خبر نتنياهو وسياسة « الغموض البنّاء » .. أنطوان شلحت

الساعة 10:10 ص|12 نوفمبر 2009

بقلم: أنطوان شلحت

يتهم اليمين في إسرائيل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بأنه "يضمر شيئاً ما خفياً تحت السطح"، على الرغم من حالة المراوحة التي تسم الأوضاع السياسية عموماً. أمّا أنصار التسوية السياسية وفلول "اليسار الصهيوني" فيتهمونه بالاستنكاف عن اتخاذ الخطوات الكفيلة بأن تدفع قدماً برنامجه السياسي لتسوية النزاع مع الفلسطينيين، والذي أعلنه في "خطاب بار إيلان" في أواسط حزيران الفائت. وفي عُرف هؤلاء، كان في صلب هذا البرنامج قبول "مقاربة التقسيم"، التي تحيل إلى "حل الدولتين".

وبين اتهامات اليمين واتهامات أنصار التسوية السياسية تقف حقيقة بارزة واحدة يتفق الجانبان عليها، وهي أنه على الرغم من مرور أكثر من سبعة أشهر على تأليف الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومرور خمسة أشهر على "خطاب بار إيلان"، فإن خطة نتنياهو السياسية، التي من شأنها أن تترجم مواقفه، التي عبر عنها في ذلك الخطاب وبعده، أفعالاً ملموسة، لا تزال غامضة بصورة مطلقة.

ولعلّ أفضل وصف يمكن إطلاقه على سياسة نتنياهو في شأن تلك الخطة، هو "الغموض البنّاء"، إذ أن هذه السياسة تؤدي، من جهة، إلى استمرار الحفاظ على حزب العمل شريكاً رئيسياً في الائتلاف الحكوميّ، فضلاً عن كونه غطاء يستر عوراتها الديبلوماسية، على الرغم من أن رياح التململ جراء هذه الشركة ودلالاتها بدأت تهب على بعض قادة هذا الحزب ونوابه في الكنيست. ومن جهة أخرى فإنها تردع اليمين الإيديولوجي داخل حزب الليكود واليمين المتطرّف، واللذان يجسدهما في الائتلاف الحكومي حزبا "إسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودي"، وإلى حدّ ما حزب "شاس".

غير أنّ الفوائد المترتبة على هذا "الغموض البنّاء" لا تقتصر على المستوى الإسرائيلي الداخلي فقط. فقد أدى، على المستوى الخارجي، حتى الآن، إلى كبح جماح الضغوط الشديدة، التي مارستها الإدارة الأميركية على نتنياهو من أجل تقديم "تنازلات" تتعلق بالاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة.

ولن يكون من المجازفة التكهن بأن يبقى إتّباع نهج "الغموض البناء"، إزاء الخطط السياسية، هو دين نتنياهو وديدنـه، على الأقل حتى تتضح المعالم الكاملة لصورة الوضع لدى الجانب الفلسطيني، لا سيما في ما يتعلق بالخطوات اللاحقة، التي سيقدم عليها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بعد إعلان عزمه على عدم الترشح في انتخابات الرئاسة الفلسطينية المقبلة، وأيضاً الانتخابات العامة المقرّر إجراؤها، في كانون الثاني 2010، لرئاسة السلطة والمجلس التشريعي الفلسطيني.

إن ما يدعم هذا التكهن هو، أولاً وقبل أي شيء، انعدام أي ضغوط سياسية إسرائيلية داخلية ذات ثقل خاص، وانحسار الضغوط الخارجية. صحيح أن إسرائيل تواجه، في الوقت الحاليّ، ضغوطاً دولية مرتبطة بممارساتها العسكرية خلال الحرب على غزة، في أعقاب تقرير "لجنة غولدستون" الأممية، وصل بعضها إلى حدّ الأزمة الديبلوماسية، كما هي الحال مع تركيا، غير أن هذه الضغوط لا تزال متنائية عن المستوى الذي ربما يضطرها إلى السير في سكة سياسية غير مألوفة، مقارنة بالسكة التي سلكتها حتى الآن ولم تقع خلالها تحت وطأة أي التزامات. علاوة على ذلك فإن الوضع الفلسطيني الداخلي لم يعد، منذ مدة، عاملاً يستدرّ مثل هذه الضغوط. كما أن متابعة ردود الفعل الإسرائيلية على التداعيات الدولية غير المسبوقة الناجمة عن تقرير غولدستون، من شأنها أن تجعل المرء يستنتج بأن الخلاصة، التي جرى التوصل إليها هي المزيد من تمسك إسرائيل بسياستها الأمنية، التي كانت ولا تزال بمثابة ذريعة منمقة لفرض القيود على العملية السياسية.  وما يتعين رؤيته هو أن إسرائيل نجحت في أن تحوّل تقرير غولدستون عدواً مناوباً لها، ومن الناحية التقليدية فإن حاجة الدولة العبرية إلى الإعلان، بين الفينة والأخرى، عن وجود عدو مناوب "تنبع أولاً وقبل كل شيء من بضع احتياجات ومتطلبات للمجتمع والزعامة السياسية في إسرائيل"، وفقاً لما يؤكده الأستاذ الجامعي الإسرائيلي إيلـي بوديـه. ويضيف: إن هذا الأمر يتيح أولاً تعزيز تضامن الشعب الإسرائيلي في مواجهة ما ينظر إليه على أنه عدو متربّص وخطر محدق. ويتيح ثانياً "فهماً" أفضل للحاضر الذي يتراءى باعتباره جزءاً من سياق تاريخي طويل، وربما سياق حتميّ، من الصراعات والحروب المفروضة على الشعب اليهودي. وهو ثالثاً وأخيراً يتيح التهرب من مواجهة المشكلات الحقيقية الماثلة أمام الدولة والمجتمع. وفي ظل هذا الوضع يغدو من السهل العودة إلى لازمة "لا يوجد شريك للحوار" (في الجانب الآخر...) والتي تحولت مبدأ مهماً في سياسة إسرائيل الخارجية منذ قيام الدولة. ولئن كان "الغموض البنّاء" ينطبق على خطة نتنياهو السياسية، التي ينتظرها كثيرون، فإن من المستحيل القول إنه ينسحب أيضاً على مواقفه السياسية العامة، التي لا ينفك يكرّرها صبح مساء. وعبر هذا التكرار يمكن التعثر، في الوقت نفسه، بالتسويغات الحقيقية التي تفسّر الكُنـه الصحيح لتلك المواقف. ومن ذلك، مثلاً، أنه في أحد آخر خطاباته، وهو الخطاب الذي ألقاه لدى افتتاح الدورة الشتوية للكنيست الإسرائيلية في 13 تشرين الأول الفائت، قال نتنياهو: أعلم أن الكثير من الإسرائيليين لم يعودوا يؤمنون بالسلام. فهم شاهدوا كيف أن ست عشرة سنة متتالية من المحادثات مع الفلسطينيين لم تجلب السلام. كما أنهم شهدوا كيف أن البديل من المحادثات، أي الانسحاب الأحادي الجانب [يقصد من قطاع غزة]، لم يجلب - بخلاف الوعود السالفة – السلام، بل إنه جلب إطلاق آلاف الصواريخ والقذائف على تجمعاتنا السكنية. كما أن هذا الانسحاب - أيضاً بخلاف الوعود التي قُطعت - لم يؤدِّ إلى زيادة الدعم الدولي لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بل على العكس، أي أنه أدى إلى تراجع هذا الدعم.  وفي مجرّد هذه الأقوال ما يشي بأن نتنياهو نفسه لا يؤمن بالسلام أيضاً، وبأن موقفه "المبدئي" ينطلق من معارضة المفاوضات التي عُقدت حتى الآن. وإن كان ذلك يعني شيئاً، في لغة التحركات السياسية، فإنه يعني أن همّه الأكبر ليس "تقديم تنازلات"، وإنما فرض الإملاءات التي يراها ضرورية لتجاوز الماضي. أمّا التفاهمات، التي تمّ التوصل إليها حتى الآن فإنه أصلاً لا يأخذهـا في الاعتبـار.  بناء على ذلك ربما يكون "الغموض البنّاء" بشأن خطة نتنياهو السياسية هو حالة مزعجة تستدعي من اليمين وأنصار التسوية السياسية في إسرائيل مواجهتها وعدم التسليم بها، كل من منطلقه وفي سبيل غاياته الخاصة، إلا أنه بالتأكيد ليس كذلك بالنسبة للجانب الفلسطينيّ. وثمة من يأمل بأن لا ينطلي على أطراف دولية، في مقدمها الولايات المتحدة، مع أن التطورات الأخيرة جعلت هذا الأمل مفتقراً إلى أساس مكين يستند إليه.