خبر تقرير غولدستون والإشارات الخطيرة التي يطرحها .. بلال الحسن

الساعة 10:12 ص|04 أكتوبر 2009

تقرير غولدستون والإشارات الخطيرة التي يطرحها

بلال الحسن ـ الشرق الأوسط 4/10/2009

سيصبح تقرير ريتشارد غولدستون، القاضي اليهودي من جنوب أفريقيا، الذي اختارته لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، من أجل وضع تقرير عن حرب إسرائيل ضد قطاع غزة المحاصر، علامة سياسية فارقة، على مستوى الأمم المتحدة، وعلى مستوى السياسة الدولية. وسيكون في الوقت نفسه علامة فارقة على مواقف الجهات المعنية به، من الولايات المتحدة الأميركية إلى أوروبا إلى السلطة الفلسطينية التي باتت سلطة من نوع خاص، مستعدة للعمل من أجل إجهاض تقرير يدافع عن الشعب الذي تدعي أنها تمثله.

لقد أصبحت المشكلة الآن في الإعلام العالمي هي مشكلة غولدستون، ومشكلة التقرير، ومشكلة الموقف الأميركي والموقف الفلسطيني. بينما المشكلة الفعلية كامنة في الموقف الأصل، أي مشكلة الحرب الإسرائيلية ضد غزة، والتي تكاد تغيب في ثنايا المعركة السياسية الدائرة.

وحرب غزة، حرب فريدة من نوعها. حرب علنية كما لم تكن حرب علنية من قبل، حرب تلفزيونية من الطراز الأول. شاهدها العالم كله لحظة بلحظة، وقذيفة بقذيفة، وقنبلة فوسفورية بعد قنبلة فوسفورية، وضحية بعد ضحية، ارتكبها جيش فائق القدرة التدميرية، ضد شعب محتل ومحاصر إلى حد الجوع، ولا يملك سوى إرادة المواجهة للاحتلال الذي يعاني منه، ولا يستطيع مواجهته بما هو أكثر من مدافع الهاون ومن صواريخ بدائية باعتراف الجميع. هذه هي الجريمة الأصل التي جاء تقرير غولدستون ليطلب المحاسبة على ما ارتكب فيها من جرائم. ولكن ما إن صدر التقرير، ومن قبل جهة دولية يفترض أنها تمثل الجميع، حتى قامت القيامة ضده، وأصبح هو القضية، وهو المشكلة، وتراجعت الحرب على غزة وشعبها إلى خلفية المشهد.

المسألة إذاً تستدعي التساؤل والمساءلة. ما الذي جرى؟ وما الذي سيجري؟

ولا بد من أن نسجل هنا أمرين:

الأمر الأول: إنه نتيجة الحرب التلفزيونية، ثارت حملة قاسية ضد إسرائيل. حملة بدأت في أوروبا أولا، التي تحرك شرفاؤها قبل غيرهم، ليستنكروا ما جرى وما شاهدوه بأعينهم، وليقولوا إن جيش إسرائيل أصبح منفلت العقال، وأنه يجب أن يحاسب عبر قادته السياسيين والعسكريين. وكان آخر مشهد في هذا المنحى، الدعوى التي واجهت وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك في لندن قبل أيام، والتي كان من الممكن أن تؤدي إلى اعتقاله ومحاكمته أوروبيا، لولا إقدام الحكومة البريطانية على حمايته دبلوماسيا.

الأمر الثاني: إن الدولة الأميركية، ودول أوروبا، ثارت كلها ضد التقرير، ورفضته، ساعية إلى حماية إسرائيل من المساءلة، والتي وصفها التقرير بأنها «ثقافة الحصانة» التي جعلت من إسرائيل دولة فوق القانون.

لقد حصل هذا التغيير الشعبي الغربي ضد إسرائيل لأول مرة منذ العام 1948، بينما كانت له سابقة أوروبية هامة، حين أجرى الاتحاد الأوروبي قبل سنوات، قليلة، استقصاء للرأي عن الدول الأكثر عدوانية في العالم، وقال الرأي العام الأوروبي بنسبة 58% إن إسرائيل هي أكثر دولة عدوانية في العالم. نحن إذاً أمام تحول غربي نوعي، وأوروبي بالذات، تجاه إسرائيل، تعارضه حكومات أوروبا المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية. ويشير هذا التحول إلى أزمة داخلية في أوروبا التي شاهدت حرب غزة عبر التلفزيون، بينما كان التلفزيون الأميركي شحيحا في نقل الصور والمعلومات، بحيث لم يستطع الجمهور الأميركي أن يعرف ما جرى. ولا شك أن هذه المسألة ستتفاعل أوروبيا بالدرجة الأولى، وأميركيا بالدرجة الثانية، طارحة تساؤلا حول معنى الشعارات التي تطرح حول الإرهاب، وحول حقوق الإنسان، وحول الديمقراطية، وحول ادعاءات الغرب بأنه يدافع عنها.

الجانب الآخر في قضية التقرير يتعلق بالإدارة الأميركية وعلاقتها بإسرائيل. فعلى مدى أشهر قليلة، تعرضت الإدارة الأميركية برئاسة باراك أوباما، إلى هزتين كبيرتين جاءتا من إسرائيل. هزة دعوة أوباما بقوة إلى ضرورة وقف الاستيطان الإسرائيلي ثم تراجعه عن ذلك بسبب رفض إسرائيل، ثم هزة الوقوف ضد تقرير غولدستون وأيضا بسبب رفض إسرائيل له. فهل يعقل أن الدولة الكبرى الأعظم في العالم، الدولة التي تحمي إسرائيل سياسيا، والتي تمدها بالسلاح المتفوق دوما، والتي تمولها بالقروض، والتي تضغط على دول العالم لشراء السلاح منها لتؤمن لها دخلا اقتصاديا، هل يعقل أن هذه الدولة لا تستطيع أن تضغط على إسرائيل، وتكون قيادتها دوما مضطرة للتراجع أمامها؟ لا أحد يصدق ذلك، وهناك تفسيران مطروحان أمام هذه العلاقة الغريبة من نوعها:

التفسير الأول يقول إن اللوبي الإسرائيلي المتحالف مع قوى أميركية داخلية فاعلة، كالحزب الجمهوري والجيش، يضغط على الرئيس أوباما، ويدفعه للتراجع عن مواقفه، ولو بشكل مهين، اعتراضا على سياسته كلها. وأن هناك أزمة حقيقية داخل الولايات المتحدة الأميركية. فمن يريد أن يهدد إيران بقوة الجيش الإسرائيلي لا يجوز أن يضغط على إسرائيل ويضعف مكانتها، ويضعها في موضع المتهم.

التفسير الثاني يقول: إنه ليس صحيحا أن أوباما أراد إحداث تغيير في السياسة الأميركية، بحيث يلغي سياسة إدارة جورج بوش السابقة، وبخاصة في جانبها العسكري، بل إن العكس هو الصحيح، فهو يواصل هذه السياسة، وعناوينها: حرب أفغانستان، وحرب باكستان، وحرب العراق، والأزمة مع إيران، ودعم إسرائيل المطلق عسكريا وسياسيا ونوويا (عبر غواصات ألمانيا)، وضد الشعب الفلسطيني، تماما كما كان الحال عليه دائما. ويستند أصحاب هذا الرأي لدعم موقفهم، بالإشارة إلى التواصل القائم بين العهدين، من خلال وزير الدفاع الأميركي، الذي جاء من الإدارة السابقة ليبقى وزير دفاع في الإدارة الحالية، مواصلا تطبيق السياسات نفسها، هذه السياسات التي تستدعي رفض تقرير غولدستون، وحماية إسرائيل من نتائجه.

سياسة أميركا إذاً، من بوش إلى أوباما، هي التي تحمي إسرائيل، وهي التي (تقرر) التراجع عن موضوع الاستيطان، والإعلان عن رفض تقرير يدين دولة إسرائيل وجيشها وقادتها. وليس الأمر قوة إسرائيلية ، أو شجاعة إسرائيلية، تقف متحدية الإدارة الأميركية.

الجانب الثالث في هذه القضية، وكان من الممكن أن يكون الأول، هو موقف السلطة الفلسطينية في رام الله. الموقف الغريب والمستهجن والذي له ما بعده. فهي طرف فلسطيني معني بالتقرير وما يؤدي إليه، وإذا بها تتقدم في اللحظة الحرجة، لحظة التصويت على القرار، التصويت الذي ينقل المسألة إلى مجلس الأمن وإلى محكمة الجنايات الدولية، فتطالب بوقف التصويت وتأجيله. وقد قيل علنا إن هذا الموقف هو موقف أميركي ـ فلسطيني، أقدمت عليه السلطة ضد نفسها وضد شعبها بناء على طلب أميركي، أو ضغط أميركي سيان. وكرست هذه السلطة بذلك أنها لا تملك حرية حركة ولا حرية تقرير، بل هي تنفذ إملاءات أميركا، حتى حين تكون هذه الإملاءات لمصلحة إسرائيل بالكامل. وستكون لهذا الأمر بالتأكيد نتائج حساسة في الوضع الفلسطيني الداخلي، حيث النقمة الشعبية كبيرة ضد هذا الموقف، وهي تتحول بالتدريج إلى نقمة أكبر، وإلى نقمة تشمل قضايا فلسطينية أخرى، تضعف مكانة هذه السلطة التي تلقى دعما غربيا فريدا من نوعه لم يحدث من قبل.

إن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، تسقط بهذا الموقف في أوساط شعبها أولا، ثم تسقط على صعيد مكانتها وسمعتها، حين تظهر كسلطة مطواعة أمام الأوامر الأميركية، حتى حين تكون هذه الأوامر ضد مصلحة شعبها، ولصالح إسرائيل بالكامل.

لن يصدق أحد بعد الآن مواقف أو مطالب هذه السلطة، ولن يتجاوب أحد بعد الآن مع طلباتها بالضغط على إسرائيل، بينما هي التي تقدم على التخلي عن أصدقائها من أجل حماية إسرائيل من نتائج تقرير دولي تم إعداده في إطار الأمم المتحدة.

ماذا يعني هذا كله؟

يعني في النهاية، أن ما يحدث مع تقرير غولدستون، هو صورة عما سيجري مع الرعاية الأميركية للمفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، ومع مشاريع أميركا للتسوية السياسية.

إنها سياسة إملاءات. وسياسة رضوخ. وفي قضايا تتعلق بمصير الشعب. ولم يحدث أبدا أن الشعوب سكتت أمام قضاياها المصيرية.