بقلم: حسن نافعة
يمكن إدراك مغزى إعلان الرئيس محمود عباس عزمه عدم الترشح لانتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية من خلال منظورين مختلفين قابلين لاستخلاص نتائج متباينة إلى حد التناقض.
المنظور الأول: يرى في المبادرة مجرد مناورة سياسية ذكية لجأ إليها عباس مضطراً لوضع حد لانتقادات حادة يواجهها في الداخل، ولتخفيف ضغوط عنيفة تمارس عليه من الخارج. لذا يتوقع أنصار هذا المنظور أن تنتهي المبادرة في نهاية المطاف بتراجع الرئيس الفلسطيني عن موقفه، ولكن في إطار عملية إخراج مناسبة تمكن عباس ليس فقط من إنقاذ ماء وجهه ولكن أيضاً وعلى وجه الخصوص من استعادة بعض من صدقية فقدها في الآونة الأخيرة وبات في أمس الحاجة إليها لمواصلة السير على طريق رسم له بعناية.
المنظور الثاني: يرى فيه خطوة شجاعة أقدم عليها عباس عن طيب خاطر، انطلاقاً من دوافع وطنية بحتة تحتم عليه وقفة مراجعة مع النفس والقيام بكل ما هو ضروري لإنقاذ القضية الفلسطينية في لحظة مفصلية وصلت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مفترق طرق خطي، ولتهيئة أجواء تسمح بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل ولملمة ما تبقى من أوراقه التي بعثرتها في كل مكان رياح هوجاء هبت عليه من كل اتجاه. لذا يتوقع أتباع هذا المنظور أن يصمم رئيس السلطة الفلسطينية على موقفه الرافض للترشح وأن يقاوم محاولات أطراف عدة من المتوقع أن تسعى جاهدة لثنيه عن عزمه عدم الترشح.ولا جدال في أن لكل فريق حججاً وبراهين يراها وجيهة وكافية لتبرير صحة المنظور الذي يتبناه والتمسك به. فأنصار المنظور الأول يعتقدون أن عباس يدرك بحس سياسي صقلته تجربة طويلة، أنه فقد الكثير من صدقيته في الآونة الأخيرة ولم يعد قادراً على الاستمرار في سلوك النهج نفسه الذي سار فيه، وذلك لأسباب عدة أهمها:
1- عجز الدول الحامية والمساندة له، خصوصاً الولايات المتحدة وبعض الدول العربية، عن ممارسة ما يكفي من الضغوط على إسرائيل لحملها على أن تقدم شيئاً ملموساً يعينه على إقناع شعبه بصحة موقفه من «عملية السلام». فحتى أوباما الذي بدا لبعض الوقت منقذاً محتملاً، وجد نفسه مجبراً في نهاية المطاف على التراجع وتغيير مواقفه المبدئية المعلنة بطريقة جعلته يتحول من عامل مساعد أو معاون لعباس إلى عبء أو عنصر ضاغط عليه.
2- تعرض عباس شخصياً لاتهامات سياسية وجنائية شديدة القسوة. فهو تارة متهم من قبل شخصيات تاريخية فلسطينية بتورطه صراحة في اغتيال عرفات، وتارة أخرى متهم من قبل مصادر إسرائيلية بالتحريض على شن الحرب على القطاع والإلحاح على استمرارها إلى أن يتحقق هدف استئصال حركة «حماس» وتصفيتها وإنهاء حكومتها في غزة.
3- إثارة الشكوك حول تورط نجله في علاقات تجارية ومالية بأوساط إسرائيلية وثيقة الصلة بدوائر صنع القرار في إسرائيل، على نحو جعل عباس نفسه فريسة سهلة للابتزاز الإسرائيلي. وبلغت هذه الاتهامات ذروتها إبان الضجة التي أحاطت بتأجيل التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جنيف. فقد جرى تفسير موقف عباس باعتباره دليلاً على عمق تورطه مع إسرائيل إلى الدرجة التي تتيح لهذه الأخيرة القدرة على ابتزازه في أي وقت وإجباره على تقديم تنازلات تخرج عن نطاق الثوابت الفلسطينية وتضر بالمصالح الوطنية الفلسطينية العليا.
أما أنصار المنظور الثاني فيعتبرون أن عباس هو ابن الثورة الفلسطينية أولاً وقبل كل شيء وأحد قادتها التاريخيين الكبار. صحيح أنه تبنى في النهاية مشروعاً للتسوية ينطلق من رؤية سياسية ومن قناعات أيديولوجية مختلفة عن تلك التي تبناها سلفه الراحل ياسر عرفات، قائد الثورة الذي لا ينازع، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة انقلابه على الثورة أو خروجه على الثوابت الوطنية أو تقديمه تنازلات تضر بمصالح الشعب الفلسطيني، كما أنه لا يعني بالضرورة أيضاً أن عباس أصبح أسيراً لرؤيته وبات غير قادر على الفكاك منها بعد ثبوت عجزها عن تحقيق أي من أهدافها. لذلك لا يستبعد هؤلاء أن يكون محمود عباس وصل الآن إلى قناعة مفادها أن «العملية السلمية» دخلت في طريق مسدود وأنه استُخدم كغطاء لتمرير تسوية بالشروط الإسرائيلية. لذلك لا يستبعد أنصار هذا المنظور أن يعكس موقف عباس الأخير من موضوع الترشح نوعاً من التمرد على كل الراغبين في استخدامه غطاء لتمرير تسوية بهذه الشروط، وبات لديه استعداد واضح ليس فقط لإعلان تمرده على محاولات الابتزاز وإنما تقديم كل ما يتطلبه الموقف من تضحيات شخصية أو حزبية.
ولأنني لا أميل بطبعي إلى ترجيح كفة هذا المنظور أو ذاك فإنني أفضل التريث والحكم على عباس من خلال ما سيتخذه من مواقف عملية على الأرض خلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة. فلا يخفى على عباس أن الإدارة الإميركية ومعها معظم الدول العربية تفضل بقاءه في موقعه في المرحلة الراهنة وذلك لأسباب كثيرة منها أنه يقدم لهم شماعة مريحة قابلة لأن يعلقوا عليها أوزار فشلهم، ولاعتقادهم أنه لا يملك من خيار آخر سوى المضي قدماً على طريق دفعوه إليه وتركوه يسير فيه وحده ليتحمل مسؤولية تقديم التنازلات المطلوبة في الوقت الملائم. لكنه يبدو بإعلانه عدم رغبته في الترشح لمنصب الرئاسة، مستعداً لقلب الطاولة على رؤوس أصحابها وإعادة وضع الدول العربية جميعاً أمام مسؤولياتها تجاه ما يجري في الأراضي المحتلة، خصوصاً في القدس. بعبارة أخرى يبدو أن عباس بدأ يدرك الآن أن الدول العربية يمكن في لحظات معينة أن تكون حاجتها إليه أكبر بكثير من حاجته هو إلى هذه الدول. غير أن ما يصدق على الولايات المتحدة والدول العربية قد لا يصدق بالضرورة على إسرائيل التي ربما تكون الطرف الوحيد الذي قد يرحب سراً باختفاء عباس، رغم تظاهرها العلني بغير ذلك، على أمل أن يسبب اختفاؤه مزيداً من الارتباك والفوضى على الساحة الفلسطينية، ما يسمح لإسرائيل بالحصول على الوقت اللازم للاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية وبناء المزيد من المستوطنات، وربما تهيئة الأجواء لتصعيد شخصية من نوع محمد دحلان على أمل أن يبدي استعداداً للتعاون مع إسرائيل بقدر أكبر من المرونة. غير أن هناك مؤشرات كثيرة في الوقت نفسه تشير إلى أن إسرائيل لا تبدو واثقة كلياً من قدرتها على تنفيذ هذا السيناريو، ومن ثم فليس من المستبعد أن تلقي بثقلها في نهاية المطاف في اتجاه السعي لإعادة تثبيت عباس في موقعه، على الأقل في المرحلة الراهنة، إلى أن تتمكن من تجهيز البديل الأكثر قدرة على تحقيق أهدافها. ولأنه يبدو أن جميع الأطراف الحليفة لعباس لم تتحسب فعلياً لهذه اللحظة، فمن المرجح أن تسعى جاهدة للتعاون والتنسيق لإقناعه بالبقاء والعدول عن قرار عدم الترشح. لكن ما هو المقابل الذي يستطيع عباس أن يحصل عليه في الظروف الحالية؟وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز يتحدث عن حل مرحلي لإقامة دولة فلسطينية موقتة على 60 في المئة من الأراضي الفلسطينية، يقول إنها تضم أكثر من 99 في المئة من سكان فلسطين، وقابلة للاتساع تدريجياً مع تأكد قدرة السلطة الفلسطينية على تثبيت وضعها على الأرض كحكومة مدنية ديموقراطية. غير أنه لا يوجد فلسطيني واحد يمكن أن يقبل بعرض من هذا النوع. أما مصر فتطالب بضمانات أميركية مكتوبة بأن المفاوضات المطلوب أن تبدأ بين الفلسطينيين والإسرائيليين من دون اشتراط وقف المستوطنات، ستؤدي في نهاية المطاف إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967. غير أن مصر تدرك جيداً أنه لن يكون بوسع الولايات المتحدة تقديم ضمانات من هذا النوع إلى أحد. على صعيد آخر يتردد أن لدى رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض مشروعاً بإعلان دولة فلسطينية في حدود 1967 من جانب واحد وأن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية أخرى تبدو جاهزة للتعاطي مع حل من هذا النوع. غير أن ذلك ليس وارداً أيضاً، ويقال إن الغرض من زيارة نتانياهو الحالية، والمفاجئة، للولايات المتحدة تستهدف قطع الطريق على هذا الاحتمال والحصول على وعد بأن الإدارة الأميركية ستستخدم «الفيتو» لمنع صدور قرار من مجلس الأمن بتأييد حل من هذا النوع. وأخيراً ما زال هناك من يراهن على احتمال سلخ سورية عن حلفائها في إيران ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، مقابل انسحاب إسرائيل من الجولان وشراء صمت سورية على أي نوع من التسوية يمكن أن يفرض مستقبلاً على الساحة الفلسطينية. وتلك كلها لا تعدو أن تكون مجرد أفكار لم تتحول بعد إلى مشاريع وخطط قابلة للتنفيذ على الأرض أو مشاريع تصادر مسبقاً حقوق الفلسطينين غير القابلة للتنازل ومن ثم لا ناقة للفلسطينيين فيها ولا جمل.
يدرك محمود عباس أن ضغوطاً كثيرة ستمارس عليه من قوى فلسطينية كثيرة ارتبطت مصالحها بوجوده، ومن قوى إقليمية ودولية تريد أن تستغله حتى آخر قطرة حتى ولو قضت على كل ما تبقى له من صدقية، لكن ليس لديها في النهاية ما تقدمه لتمكين شعبه من استعادة حقوقه. لذا أعتقد أنه لم يعد أمام عباس سوى خيار واحد وهو السعي بقوة وجدية لتحقيق مصالحة فلسطينية تمكن الشعب الفلسطيني من استعادة وحدته. وأظن أن قراره عدم الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة يعطيه هامشاً من الحرية يجعله قادراً على تبني مواقف واتخاذ خطوات مهمة في اتجاه الوحدة تساعده على لملمة الشتات الفلسطيني بعيداً من الحسابات الانتخابية. وفي تقديري أن بإمكانه أن يساعد على التمهيد لإبرام صفقة يتم بموجبها تبادل الجندي الإسرائيلي الأسير غلعاد شاليت مع مئات عدة من الأسرى الفلسطينيين من بينهم مروان البرغوثي. وربما يكون بوسعه أيضاً أن يبرم اتفاق مصالحة يتم بموجبه إجراء انتخابات في حزيران (يونيو) المقبل أي بعد أشهر من الإفراج عن البرغوثي الذي يمكن أن يكون مرشحاً توافقياً لرئاسة السلطة وفق برنامج الحد الأدنى المقبول فصائلياً. والله أعلم.