بقلم: بلال الحسن
انهيار منهج التسوية. انهيار السلطة الفلسطينية. ماذا يعني القول بأن إعلان الرئيس محمود عباس عن عدم رغبته في تجديد ترشيحه للرئاسة، هو تعبير عن انهيار منهج التسوية، وهو مقدمة لانهيار السلطة الوطنية الفلسطينية؟
والجواب بإيجاز: إن هذا يعني إعلان فشل المخطط الغربي، والمخطط الأميركي بالذات، لرسم صورة ما سموه «الشرق الأوسط الجديد».
لقد رسمت صورة الشرق الأوسط الجديد منذ العام 1983، في الأروقة البحثية لجامعة هارفرد. تطوع الباحثون، وفيهم عرب وفلسطينيون، برسم الصورة وتفاصيلها وتقديمها جاهزة للسياسيين ليعملوا بمقتضاها. وكانت القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، نقطة الانطلاق في رسم الصورة وتفاصيلها. كانت اللحظة الحاسمة التي حدث فيها هذا كله، لحظة الإدراك الغربي بأن الاتحاد السوفياتي ماض نحو الانهيار، وأن الولايات المتحدة الأميركية ماضية نحو تزعم العالم، عالم القطب الواحد.
تفاصيل الصورة كانت تريد أن ترى مشروعا جديدا للمنطقة التي يسمونها الشرق الأوسط تكون إسرائيل نقطة الدائرة فيه. كانت تريد أن ترى سلاما فلسطينيا ـ إسرائيليا، وسلاما عربيا ـ إسرائيليا، وقبولا عربيا لإسرائيل كجزء قيادي ومركزي في منظومة دول الشرق الأوسط. ثم بناء اتحاد ثلاثي يضم إسرائيل والكيان الفلسطيني والأردن، ويكون هذا الاتحاد بقيادة إسرائيل، صلة الوصل مع بقية الدول العربية، سياسيا واقتصاديا، أولا مع دول المشرق، وثانيا مع دول الخليج العربي، وأخيرا مع دول شمال أفريقيا من السودان إلى موريتانيا.
وحين انهار الاتحاد السوفياتي فعليا عام 1989، وحين وقعت الحرب ضد العراق عام 1991، انفتحت الطريق أمام سياسة القطب الأميركي الواحد الذي يسيطر على العالم. وبدأ هذا القطب في رسم الخطط التنفيذية لهذه السيطرة، حيث للمنطقة العربية دور مهم وأساسي. وكانت البداية طرح فكرة مؤتمر مدريد، والمفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في واشنطن (1991 ـ 1993)، ومفاوضات اتفاق أوسلو السرية (1993)، الذي كرت بعده سلسلة المفاوضات والاتفاقات.
وتحمس أثناء ذلك الزعيم الإسرائيلي شمعون بيريز( وزير الخارجية ورئيس الوزراء آنذاك)، وأصدر كتابا أطلق عليه اسم الشرق الأوسط الجديد، صور فيه هذا المشروع حين يتم استكماله على أنه سيكون مشروعا شبيها بجنة عدن، فالجبال المشجرة والسهول الخضراء، لن تكون حكرا على جبال لبنان أو على سهول سوريا، ولكنها ستمتد إلى صحراء النقب، وإلى وادي عربة وصولا إلى العقبة. وسيتم فتح الطرق والمطارات، وسيتعالى بناء المشاريع العربية ـ الإسرائيلية المشتركة. وحتى التمويل لن يكون عقبة، فالنفط العربي جاهز لتقديم ما يلزم، وهو اقترح أخذ دولار واحد على كل برميل نفط، حتى يتم تأمين كل ما يلزم.
وحين دخل الموضوع إلى حيز التنفيذ، بدأت ألوان هذه اللوحة الزاهية التي تم رسمها بعناية، بالتلاشي شيئا فشيئا، وذلك حين انكشف للجميع أن مشروع السلام الإسرائيلي يعني: رفض إنشاء دولة فلسطينية إلا إذا كانت تحت الهيمنة الإسرائيلية. رفض الانسحاب الكامل من الأرض التي احتلت عام 1967. رفض إلغاء المستوطنات. رفض الانسحاب من القدس ومن منطقة القدس الكبرى. رفض الانسحاب من منطقة الأغوار ومن ساحل البحر الميت ومن المنطقة المحايدة التي قامت بين إسرائيل ودولة الأردن عقب توقيع اتفاقيات الهدنة في مطلع الخمسينات. وحسب هذا المشروع الإسرائيلي للسلام الذي رفضه الفلسطينيون، تحطم أيضا حلم إنشاء الاتحاد الثلاثي. وتلاشت بعدة أحلام التطبيع المتوالي مع الدول العربية، ثم تحطم في النهاية حلم سيطرة إسرائيل على الاقتصاد العربي، أو حلم قيادة هذا الاقتصاد كما كانوا يقولون.
وما يحدث الآن، وعلى ضوء ما يعلنه نتنياهو، وما يرفضه حتى محمود عباس المؤمن إلى أقصى الحدود بمنهج المفاوضات، وما يتراجع عنه الرئيس الأميركي باراك أوباما (وقف الاستيطان كليا) كشرط لمواصلة المفاوضات، لا يشكل إلا الرتوش النهائية على لوحة الفشل التي تم رسمها بعناية ودقة خلال السنوات العشرين الماضية، السنوات التي تسجل من جانب آخر، فشل المشروع الأميركي، مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أرادوا له أن يثبت طويلا السيطرة الغربية على المنطقة العربية وثرواتها النفطية، وأن يثبت طويلا دورا قياديا لإسرائيل في المنطقة.
وتبين من خلال عملية الفشل هذه، أن إسرائيل أيضا، الحليف الاستراتيجي للغرب وللولايات المتحدة الأميركية، ليست معنية بنجاح هذا المشروع الكبير إذا كان الأمر يقتضي منها الانسحاب من الضفة الغربية كليا، أو الانسحاب من القدس، أو إلغاء المستوطنات، أو.. أو، وبدأ الغرب (وأميركا) يكتشف داخل إسرائيل، تيارا سياسيا يرى في أهدافه الذاتية، أمرا أهم بكثير من الأهداف الاستراتيجية للغرب وأميركا.
وإذا كانت الدول الكبرى تستطيع أن تتحمل انهيار مخطط من مخططاتها في جهة دولية ما، فإن الدول الصغيرة المعنية بمشكلة تخصها، على غرار الدول العربية مع إسرائيل، لا تستطيع أن تتقبل عدم تحقق أهدافها الخاصة بها، بهدوء وبرود ولامبالاة. وتزداد أزمتها حدة لأنها تدرك أن سعي الغرب وأميركا للربط بين مخططها الوهمي الكبير (مشروع الشرق الأوسط) وبين أزمات المنطقة (الصراع العربي ـ الإسرائيلي)، كان سببا أساسيا من أسباب الفشل، ومن أسباب تأزم الوضع في المنطقة. ذلك أن الغرب وضع لنفسه مهمة متناقضة أو مستحيلة، فهو من جهة يريد تقوية إسرائيل حتى تصبح قائدة للمنطقة اقتصاديا، وبالتالي سياسيا، وهو يريد من جهة أخرى تطويعها لكي تقبل بتسوية سياسية، ترى إسرائيل من موقعها، أنها ستكون تسوية لصالح الفلسطينيين والعرب. وحين جاءت صيحة أوباما الأخيرة لتعديل الوضع، تبين أنها صيحة في واد، ولم تلبث أن توقفت، ثم تراجعت، ثم تلاشت، حتى أن محمود عباس عبر عن غضبه بالإعلان عن عدم رغبته بتجديد ترشيح نفسه للرئاسة.
يستدعي هذا الفشل الغربي ـ الأميركي المدوي، وقفة استراتيجية في مجالين:
المجال الفلسطيني: حيث يضع هذا الفشل الفلسطينيين جميعا أمام سؤال المستقبل: ماذا بعد؟ وما العمل؟ ما العمل بعد هذا الفشل لمنهج التسوية؟ يمكن اختصار الموضوع بالقول: سقط منهج التسوية ويجب أن نعود إلى منهج المقاومة. ومع أننا لا نعارض هذه الفكرة، بل نحبذها، إلا أننا نعتقد أن الأمور السياسية الاستراتيجية لا تحل بالكلمات، وأنها تحتاج إلى مؤسسات تحمل هم الكلمات. وقد تعودنا فلسطينيا أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تحمل الهم وتصونه وتعالجه. ولكن منظمة التحرير أصبحت تحت قيادة السلطة الفلسطينية، جزءا أساسيا من المشكلة، ولذلك فإن الوضع يتطلب مهمة مزدوجة:
أولا: رسم منهج جديد. خطة استراتيجية فلسطينية جديدة، تواجه إسرائيل، وتواجه الاحتلال الإسرائيلي، وتمارس حق الشعب الطبيعي في مقاومة الاحتلال.
ثانيا: إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بمنهج جديد، وخطة عمل جديدة، بعد أن تم إفراغ المنظمة من داخلها، على يد القائمين عليها.
وتكتمل بهذين البندين خطة بلورة البديل الفلسطيني، بعد أن سقط البديل القائم المعتمد.
أما مجال العمل الثاني، فهو المجال العربي، فهذا المجال مطالب هو أيضا، بأن يبلور رده على الفشل السياسي المهيمن على المنطقة، بعد أن راهن طويلا على السلام كخيار استراتيجي، وحين يفشل السلام كخيار، تكون الحرب هي البديل، كما يعرف الجميع حتى ولو طال الزمن. والجهة التي لا تعد نفسها لاحتمال الحرب، تكون مقصرة بحق نفسها، قبل أن تكون مقصرة بحق القضية الفلسطينية.
وحين ينشأ هذان المنهجان الجديدان، يكون التلاقي بينهما أمرا ضروريا وطبيعيا، ويعود موضوع التلاحم الفلسطيني ـ العربي ليصبح قاعدة العمل الصحيح والصائب.