ولأن مفاوضي أوسلو من الجانب الفلسطيني، وفي مقدمتهم عضوا لجنة فتح المركزية آنذاك، محمود عباس وأحمد قريع، لم يصرا على إدراج مسألة الاستيطان في نص الاتفاق، فقد استمر التوسع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية منذ منتصف التسعينات، بل وتصاعدت وتيرته خلال سنوات ما بعد أوسلو تصاعداً غير مسبوق. يقوم التصور الفلسطيني للتسوية النهائية على حل الدولتين؛ ولكن الاستيطان في الضفة الغربية وصل مستوى لم يعد يسمح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة؛ وهذا ربما ما دفع الرئيس عباس إلى التصميم، هذه المرة، على إيقاف الاستيطان قبل بدء التفاوض، استجابة على الأقل لشروط خارطة الطريق. وقد وجد الموقف الفلسطيني تأييداً من إدارة أوباما، التي أبدت في شهورها الأولى التزاماً لا يخفى بدفع عجلة التفاوض والتسوية. أوفد أوباما جورج ميتشل، الذي يعتبر من خبراء الملف الفلسطيني، مبعوثاً خاصاً للعمل على إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وسرعان ما أظهر ميتشل عزماً على الاستجابة للمطالب الفلسطينية الأولية حول إيقاف الاستيطان.
بيد أن لا الإدارة الأمريكية ولا النظام العربي في موقع يسمح بممارسة ضغط كاف على الحكومة الإسرائيلية، أو أنهما افتقدا منذ زمن الصلابة الكافية لممارسة هذا الضغط. الأمريكيون في وضع لا يحسدون عليه في أفغانستان، بينما لم يزل الوضع العراقي مفتوحاً على مصراعيه. ولا يبدو أن ملف البرنامج النووي الإيراني في طريقه إلى الحل، على الأقل في المدى المنظور. وفي ظل أزمة اقتصادية ممتدة، تخوض إدارة أوباما معركة طاحنة من أجل تمرير مشروع الإصلاح الصحي، الذي أصبح عنوان نجاح أو إخفاق الإدارة.
في مثل هذه الظروف، وبالنظر إلى الشكوك الثقيلة التي أحاطت بوصول أوباما إلى البيت الأبيض، لم يكن ممكناً لا لميتشل ولا لرئيسه خوض مواجهة حاسمة مع نتنياهو وحكومته. أما النظام العربي الرسمي فيعاني من الانقسام على الذات، من جهة، ومن تراجع في دور دوله الرئيسية، من جهة أخرى. مصر، التي يفترض أن تكون أكثر الدول العربية المعنية بتطورات المسألة الفلسطينية، دخلت بالفعل أجواء توريث الحكم، ولا تريد تبني سياسة قد تؤثر على التأييد الأمريكي والإقليمي للرئيس القادم. ولم يكن مدهشاً، بالتالي، أن توافق القاهرة، بعد لقاء وحيد وسريع بين الرئيس مبارك ووزيرة الخارجية الأمريكية، على التصور الأمريكي الجديد لاستئناف المفاوضات، الذي أعفى حكومة نتنياهو من الإيقاف الكلي والقاطع للاستيطان.
بعد أن عقد الرئيس عباس آمالاً كبرى على إدارة أوباما، جاءت لحظة خيبة الامل والشعور المتعاظم باليأس والقنوط. راهن عباس منذ مرحلة مبكرة في تاريخه الوطني على المسار التفاوضي، وعلى إمكانية التوصل إلى تسوية للصراع على فلسطين، وإن كانت تسوية متواضعة ولا تلبي الطموحات الوطنية الفلسطينية.
واليوم، يصل الرجل الذي قاد مفاوضات أوسلو، وخاصم عرفات، قائده ورئيسه ورفيقه طول عقود، من أجل الحفاظ على مسار التسوية، وأعلن حرباً شعواء على كل من خالفه من القوى الوطنية والإسلامية، للتوكيد على التزامات سلطة الحكم الذاتي تجاه عملية السلام، يصل إلى نهاية الطريق.
لسنوات طويلة مرت منذ فشلت مباحثات كامب ديفيد، كان الملك يقف عارياً أمام شعبه بدون أن يدرك حقيقة عريه. اليوم يقف الملك عارياً وهو على يقين من عريه. وهذا، ربما، ما أدى إلى إعلان 'عدم الرغبة' في الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة لسلطة الحكم الذاتي. إن من الصعب، بالطبع، أخذ إعلان الرئيس مأخذ الجد؛ فلا تاريخ الرجل، ولا اللغة التي استخدمها، توحي بأنه عازم فعلاً على التخلي عن منصبه الرئاسي. الأرجح، أن عباس اعتقد أن مثل هذا الإعلان سيشكل ضغطاً على الأمريكيين والإسرائيليين لتقديم بعض التنازلات الإضافية التي قد تساعده على تحسين وضعه الشعبي، وعلى الحلفاء العرب، ليخرجوا من مناخ عدم الاكتراث واللامبالاة، وممارسة ضغط أعلى على الحليف الأمريكي.
بيد أن ذلك لا يعني أن الأمور لن تتداعى نحو دفع الرئيس الفلسطيني إلى التنحي فعلاً؛ بمعنى أن تنقلب المناورة إلى موقف جاد. ماذا لو أن واشنطن أبلغت عباس بأنها قامت بكل ما تستطيع أن تقوم به؛ وأن نتنياهو رفض تقديم أية تنازلات جديدة في مجال الاستيطان، وظل على إصراره بأن المفاوضات لا تتعلق بقيام دولة فلسطينية، بل برفع مستوى الحكم الذاتي وحسب؛ وأن القاهرة والرياض وعمان أعلنت أن ليس من حيلة تبقت في اليد؟ رد الفعل المنطقي، والأشرف بالتأكيد، هو تنحي عباس، ليس عن الرئاسة وحسب، بل وعن كل مناصبه القيادية الأخرى، والذهاب إلى التقاعد. أما إن قرر الرئيس العودة عن إعلانه، استجابة لضغوط ما، واختار التفاوض في ظل الموقف الأمريكي الإسرائيلي الحالي، فسيعود رئيساً بلا رصيد، رئيسا يفتقد احترام الأغلبية العظمى من شعبه.
والمسألة هنا لا تتعلق بما يحمله قرار العودة من تذكير بتقاليد السياسة العربية المعهود خلال نصف القرن الأخير، ولكن بما يحمله من دلالات على المسار التفاوضي وعلى مصير القضية الوطنية. عباس لا يستطيع أن يعود رئيساً مقاوماً للاحتلال، فهو لم يصنع من مادة المقاومين؛ ولا يستطيع أن يعود رئيساً بلا مفاوضات، فموقعه ودوره في الحياة السياسية الفلسطينية ارتبطا نهائياً، وفي صورة قطعية، بالمفاوضات وعملية السلام. إن عاد إلى الرئاسة، بالتالي، فسيعود إلى القبول بالتصور الأمريكي الإسرائيلي لاستئناف التفاوض، ليس فقط فيما يتعلق باستمرار التوسع الأستيطاني، ولكن أيضاً القبول بأن المفاوضات لا تدور حول دولة فلسطينية، بل مجرد حكم ذاتي موسع قليلاً.
هذا ما يجعل الجدل الذي أثير في الساحة الفلسطينية حول إعلان 'عدم الرغبة' غير ذي معنى. دار الجدل الفلسطيني حول ما إن كان عباس جاداً أو مناوراً؛ حول ما إن كان هناك من مرشح بديل، وما إن كان الأمريكيون لم يعد لديهم من مانع من ذهاب الشخصية الفلسطينية الأكثر التزاماً بمسار التسوية السلمية، وإيصال شخصية مثل سلام فياض لرئاسة سلطة الحكم الذاتي، ودلالات هذا الموقف؛ جدل آخر شهدته أوساط حركة فتح، وما تبقى من تنظيمات منظمة التحرير، حول ما إن كان يمكن القبول برئيس من خارج صفوف فتح وتنظيمات المنظمة؛ وجدل حول ما إن كان إعلان عباس يعني في النهاية تأجيل غير محدد للانتخابات الرئاسية والتشريعية التي كان عباس أعلن عزمه على عقدها في يناير/ كانون ثاني المقبل، سيما أن مشروع المصالحة الوطنية عاد إلى التعثر. الحقيقة أن هذا الجدل وما يتعلق به لم يعد ذا صلة بالقضية الوطنية. تماماً كما أن ورقة المصالحة المصرية التي اشتعل حولها الخلاف من جديد خلال الأسابيع القليلة الماضية هي ورقة خارج السياق تماماً. ففي حين أن المصالحة الوطنية ضرورة لا يمكن أن ينكرها أحد، فإن الورقة ليست أكثر من إطار تقني بحت لكيف تعقد الانتخابات التشريعة القادمة، لكيف تقاد منظمة التحرير خلال الفترة الانتقالية السابقة على خطوة إعادة البناء والإصلاح، وكيف يمكن أن تعود السلطة وأجهزتها إلى قطاع غزة، وقضايا أخرى مشابهة.
ما يتطلبه الوضع الفلسطيني، وما تتطلبه القضية الوطنية، ليس الغرق في التقنيات ومصيدة التفاصيل، لا تلك المتعلقة بمنصب رئاسة السلطة ولا تلك المتعلقة بالمصالحة. ما يتطلبه الوضع الفلسطيني هو تقدير جديد للموقف، يدرك حقائق الواقع على الأرض وحقائق موازين القوة؛ نمط جديد للتفكير السياسي، يتحرر من وطأة عقل السبعينات، الذي ما يزال يثقل استراتيجية العمل الوطني. ما يتطلبه الوضع الفلسطيني هو إعادة نظر جذرية في وهم حل الدولتين، الذي أوصل القضية الوطنية لا إلى دولتين وإلى حتى إلى حكم ذاتي على الأرض التي احتلت منذ 1967، بعد أن ابتعلت الأرض متراً متراً، وما تزال، والقيادات الفلسطينية الوطنية تنظر.