خبر شجرة الغريب والحكمة اليمانية...علي عقلة عرسَان

الساعة 10:34 ص|06 نوفمبر 2009

شجرة الغريب والحكمة اليمانية...علي عقلة عرسَان

في اليمن العزيز السعيد شجرة عجيبة يقال إن عمرها آلاف السنين، تدعى شجرة الغريب، تقع على مسافة عشرات الكيلو مترات من تعز، في أحد مخاليفها، هي شجرة متوحدة ضخمة كثيرة الفروع، يأوي إليها الطير ويستظل بظلها عابر السبيل، ويكتب على جذعها أشخاص ويرسمون كلمات وإشارات تبقى للدهر والقادمين.. قشرة ساقها كتاب يرى فيه الناس وجوه أمهاتهم وجداتهم وآبائهم وأجدادهم ويقرؤون ما حفره الزمان على البشرة والقشرة من تجاعيد وأخاديد تلخص المعاناة ونتائج الصراع في الحياة، وتقدم شيئاً مما سلف، فيعرف بعض من يطالعون ويتأملون معنى أن نكون وأن يبقى منا للقادمين شيء يقول لهم: هكذا كنا وهذا بعض طعم حياتنا ونوع معاناتنا، وهذا ما يمكن أن يبقى منا للأيام والناس.. الدهر أقوى من كل ما نملك من قوة وحنكة.. أكَلنا ولكنّا انتزعنا من جبهته مكان سطر نقول في كلماته: كنا هنا.. نحن هنا.. وسنبقى هنا.

 

وشجرة الغريب تحمل ما يشبه الرسالة لكل من يمر بها ويراها ويستظل بها، ويعرف أنها تنغرس عميقاً في الأرض وتحيا على الرغم من أن لا ساقية ماء قربها ولا من يحمل على ظهره الماء ليروي ظمأها.. إنها تدهش وتعلّم وتقدم الخدمة والمتعة، وتحمل أوراقُها وأغصانُها نسغ الأرض الخيرة التي تمتد فيها الجذور الكثيفة إلى عشرات الأمتار، وترشف من عمق الأرض والزمن ما يكوّن نسغ حياة اليوم والجديد في تلك الحياة الممتزجة بالبيئة الطازجة، وما يعطي للأوراق والأغصان قدرة على التواصل والتفاعل مع الشمس والهواء في كل يوم، اليوم وغداً.. إنها تمثُّل الحاليّ والمستقبليّ وإعادة إنتاجه في ثمر ناضج، أو ظل ظليل، أو مشهد نظر رائع عطر، أو مناخ رائق تسيل على ألسنة هوائه المتعة، ورؤى غنية وموحية تكون للخلق كافة عظة وعبرة، وتؤثر فيهم بمقادير وفق تكوينهم وثقافتهم وتجاربهم واهتماماتهم ورقة أحاسيسهم وعمق انتمائهم.. شجرة أنموذج تشعر بها أماً وأباً.. تنغرس في عمق الأرض وتشرئب بأغصانها إلى السماء.. وتقول أنا هنا هوية اليمن، وهويتي هي اليمن، الباقي ما بقي الزمن على الرغم من الصراع والموت وتجاذب الأسنة أطراف الحديث بدلاً من تجاذب الألسن لتلك الأطراف من دون دم وموت.

 

وقفت في ظل شجرة الغريب تلك يوماً أتأمل حالي وحالها، وأتفاعل مع ما تصبه في جوفي وتوحيه لي.. ورأيتها شجرة أدب وحكمة وشجرة نسب ونعمة، وبدت لي مثل هوية الأمة وفروع أدبها ونسبها.. أفنان تتناثر على ساق وجذر ينغرس في الأعماق.. "شروشها" تمتح من قلب الأرض نسغ الحياة وتستخلص أسرار الوجود أو تلخصها، وتتجدد أوراقها بتفاعل حيوي مع نثار الأشعة في فضاء الوقت كل صباح.. منذ عشرات القرون شجرتنا العربية العريقة هنا سامقة باسقة مورفة، لها حيوية وحضور ورونق وعطاء ونكهة وظلال، ولها طعم خاص وخصوصية تأثير، ولها جذورها الضاربة في التربة الثقافية الغنية والماضي العريق، ولها إطلالتها البهية على المستقبل من شرفة ساهم في بنائها الزمان.. ولها في غير اليمن غصون ذات انتشار وصلابة وجمال.. من صنهاجة المغاربية الأكثر قدماً من الفتح الإسلامي إلى ما سجلته اليمانية من صفحات تمتد حتى الصين.. نحن نهز اليوم ذلك الغصن من مواقعنا في السياسة والفكر والأدب فيسَّاقط علينا منه ثمر مجرح نتذوق بتذوقه طعم الحياة حلوها ومرها، ونسترجع، في موقع ذات تاريخ وعبر، عطاء الناس ورؤاهم في مخاليف اليمن من سبأ ومعين وحمير والتبابعة والغساسنة.. إلى أيام حاشد وبكيل وأبناء سائر الأقوام والقبائل والمذاهب في اليمن.. وما تركه أحفادُهم من قول في الناس و تأثير للقول في الأدب والناس استمر تفاعله وحضوره وغناه، واستمر يعطي وينير ويتواصل ويثير.. وغرر الشعر العربي الحديث وقُذَله البارزة فيه من الزبيري إلى البردُّوني والمقالح وسواهم كثير، ممن ردوا بقوة على سؤال مجحف استطال في زمن الضلال يقول: “وهل في اليمن شعراء؟!".

 

إننا نشير اليوم إلى هذا والغصة في الحلق مما يجري في اليمن من اقتتال بين الأخوة، ينذر بانتشار النار في الهشيم ليشمل الحريق ـ لا سمح الله ـ مواقع أخرى هي منا مساحات الجسد والذاكرة والوجدان والحضور. إن شجرة الغريب التي افتتحت بها كلامي رمز لدوحة النسب والحكمة والأدب، ولساحة العرب التي ينبغي ألا تغيب أو تغيَّب عما يجري هنا وهناك في أجزاء من الوطن وخلايا الأمة من خراب أو تخريب، وقتل ودمار وتدمير.. أن شجرتنا الراسخة تلك التي تترامى أغصانها وألوانها وظلالها.. هي شجرة "الغريب" لكل منا حين تأكله الغربة وهو في الوطن وبين الأهل، حيث يجد نفسه خارج حدود الانتماء والعصر والعقل كلما شبت نار وغابت حكمة وسال دم الأخوة بسلاح الأخوة.. وشجرة اليمن شجرة الأمة والوعي والفكر والنسب والحكمة والأدب، التي ينبغي أن تستظل بها العشائر والقبائل والطوائف، وينتشر منها الوعي والعقل، ويشعر كل منا بالراحة والأمن والفخر وهو يعلن الانتماء إليها، ويعمل على أن تمتد شروشها إلى عمق الزمن والأرض والتاريخ والحضارة، وأن يغرد عليها الطير بأمان، ويرتاح في ظلها النار من تعب ومن ملاحقة الليل.. وأن تعطي ثمراً يانعاً نتذوقه فنعجب ونعتز.

 

فهل ترانا نكون أهل بيت واحد في ظل شجرتنا، أم غرباء نأوي إليها في مراحل من السفر والتعب فنرتاح ثم نستأنف السير.. أم أننا لا هؤلاء ولا أولئك، بشر يتوهنا في القفار ويشعلون في أثوابهم النار، ندفع أعمارنا بسبب شقاء يرهقنا، فنشده أحزمة على بطوننا وأكاليل نار فوق رؤوسنا؟

 

من حقنا أن ننشد الإجابة عند الحكمة، والحكمة يمانية.

 

جدة في 6/11/2009

 

                                                                                                             علي عقلة عرسان