بقلم: باتريك سيل
في الوقت الراهن ينشر الصراع، الذي لا ينتهي بين "فتح" و"حماس"، سمومه عبر الشرق الأوسط وما وراءه. كما يبدو الصدع بين الضفة الغربية وقطاع غزة وكأنه غير قابل للتجسير، وهاتان المنطقتان المكسورتا الظهر، واللتان تئنان تحت وطأة المعاناة - الأولى وهي الضفة بسبب الاحتلال الإسرائيلي والثانية وهي غزة بسبب الحصار الإسرائيلي - لا تزالان حتى اللحظة ممسكتين بتلابيب بعضهما، وكأنهما غير منتبهتين أن الضغائن والأحقاد القائمة بينهما تعرضانهما لخطر ضياع قضيتهما، ودخولها إلى غياهب النسيان.
والفلسطينيون أنفسهم هم أول من يعاني من النزاع بين "فتح" و"حماس"، كما أن "محمود عباس" زعيم "فتح" ورئيس السلطة الفلسطينية، يتعرض لانتقادات واسعة النطاق في الدوائر الفلسطينية لأسباب عديدة آخرها تردده الواضح في التعامل مع تقرير القاضي" جولدستون".
وليس الفلسطينيون وعباس هم فقط من خسر بسبب تلك الصراعات، بل أطراف أخرى قد تضررت تأتي على رأسها مصر التي بذلك جهوداً هائله في التوسط بين "فتح" و"حماس". فبعد مفاوضات مطولة، وصبوره، صاغت مصر وثيقة مفصلة حول الموضوعات الخلافية بين الطرفين، وأهمها الترتيبات المتعلقة بالانتخابات الفلسطينية المزمع إجراؤها في 28 يونيو 2010، ودمج قوات الأمن التابعة للطرفين، والحكم المستقبلي للمنطقتين من قبل لجنة "فتحاوية- حمساوية" مشتركة... وما إلى ذلك من موضوعات. وكان المأمول أن يتمكن الطرفان من التوقيع على تلك الوثيقة حتى ينطلقا على طريق التسوية. ولكن تلك الآمال ذهبت أدراج الرياح مرة ثانية، حيث بقيت الوثيقة دون توقيع. ما هو أسوأ من ذلك أن مصالح مصر قد أصبحت مهددة. فغزة، بعد أن فصلتها إسرائيل عن العالم الخارجي، لم يعد أمامها من بديل سوى الاندماج على نحو متزايد في الاقتصاد المصري، بعد أن أصبحت تعتمد في بقائها على البضائع المهربة من مصر عبر المئات من الأنفاق التي أقيمت عبر خط الحدود.
وإسرائيل لن يسعدها شيء قدر تسليم قطاع غزة إلى مصر، وهو في نفس الوقت أخشى ما تخشاه القاهرة. فمن ذا الذي يريد الاضطلاع بمسؤولية مجتمع ممزق يضم مليونا ونصف المليون إنسان غاضب، ومحروم، دُفع جزء كبير منه إلى الراديكالية، ويعيش تسعة أعشاره دون مستوى خط الفقر، يمكن أن يمثل لها مشكلات أمنية إذا ما تسربت مشاكله وبؤسه عبر الحدود إلى سيناء المجاورة.
وقد عمد محمود عباس، بسبب حرصه على ألا يوجه إليه اللوم في فشل جهود الوساطة المصرية، إلى إصدار مرسوم يدعو لعقد الانتخابات بالضفة الغربية وقطاع غزة في الرابع والعشرين من يناير القادم، وهي الدعوة التي رفضتها "حماس" على الفور ووصفتها بأنها غير شرعية، وأعلنت عدم مشاركتها فيها. ومن الأشياء الأخرى التي خسرت نتيجة للصراعات والأحقاد الفلسطينية، استراتيجية أوباما للتسوية في الشرق الأوسط.
وإذا ما اعتقد الفلسطينيون أنه بإمكان أوباما مساعدتهم على إقامة دولة لهم، في نفس الوقت الذي يستمرون فيه في خلافاتهم فإنهم سيقعون في خطأ كبير. فمن دون جبهة فلسطينية وعربية موحدة، لا يوجد سوى أمل ضئيل في إمكان تحقيق تسوية سلمية. ويجدر هنا ذكر أن الولايات المتحدة نفسها، قد غدت مشلولة الحركة في مسار التسوية، بسبب عدم رغبتها في مشاغلة "حماس"، التي لا تزال تضعها على قائمتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية في العالم، وهو شيء يجاوز كل منطق في الحقيقة، لأن "حماس" كما هو ظاهر للعيان قد تخلت عن النضال المسلح، وأبلغت عدة مفاوضين دوليين أنها على استعداد للقبول بحل الدولتين،كما أنها هي الجهة التي تحكم قبضتها على قطاع غزة.
هناك إشاعات مع ذلك بأن الولايات المتحدة ممثلة في مبعوث أوباما الخاص للشرق الأوسط قد قامت - تحت ضغط إسرائيلي - بتقديم النصح لمحمود عباس بأن الوقت لم ينضج بعد لعقد صفقة مع "حماس". وإذا ثبت أن تلك الإشاعات حقيقية، فإن معنى ذلك أن إدارة أوباما تطلق النار على قدميها، ويحكم على استراتيجيتها للسلام في الشرق الأوسط بالفشل.
على الجانب الإسرائيلي، ليس هناك شك أن حكومة نتنياهو "اليمينية" المتطرفة في غاية السعادة الآن بسبب التردد الأميركي في التعامل مع الوضع في الشرق الأوسط، وبسبب الصراعات الفلسطينية الداخلية. ففي الوقت الذي تتزايد فيه معدلات تأييد نتنياهو في إسرائيل، فإن معدلات تأييد أوباما في الولايات المتحدة تنخفض بشكل متسارع. وليس من شك أن نتنياهو بعد أن كسب معركة المستوطنات التي خاضها ضد أوباما، قد أصبح واثقاً الآن من قدرته على مقاومة الضغط الدولي الذي يرمي إلى إقناعه بالدخول في مفاوضات الحل النهائي تحت حجج وذرائع عديدة. فهو يستطيع في هذا السياق أن يدعى مثلا ً "أنه ليس هناك شريك يمكن لإسرائيل التفاوض معه"، أو أن عباس "على درجة من الضعف لا تمكنه من تحقيق السلام"، أو أن "حماس" عبارة عن "مجموعة من الإرهابيين الذين يريدون قتل الإسرائيليين".
في نفس الوقت نجد أنه من الواضح أن إسرائيل تنوي الاستمرار في سياستها الرامية لانتزاع والاستيلاء على المزيد من الأراضي في القدس والضفة الغربية. فبعيدا عن الكتل الاستيطانية المجاورة للحدود الإسرائيلية والتي تضم 225 ألف مستوطن إسرائيلي، هناك أيضاً 75 ألف مستوطن إسرائيلي آخر وراء الجدار الأمني، كما أن المتعصبين القوميين الدينيين في إسرائيل قد أصبحوا في الوقت الراهن أقوى مما كانوا عليه في أي وقت مضى، في الوقت الذي يشهد فيه معسكر السلام انحساراً كبيراً.
أن الجمود في الموقف يبدو شاملاً: فالحصار القاسي على غزة يبدو مرشحاً للاستمرار، والدول العربية غير قادرة على القيام بواجبها، وإسرائيل لا ترحم، والاتحاد الأوروبي غارق تماما في مشكلاته الخاصة المتعلقة بالتوسع والتكامل، وهو ما يجعل التوقعات الكبيرة التي أثارها أوباما منذ شهور قليلة ماضية تتبخر ببطء وإن على نحو مؤكد.