خبر في القراءة والقارئ ..علي عقلة عرسان

الساعة 12:07 م|02 أكتوبر 2009

في القراءة والقارئ

علي عقلة عرسان

في فضاء مؤتمر حركة التأليف والنشر الذي عقدته مؤسسة الفكر العربي في بيروت يومي 1 و2 تشرين الأول/ أكتوبر 2009، ساهمة منها في الاحتفاء ببيروت عاصمة دولية للكتاب لهذا العام نوقشت قضايا كثيرة مما يتصل بهموم المؤلفين والناشرين والقراء، ودور حركة التأليف في المشروع النهضوي العربي المنشود، وطرحت أسئلة كثيرة حول ما يقرأ العرب وما يكتبون، وما يروج في أسواق الكتاب وما لا يروج.. ولماذا لا نقرأ، وتأثير ذلك في التنمية والنهضة.. وشارك في الحوار معنيون ومهتمون مباشرة بقضايا حركة التأليف والنشر والمؤلف والناشر والكتاب، وكانت تلك مناسبة طيبة لتركيز جهد واستقطاب اهتمام بهذه المواضيع الحيوية الهامة.

وأريد أن أوكد بداية، في هذه المقاربة لجانب من جوانب الموضوع، أننا نقرأ، ولكن لدينا مشكلة ترقى إلى الأزمة في مجال القراءة والمتابعة، وإدراك عمق ما نقرأ، وتَمَثُّل ما نستحسنه مما نقرأ وجعله من حاكمات السلوك ومحرِّضات تحويل المعارف والعلوم النظرية إلى إنجازات وتطبيقات عملية ومهارات فنية وتقنية، تصب في مجرى الصناعات والإنتاج المتقدم في كل المجالات، وتفتح أبواب آفاق حضارية، وتنقلنا من مساحات الجهل إلى ساحات المعرفة والعلم. نحن أمة "إقرأ" لا نقرأ بما فيه الكفاية، ولا نكاد نعانق الكتاب بما يتوافق مع حاجاتنا وعقيدتنا والأمر الإلهي الموجه إلى رسولنا وإلى كل منا: "إقرأ".. ومن ثم فنحن لا نقارب المعارف والعلوم والآداب العصرية بالشكل المناسب وبالكثافة المطلوبة، وبما تحتمه الضرورات الملحة وما يتطلبه واقعنا وعصرنا والتحديات المطروحة علينا، وأهمية تحقيق توازن بين المادي والروحي في حياتنا.. والأدلة والمؤشرات على ذلك حادة وقاسية، والاستثناءات الموجودة لا تشكل قاعدة يُستند إليها ويُبنى عليها.

القراءة تتراجع بشكل ملموس في الوطن العربي، أو أنها لا تنمو بمقدار الحاجة والضرورة، ونمو السكان على الأقل، ولذلك أسبابه وعلاجه. وما ينقصنا بالدرجة الأولى سياسة ثقافية شاملة، سياسة دولة أو سياسة أمة، تشمل الأسرة والمدرسة والمجتمع، ترسّخ عادة القراءة والتعلق بالكتاب والاستفادة مما يُقرأ، وتساهم في تنمية الوعي المعرفي، ومن ثم في تكوين التربة الملائمة للتنمية البشرية المستدامة ابتداء من التنمية الثقافية. ولا يفسر التحول الجزئي في مصادر المعرفة والعلم والمعلوماتية من الوعاء الورقي إلى الوعاء الإلكتروني تراجع مكانة الكتاب أو تراجع القراءة، فإقبال القراء على التعامل مع الكتاب في الوعائين الإلكتروني "الرقمي" والورقي، قليل جداً. ومع أن نسبة لا بأس بها من الأجيال الشابة تكتسب المهارات اللازمة للتعامل مع الأنترنيت والمعلوماتية والحواسيب والتقنيات المتعلقة بالمعرفة المخزنة رقمياً، ومن ثم تستطيع أن تقرأ وفق التقنيات المتطورة،  إلا أن التعامل مع الكتاب في الوعاء الإلكتروني مازال محدوداً لأسباب تتعلق بأمية في مجال تقنية المعلومات مضافة إلى الأمية الألفبائية والثقافية المنتشرتين، كما تتعلق بحجم التخزين والإتاحة، وبالقارئ الذي يحتاج إلى توطّن عادات جديدة في التعامل والتواصل مع هذا النوع من المعرفة.. إضافة إلى حاجته لاقتناء حاسوب واكتساب مهارات تقنية محددة. والجهود تتواصل من الأطراف المعنية لتذليل ما ينشأ من صعوبات جراء التعامل مع الجديد والمتطور في هذا المجال.

والدولة العربية التي ينبغي/ أو يجب/ أن تحرص على ثقافة الأمة حرصها على وجودها، وترفع شعار التنمية وتستشعر ضرورتها، لا تأخذ عملياً بحقيقة أن أساس التنمية في كل المجالات هو الوعي، وأن أساس الوعي هو المعرفة، وأن جزءاً كبيراً من المعرفة يحصل عليه المرء عن طريق الثقافة والمثاقفة والتعلّم، أي عن طريق القراءة والبحث. كما لا تأخذ التنمية بأبعادها من منظور علمي جاد، حيث تنمي ملكات الإنسان ومعارفه وتعلَّقه بالقراءة والتعلم ليتابع التطور والجديد ويتجدد، ومن ثم الوصول إلى المجتمع العربي القارئ. وتكاد تتغاضى عن حقيقة أن الاستثمار في المعرفة والعلم هو الاستثمار المستقبلي الأجدى وأساس الربح في كل استثمار، وأن الإنسان المثقف ثقافة عامة واسعة وتخصصية عميقة هو حامل هذه المعرفة والقائم بأعباء التنمية والقادر على حماية منجزاتها وجعلها تستمر على الوجه السليم، من خلال حسن الأداء وصدق الانتماء وحضارية السلوك، والقدرة على الابتكار والإبداع.

إن المؤلف يشكل أحد قطبي عملية الإبداع وإنتاج المعرفة، وأهم  أطرافها، وأشدها معاناة من جهة وأهمية في انطلاقها وتأثيرها وعمقها وكفايتها وتنوعها وأرفعها من حيث النوع من جهة أخرى، ولكن القارئ يشكل القطب الثاني الذي تصب عنده الحصيلة النهائية للتأليف والترجمة والنشر، للإبداع والابتكار.. وتنعكس آثارها عليه سلباً وإيجاباً، ويتمكن تأثيرها فيه حيث يتجلى وعياً وتذوقاً وقدرة على الاستفادة والإصلاح والتغيير والتقدم، والعيش بثقة ومتعة وعمق شعور، ووضوح رؤية، ونديَّة مع الآخر. والقارئ هو المستهلك الذي يسوِّغ الإنتاج ويدفعه قدماً، والقطب الذي تتجمع  لديه حصيلة جهود واجتهادات الأطراف المعنية بحركة النشر وصناعة الكتاب، ويتحمل نتائج عملها واجتهاداتها وطموحاتها وأطماعها بشكل أو بآخر، ويدفع التكاليف والأرباح.

والقارئ العربي محكوم بكل معوقات الحياة العربية ومحروم من كثير من زاد المعرفة وثمرات القرائح والمطابع لعدم قدرته في المحصلة على توفير مناخ العيش الذي يسمح للمعدة والرأس بغذاء مادي وروحي متوازن أو متقارب، نتيجة للفقر وضغط الحاجة وفقدان الخدمات وتراخي الإرادة وتآكل التطلع والطموح، ولكثرة ترسبات القهر والإحباط.. هذا القارئ يبقى في النهاية هو المقصود بحركة النشر وهو أهم محركاتها، والمقصود أيضاً برسالتها النبيلة، إذ هو هدف أهدافها وأعلى تلك الأهداف، وهو جوهر ديناميتها.. فمن دون القارئ لا يروج الإنتاج ولا يتنوع ولا ينمو، ومن دون القراءة لا يتم الإطلاع على ما يُكتب ولا يُستفاد منه. صحيح أن هناك علاقة جدلية بينهما، وأن المؤلف والناشر قد يكونا رائدين، ولكن الكتاب يدخل ولو جزئياً سوق العرض والطلب، وهي سوق لها قواعدها وقوانينها وأحكامها.

فإذا استطاعت حركة النشر العربي أن توفر مائة ألف قارئ عربي لكل كتاب جيد، في حقول المعرفة العامة والآداب والعلوم الإنسانية، وعشرة آلاف قارئ على الأقل في حقول تخصصية " علمية وسواها"، فإنها ستنجح  في تحقيق مشاريع تجسد حلم الانتشار الأفقي للكتاب وتغذي تلك المشاريع وتنميها،  الأمر الذي سينعكس إيجابياً بدوره على ازدهارها، وينمي عدد القراء المحتملين، ويساهم في التنمية الثقافية العربية والتنمية المستمرة أو المستدامة، وفي التقدم العام للأمة العربية.

إن كسب معركة الثقة التي لا بد منها لبناء جسور اتصال تعمل بالاتجاهين، بين المؤلف والقارئ، هو أمر في غاية الأهمية. ومن أجل الوصول إلى ذلك لا بد من تذليل صعوبات كثيرة وخلق ظروف ملائمة لاقتناء الكتاب، وتسهيل وصوله إلى درجة الحاجة في البيت، وإقامة علاقة بين الطفل والكتاب في البيت والمدرسة، وبين الشاب والكتاب، وبين أفراد الأسرة والمكتبة المنزلية. وهذا يحتاج إلى توجيه وسياسة وبرامج وإمكانيات، ولا بد له من قيام تعاون شامل بين جميع المعنيين الذين يهمهم أن يكون قطاع النشر العربي قطاع خدمة متميزة تلبي حاجة عليا متجددة للفرد والمجتمع. ومن شأن ذلك أن يضع الأمة العربية على طريق النهضة والمستقبل بكل مستلزماتهما واحتياجاتهما المادية والمعنوية علمياً وعملياً وأخلاقياً وسلوكياً.

إن التطور المستقبلي المنتظر لقراء محتملين في الوطن العربي يربو عددهم على المئة ألف قارئ على الأقل كمرحلة أولى، يجعل إمكانية خفض تكلفة الكتاب والدورية أمراً ممكناً جداً ومن ثم يخفض ثمنهما على المستهلك، ويساعد على اقتناء الكتاب، وهذا يتيح مداخل وفرصاً لتحرير المؤلف والمبدع اقتصادياً، ومن ثم تحرير قلمه وطاقته الإبداعية من القيود الخارجية والمعوقات الداخلية، المنظورة وغير المنظورة، ويمكنه من أن ينصرف بحرية وثقة إلى تحسين قدراته وأدائه وتطوير معارفه وإبداعه.. وهذا ينعكس على الكتاب جودة وعلى القارئ فائدة، فالقارئ يحتاج إلى الكتاب المتميز، فضلاً عن المردود المعرفي الذي لا يمكن التكهن بمدى تأثيره الإيجابي في حركة الوعي عمقاً وشمولاً، وفي المد النهضوي والحضاري العربيين.

أما لماذا لا نقرأ أكثر.. فذلك يعود إلى أسباب كثيرة منها:

أ ـ عدم قيام البيت والمدرسة بتوطيد علاقة الطفل والتلميذ والطالب بالكتاب، وضعف التدريب على المطالعة والاستيعاب، من خلال كشف عوالم المعرفة والكتب المغرية والممتعة، وسبر عملية الفهم والاستخلاص.

ب ـ ضعف القدرة الشرائية عند شرائح واسعة من الجمهور، بسبب تدني الدخل، وارتفاع تكاليف المعيشة من جهة، وارتفاع ثمن الكتاب من جهة أخرى.

ج ـ عدم وجود الكتاب في منافذ بيع في مدن وبلدات وقرى كثيرة، وحتى في أحياء من مدن كبرى.. الأمر الذي يشكل صعوبة في التواصل مع الكتاب المنشور، وصعوبة في الحصول عليه.

د ـ قلة التعريف الموضوعي بالكتاب، وضعف الدعاية العامة للكتب، وشيوع أساليب غير صحية في الدعاية لهذا الكتاب أو ذاك، هذا المؤلف أو ذاك. وترويج أحكام " إيجابية أو سلبية" بوسائل عديدة منها الإعلام، حول كتب ومؤلفين، وهي في الأغلب الأعم أحكام لا تأتي نتيجة قراءة نقدية منصفة يقوم بها مختصون موضوعيون أكفاء.

هـ ـ ضياع كثير من وقت المواطن العربي في البحث عن لقمة العيش، أو أشكال هدر الوقت وعدم استثمار الزمن، وقضاء ساعات في الفرجة على التلفاز، أو في المقاهي أو في أماكن تسلية أخرى.   

و ـ قصور كتب عن مجاراة التقدم المعرفي، لأسباب منها عدم المتابعة والقصور عن تقديم معرفة وعلم متقدمين بأساليب مقنعة ومغرية وبسيطة، تغني عن مصادر أخرى أو تغري بتفضيلها على قنوات وأوعية معرفية وأساليب تحصيل مغايرة.. كتب تروي شغف المواطن إلى المعرفة وتشده إلى الكتاب، وتجعله لا يجد حاجته ومنفعته ومتعته وراحته في أية واحة أخرى مثلما يجدها في الكتب. وهذه مسؤولية مشتركة للمؤلفين والناشرين والقائمين على التخطيط وصناعة الكتاب في الوطن العربي.

ز ـ خلل السياق الاجتماعي والوظيفي والسياسي العام.. الذي لا يجعل تقدير الأشخاص وإسناد الأعمال والمهام إليهم على أساس من توافر المعرفة والثقافة والعلم والقيم والكفاءة العامة.. وذلك نتيجة فساد في المعايير وفوضى في الأحكام، وشيوع علاقات اجتماعية مريضة وأمراض اجتماعية وسياسية التي لا تحترم تراتبيات المعرفة والثقافة والأداء الحسن والقدرة والتميز، بل تكيل بمكاييل أخرى.. الأمر الذي يجعل المعرفة والثقافة والعلم والقدرة على التحصيل.. إلخ ليست ذات قيمة مفصلية تفضيلية في تقويم الأعمال والأشخاص في كثير من المواقع والحالات.. وربما تساهم في إشاعة القول بأنها توجهات لا تطعم خبزاً، كما يقال، ولا ترفع شأناً، فينصرف أشخاص كثر إلى أمور أخرى وأساليب ووسائل لكسب العيش وتحقيق الذات والحصول على متطلبات الحياة.. وذاك يدخل في تكوين أس البلاء ويشكل بعض مكامن الداء.

بيروت في 2/10/2009