بقلم: راغدة درغام
تزداد الحاجة الى طروحات واستراتيجيات غير اعتيادية في هذه المرحلة الحرجة من انحسار الأمل بتقدم العملية السلمية في الشرق الأوسط في ضوء ازدياد الغطرسة الإسرائيلية وتصاعد السخرية الإيرانية وتفاقم الانقسامات الفلسطينية والعربية وتراجع السياسات الأميركية. السؤال البديهي في كل هذه الملفات ولجميع المعنيين بها هو: ما المطلوب؟ فإذا كان المطلوب من المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية دولتين تعيشان جنباً الى جانب بسلام وأمن، ما هو شكل كل دولة من وجهة النظر الإسرائيلية – الفلسطينية، ومَن يتولى مهمة الاستيضاح النزيه كي يكون للتفاوض جدوى وصدقية ونتيجة ملموسة على الأرض وليس ليكون مجرد عملية إلهاء وسلوى؟ الجواب الواضح هو ان على الرئيس باراك أوباما، إذا كان يريد للولايات المتحدة أن ترعى وتدير العملية السلمية، أن يتوجه بالسؤال الى كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبإلحاح. فإذا تبيّن له ان نتانياهو يتحايل على فكرة الدولة الفلسطينية وفي ذهنه شكل مبتور ومبعثر لتلك الدولة، فمن واجبه إما إعلان تراجعه عن جهوده مهما كان لديه من حسن النية وصدق العزيمة، أو أن يبادر الى تقديم تصوّر الرئيس الأميركي المتكامل لشكل الدولة الفلسطينية التي، في رأيه، يجب أن تسفر عنها المفاوضات وأن يعقد العزم على العمل نحوها لأن معالجة هذا النزاع – بحسب قوله – تشكل حجراً مهماً في المصلحة القومية الأميركية. الفلسطينيون والعرب الآخرون مطالبون من جهتهم بتبني استراتيجية بديلة عن التفاوض المفتوح الأفق لدى وضوح الإصرار الإسرائيلي على عدم الرغبة بصيغة حل الدولتين بصدقية. هذا البديل متاح بمختلف الوسائل للعرب، وليس للفلسطينيين، إذا شاء العرب استخدام سلاح الموارد الطبيعية أو المقاومة المسلحة جماعة – ولن يفعلوا. لن يفعلوا لأنهم لا يريدون محاربة إسرائيل ولأن الخيار التفاوضي السلمي هو خيارهم الاستراتيجي. الفلسطينيون لا خيار أمامهم سوى إما الاستمرار في العملية السلمية حينما يقومون ببناء المجتمع والبنية التحتية للدولة الفلسطينية بمؤسسات، أو أمامهم خيار العصيان المدني – ربما في موازاة بناء المؤسسات. أي كلام عن خيار المقاومة المسلحة أو تسليح الانتفاضة إنما هو فخ يُنصب للفلسطينيين وهم وحدهم يدفعون ثمنه. وربما من الدواعي الملحة اليوم أن تعتمد الدول العربية استراتيجية متكاملة تتضمن إنشاء صندوق بأموال سخيّة يوضع تحت إشراف وتصرف السلطة الفلسطينية فقط، بهدف دعم المدنيين المتضررين في حال المقاومة المدنية وكجزء من دعم البنية التحتية للنسيج الاجتماعي في فلسطين. ربما من الملح اليوم لبعض الدول العربية أن يتبنى سياسة الإيذاء التدريجي للدول المتعالية عليه في المنطقة والتي تسبب عدم الاستقرار والتوتر له وفي جيرته، وفي مقدمته إسرائيل وإيران. والوسائل المدنية كثيرة من النفط والغاز، الى حملة ذكية توجّه المعركة السياسية في الموضوع النووي الى ساحة إسرائيلية – إيرانية. فليس صحيحاً أن الدول الخليجية تؤيد ضربة عسكرية إسرائيلية ضد إيران أو منشآتها النفطية، على رغم مزاعم إسرائيلية تفيد بالعكس. فالضربة العسكرية مكلفة لاستقرار المنطقة. إنما الصحيح ان عدداً من الدول المهمة في مجلس التعاون الخليجي في وسعه إيذاء إيران اما عبر تقييد حركتها في موانئ دول المجلس أو عبر رفع مستوى انتاج النفط، تدريجاً أو دفعة واحدة، ما يؤدي الى افلاس إيران وإغراقها في بلبلة. وبالتأكيد، ان أفضل وسيلة لإيذاء عربي ذكي لإسرائيل هو في تسريع بناء مقومات الدولة الفلسطينية بزخم استثمارات عربية ضخمة توحّد الفلسطينيين وراء بناء الدولة لإنهاء الاحتلال.
إدارة باراك أوباما ارتكبت أخطاء كثيرة في تناولها المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية آخرها أتى عبر خطأ استراتيجي خطير للولايات المتحدة وعلى منطقة الشرق الأوسط ارتكبته الإدارة على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون هذا الأسبوع. باستخدامها الخاطئ أساساً لتعبير «غير مسبوق» في وصفها مواقف حكومة بنيامين نتانياهو من المستوطنات الإسرائيلية، عبّرت هيلاري كلينتون عن العجز الأميركي ازاء اسرائيل وأعادت إحياء لعبة «اللوم» التي مارستها شتى الإدارات الأميركية السابقة بما فيها إدارة زوجها بيل كلينتون.
الملفت ان بعض رجال الشرق الأوسط في إدارة باراك أوباما الذين يتولون توجيه السياسية الأميركية نحو إسرائيل والعرب وإيران هم رجال إدارة بيل كلينتون الذين كلفهم الرئيس السابق «إدارة» عملية السلام لسبع سنوات قبل أن يستفيق الى صنع سيرته التاريخية في السنة الثامنة. أحد هؤلاء الرجال هو دنيس روس الذي يعتبر اليوم، بحسب المسؤولين والديبلوماسيين في إدارة باراك أوباما، الرجل المكلف صياغة السياسة الأميركية نحو النزاع العربي – الإسرائيلي ونحو إيران. انه الرجل القوي في مجلس الأمن القومي المحاذي للبيت الأبيض، وبصماته واضحة على ما قامت به هيلاري كلينتون هذا الأسبوع.
في أولى وأهم مهماته عندما عمل في الإدارة الجمهورية أيام جورج بوش الأب أثناء الانتفاضة الأولى، لعب دنيس روس دوراً رئيساً في هندسة عملية السلام للشرق الأوسط، وبإقراره كان هدف تلك العملية حسب تصوره لها احتواء الانتفاضة ونزع الفتيل عنها لحماية إسرائيل منها. دنيس روس لم يخف عاطفته نحو إسرائيل وهو كان شفافاً دائماً في هذا الصدد بدخوله وخروجه من البيت الأبيض عبر بوابة «ايباك» التي تقوم باللوبي في الولايات المتحدة لصالح إسرائيل.
الملفت في الأمر ليس دنيس روس وانما اختيار باراك أوباما دينيس روس كأحد ركائز صنع سياسته نحو الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ذلك ان التوفيق بين آراء وأفكار وعاطفة أوباما وبين تاريخ وتجربة ورؤية والتزامات روس يستحق بالتأكيد «حك الرأس» استهجاناً.
على أي حال، سواء كانت بصمات دنيس روس أو رؤية باراك أوباما أو هفوة هيلاري كلينتون، ان معنى ما قالته الوزيرة – السيدة الأولى السابقة هو ان ادارة أوباما تصادق على الموقف الإسرائيلي من الاستيطان مهما حاولت السيدة كلينتون بعد ذلك إرضاء زملائها العرب في مراكش بكلامها حول الموقف الأميركي «المعروف» من الاستيطان.
معنى ذلك أن بنيامين نتانياهو نجح في تكتيك تسجيل النقاط وفي استراتيجية إخضاع الولايات المتحدة مرة أخرى لما يريد من دون احتجاج يذكر لا من الإدارة الجديدة التي تعهدت الحزم وعدم التراجع ولا من الداخل الإسرائيلي الذي يستاء تقليدياً من رئيس وزراء له يتحدى ويعارض ويسلك طريق المواجهة مع الولايات المتحدة.
معنى ذلك ان الولايات المتحدة فقدت تماماً أدوات النفوذ مع إسرائيل حتى عندما تأتي التصرفات الإسرائيلية على حساب المصلحة القومية الأميركية. بل أكثر، من ذلك فقدت القدرة على الضغط ليس فقط بسبب مواقف الكونغرس التلقائية في تبنيها الموقف الإسرائيلي حتى وان كان استيطاناً غير شرعي أو انتهاكاً لقواعد وسلوك الحرب أو تشريداً لعائلات مدنية بريئة من بيوتها – وانما أيضاً بسبب توغل اللوبي الإسرائيلي القوي وتأثيره داخل إدارة باراك أوباما، وهذا سيكون مكلفاً للغاية لفترة طويلة وبعيدة المدى لأن استعادة النفوذ في أعقاب إجهاض كهذا لن تكون سهلة، فلقد أطلقت إدارة أوباما النار على قدميها وعطبت نفسها بنفسها.
حصيلة الأمر ان الفلسطينيين اليوم يقفون بمفردهم في زاوية الاتهام فيما أميركا بجانب إسرائيل، وروسيا ممتنعة عن الخوض في صميم هذه المسألة، وأوروبا تختبئ وراء اصبعها متظاهرة بأنها لا تعلم ماذا عليها أن تفعل، والأمين العام للأمم المتحدة أخيراً اتخذ موقفاً ينتقد إجراءات إسرائيل ضد المدنيين في بيوتهم ويدعو الى تجميد الاستيطان. وبالتالي ان «اللجنة الرباعية» التي تضم هؤلاء الأطراف باتت شاهد زور على «خريطة الطريق» الى قيام دولة فلسطين بجانب إسرائيل، لأن تلك الخريطة طالبت أساساً إسرائيل بتجميد نشاطات الاستيطان كلها وليس بعضها «غير المسبوق» حسب تعبير وزير الخارجية الأميركية.
واقع الأمر أن لا هيلاري كلينتون ولا مبعوث الرئيس الأميركي الخاص جورج ميتشل حاولا ضمان التنفيذ التام لخريطة الطريق. كلاهما كان حاضراً في اللقاء الثلاثي في نيويورك بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس أوباما ونتانياهو حين زُج تعبير «ضبط» الاستيطان بدلاً من تجميده. ثم أتى أوباما في اليوم التالي ليصحح الخطأ والانطباع وتحدث عن عدم شرعية الاستيطان وعن القدس وعن أهداف المفاوضات وعن الحل النهائي وعن قيام دولة فلسطين مكان الاحتلال الذي وقع عام 1967.
فما هي حقاً السياسة الأميركية؟ فإذا كانت مجرد القبول بما تقدمه إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال، لأن هذا هو سقف القدرة الأميركية في التأثير مع إسرائيل، عندئذ ان الورطة كبيرة.
رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض يقول ان «مهمة إنهاء الاحتلال معهود بها للمجتمع الدولي وليست منوطة بالقوة القائمة بالاحتلال». ويشير الى ان عملية «أوسلو» وضعت إنهاء الاحتلال في عهدة الدولة القائمة بالاحتلال وكرست أسلوب «نصف الرغيف» كأمر واقع لمدة 15 سنة، وان الإدارة الأميركية فشلت في ضمان أمر بديهي وأساسي وهو إقناع إسرائيل بالتوقف عن انتهاك القانون الدولي، ويقول: «معقول اذن للفلسطينيين ان يسألوا: من يضمن لنا ما ستؤدي اليه المفاوضات إذا استمرت على هذا الأساس؟».
ما يقوله سلام فياض هو: اسألوا نتانياهو ماذا في ذهنه عندما يتحدث عن دولة فلسطينية – فهذا السؤال معقول. إذا كان شكل الدولة الفلسطينية مفصلاً على طريقة نتانياهو وحسب تصوره لأن هذا ما ترتئيه الدولة القائمة بالاحتلال، «آن الأوان لإعادة النظر في مبدأ إعطاء القوة القائمة بالاحتلال اليد العليا وصلاحية هذا القرار. فهذا القرار هو مسؤولية الدول والمجتمع الدولي».
فشل الإدارة الأميركية في إقناع إسرائيل بتجميد الاستيطان انما يشكل حافزاً ضرورياًَ لتشييد البنية التحتية للدولة الفلسطينية ويتطلب دعماً عربياً سخياًَ ومتماسكاً في استراتيجية ذكية لبناء الدولة وتوحيد الفلسطينيين وراء بناء الدولة بعيداً من المهاترات السياسية والمزايدات الفلسطينية والعربية.
فأهم عصيان مدني لإسرائيل هو عصيان الاحتلال عبر بناء مؤسسات الدولة والبنية التحتية للمجتمع الفلسطيني ليكون مرفوع الرأس شامخاً وواثقاً وهو يواجه بالبناء محاولات إسرائيل استدراجه الى تدمير الذات. واجب الدول العربية توفير هذه الإمكانيات بما في ذلك بصورة مؤسساتية عبر صندوق دعم يزيل أساليب «المعونة» عبر التوسل أو الاستعطاف.
أما إدارة أوباما فعليها أن تصون رئيسها من الاستهتار به وتصون الولايات المتحدة من استحقاقات الانصياع لإسرائيل حتى وهي تنتهك القانون والشرعية الدولية، فآخر ما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم هو توسيع رقعة الغضب منها تكراراً بسبب دعمها الأعمى بلا محاسبة لإسرائيل مهما كابرت وتغطرست.