خبر « رحلة في حياة الشهداء الأحياء » .. مقاومون على طريق الشهادة ويعيشون حياتهم الخاصة

الساعة 09:02 ص|29 أغسطس 2009

يحيون حياتهم الخاصة.. مقاومون على طريق الشهادة (رحلة في حياة الشهداء الأحياء)

فلسطين اليوم- (تقرير خاص- محمود أبو عواد)

هم ثلّةٌ من البشر، يعيشون أجواءً حياتية تميزهم بعض الشيء عن الآخرين، تجدهم بين الناس في كل مكان من الحياة العامة، ولكنهم يعيشون دوماً جواً من الحياة الخاصة.

 

فيمضون نهارهم الطويل وهم يتنقلون بين جنبات تلك الحياة، فتارة تجدهم يتلون القرآن، وتارةً أخرى تجدهم في المقابر، يجلس كلٌ منهم بجانب قبر حبيبٍ افتقده ويبكي رحيله، وفي بعض الأحيان تفتقد وجودهم ليتبين لك فيما بعد أنهم يلجئون لعملٍ ما يحبذونه ويتقنون عمله على الدوام.

 

وفي ساعات الليل الحالك يلجئون للقيام والدعاء وقد غطت الدموع لِحّاهم، وتجد آخرين منهم يرتدون لباسهم العسكري ويمتشقون سلاحهم ليرابطوا على الثغور، وخلال رحلة مسيرتهم إلى نقاط الرباط المخصصة لهم تجد أعينهم تفيض من الدمع وهم يتذكرون لحظات أحبةٍ عاشوا الحياة بِظلالهم وكانوا يخطون في الليالي الخوالي طريقهم معاً إلى ما كانوا يتشوقون إلى فعله ليلةٍ بليلة قبل أن يفتقدوهم شهداء في سبيل تحقيق أهدافهم.

 

وكثيراً تجد ما يُميز تلك الثُلّة من المجاهدين عن غيرهم، حتى بات يُطلق عليهم لقب "الشهداء الأحياء"، لكثرة التزامهم الديني، فتجدهم يتصدرون الصفوف الأولى في المساجد عند أداء فريضة الصلاة، ولا يخطون خطواتهم اتجاه أيِ من الأماكن إلا وتجد آذانهم تطربها أناشيد من الإيقاع الخاص بحياة هؤلاء الشهداء.

حياة التميز

ولعل ما ميز أيضاً هؤلاء الثُلّة من البشر، ابتساماتهم الصادقة، وضحكات وجوههم على الدوام، والإقبال الشديد على مضي غالبية أوقاتهم بين زيارات الأحباب، وتلاوة القرآن وصيام النوافل وغيرها الكثير.

وفي حديثٍ طويل مع عددٍ من هؤلاء المجاهدين، تمكنا من رصد عدد أكبر من خصال حياتهم التي تميزهم في قليلٍ من الأحيان عن حياة الآخرين؛ وعن حياة التميز تلك يقول "أبو إبراهيم" وهو قائد ميداني بسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي "عندما نتحدث عن هؤلاء العناصر من المجاهدين فإننا نتحدث عن أناسٌ اشتروا الحياة الآخرة وشمروا عن سواعدهم في سبيل أن يحققوا أهدافهم في الحياة بنيل رضى رب العالمين عنهم ولا نوصفهم إلا بالجيل القرآني الذي يمشي على الأرض لكثرة التزامهم الواضح بتعاليم دينهم وحبهم للجهاد في سبيل الله والتقدم بالصفوف الأولى في كل عمل يُرضي الله سواء كان ذلك في أداء فريضة معينة أو في عمل جهادي معين كالتصدي للتوغلات الصهيونية واستعدادهم للاستشهاد في سبيل الله".

 

ويتابع "كما أنهم يتميزون بإتقان الحياة الدينية، والعيش مع أحبائهم الآخرين، ونجد الغالبية منهم من أصحاب الهمم العالية على الدوام، وذو همةٍ وروحٍ ملؤها السعادة، فلا يكنون بالٍ لما يصيبهم من حزن أو أذىً، ويحتسبون ذلك في سبيل لذة طاعة الله".

ويواصل "وتجد هؤلاء الإخوة من المجاهدين ينتظرون عملاً استشهادياً، ويتسابقون في أن يكونوا ممن تم اختيارهم لمهمة العمل الاستشهادي، وتجد فيهم الحماس والقوة والإقبال الشديد على خوض أي تدريبات مهما بلغت قسوتها وصعوبتها حتى يثبت كلُ منهم جدارته بالثقة المثقلة عليه، وفي تلك اللحظات يعيشون أجواء من الحياة الأكثر سعادةً بالنسبة لهم وهم يتخطون العّد التنازلي لتحقيق أهدافهم في تنفيذ عمل استشهادي ينالون فيه شهادة الحق".

تجربة خاصة

ويعيش "أبو عبد الله" أحد مجاهدي سرايا القدس، تجربة خاصة مع نفسه بعد أن فقد عدداً من أحبائه شهداء على فترات متتابعة وسريعة، فيقول "لقد فقدت عدداً من أحبائي والذين أعدهم أخُوة لي، وتربطني بهم علاقات واسعة وكثيرة، وافتقدهم على الدوام ولا تمضي ساعة إلا وأذكرهم في كل عمل أهُم بتنفيذه وأتمنى لو كانوا أحياء يشاركونني تلك الأعمال".

وحول علاقاته المميزة بأكثر هؤلاء الشهداء، يضيف قائلاً "لعل علاقتي الأكثر ترابطاً كانت مع الشهيد القائد مهدي الدحدوح، الذي افتقدته في أكثر الأوقات وكنت بحاجة إليه، فكنا أكثر من الأخوة الحقيقيين، لا ننام ولا نتناول الطعام ولا يصل أحدنا الآخر لعملٍ ما إلا ونحن الاثنان نرافق بعضنا البعض، ودوماً نحافظ على صلاة القيام معاً وعلى الصيام يومي الاثنين والخميس".

ويتابع "كما إننا كنا نقوم بدعوة أحبائنا المقربين منا للصيام في تلك الأيام ونعمل بين كل فترة وأخرى لأن تكون متقاربة جداً مع سابقتها إفطاراً جماعياً، يتبعه صلاة القيام في ساعة متأخرة من ذات اليوم، ونلجأ في كل يوم لزيارة أحبائنا وإخواننا من أبناء المساجد وإخواننا المجاهدين".

وبابتسامة عريضة يملؤها الاشتياق يواصل "أبو عبد الله" حديثه، "كثيراً ما أتذكر أخي وصديق عمري "مهدي"، وكثيراً ما أفتقده خلال خروجي للرباط على ثغور حي الزيتون، أو خلال عمليات جهادية أخرى أذكر فيها شجاعة وبسالة هذا البطل الذي لم يتوانى يوماً عن الخروج للجهاد في سبيل الله بالرغم من كل المخاطر التي قد يتعرض لها أيٌ من المجاهدين أثناء أداء مهامهم".

تمنيات بالشهادة

وعلى اختلاف تجربة "أبو عبد الله"، وفي إحدى أحياء المحافظة الوسطي بقطاع غزة، كان لـ "أبو جعفر" من القيادات الميدانية لسرايا القدس تجربة أخرى حين فقد رفيق حياته القائد الميداني بسرايا القدس "محمود الحاج"، والذي استشهد خلال مهمة جهادية شرق منطقة جحر الديك.

ويقول "أبو جعفر" الذي تجده كثيراً يرتدي ما يُعرف بـِ "طاقية الزرقاوي": "صُعقت حين سمعت نبأ استشهاد رفيق حياتي أبو إسلام، وبقيت بجانب جثته في مستشفي شهداء الأقصى لحظات طويلة أبكيه كما يبكي الطفل على فقدان والده، فلقد كان أكثر من أخ بالنسبة لي وعشنا أجمل لحظات الحياة معاً، وكثيراً ما خرجنا للجهاد في سبيل الله معاً".

 

ويتابع "وبعد استشهاده لم أنقطع عنه، حيث أنني أزور قبره في مقبرة النصيرات خلال الأسبوع الواحد من مرة إلى ثلاث مرات أسبوعياً، كما إنني أحافظ على علاقة طيبة مع أشقائه ووالده، وألجأ لزيارتهم من آن لآخر إلي جانب عدد من إخواننا وأحبائنا".

 

وبالرغم من زواجه الحديث، أعرب "أبو جعفر" عن تمنياته بنيل الشهادة، واللحاق برفيق دربه، مشيراً إلى أنه كثيراً ما تأثر برحيل الشهيد "محمود الحاج"، وأنه رُزق بطفل أسماه "محمود" وأطلق عليه لقب "أبو إسلام" رغم صغره تيمناً برفيق حياته.

 

وأضاف وقد بدت عليه ملامح الحزن، "تمنيت لو أن أبي إسلام عاش إلى جانبنا لحظات الحرب الأخيرة على القطاع، فقد كان رجل المهمات الصعبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وكنت بحاجة إلي مثل هذا الرجل ليشد من أزرنا، فقد كان يشد من عضدي ويُحمسني للجهاد في سبيل الله وعدم التخاذل والبحث دوماً عن أهدافي في مشروع المقاومة باستهداف الاحتلال أينما أتيحت لي تلك الفرصة".

 

وختم "أبو جعفر" حديثه بالقول "إن الحياة بهذا الجو الخاص من حياة ممن سبقونا من الشهداء لهي حياة لها ذوق خاص، تجد فيها الإخلاص بالطاعة والعمل ولذة بالطاعة والجهاد في سبيل الله والوصول للمنازل التي وصل إليها ممن سبقونا للجنان".

 

طّرب الرحيل

وخلال تلك الرحلة الطويلة مع هؤلاء الشهداء، كان لا بد لنا من أن نجد من ميزة أخرى لدي هؤلاء الرجال، الذين كثيراً منهم تطربهم نسمات الراحة النفسية ولذة الطاعة بأناشيد ملؤها حب الشهادة والرحيل للجنان بجانب الصحب والأحباب.

 

فعلى نغمات نشيد "يا إخوتي لا تحزنوا إني شهيد المحنة.. آجالنا مكتوبة ولقاؤنا في الجنة" التقينا بـ "أبو البراء" أحد مجاهدي سرايا القدس من رفقاء الشهيد المجاهد "محمد مهنا" من حي تل الإسلام جنوب مدينة غزة.

 

ولدى وصولنا إليه فإذ به يُغلق تلك الأنشودة عن هاتفه النقال، لتقف تلك الكلمات الحزينة التي أرهفت قلوب المجتمعين لجمالها وقوة لحنها وعذب صوت مُنشدها، فأطربنا "أبو البراء" بنفسه بكلماتٍ عن حياته الخاصة بعد رحيل أحد أعز رفاق دربه الشهيد "أبو مالك"؛ فيقول "لقد ربطتني برفيق دربي الشهيد "محمد" علاقة متينة تميزت بمراحل مختلفة من الصداقة والعمل التنظيمي إلي العمل العسكري الذي ربطنا بشكل روحي فيما بيننا وفتح أمام ناظرينا حياة مختلفة من السعادة الحياتية والتغلب على صعابها رغم كل الظروف التي كانت تحيط بنا".

 

ويضيف "لقد مرت تجربة العمل العسكري مترافقة بعمل إيماني روحاني لا مثيل له، فالليلة التي لا نجد أنفسنا فيها نحرس في سبيل الله على رباط الثغور، نجد أنفسنا نعمل على طاعة الله بقيام النوافل وصيام بعض أيام الأسبوع والإقدام على زيارة الأحباب والإخوة والإشراف على تحفيظ مجموعات من الأشبال أجزاء القرآن الكريم، وتحفيزهم من خلال توفير الجوائز لهم من أموالنا الخاصة ومما يجود به أهل الخير علينا".

 

ويتابع "لقد فقدت الشهيد محمد مهنا، بعد أن أدى واجبه الديني والإيماني، ليخرج في سبيل الله مجاهداً وبعد أن تمكن من قصف مغتصبة سديروت استهدفته قوات الاحتلال فارتقى شهيداً، وبرحيله فقدت جزءً كبيراً من حياتي، لكن لم يحدني ذلك كي أتنحي جانباً عن إكمال مسيرة هذا البطل الذي أثّر بي كثيراً".

 

ويواصل "أقوم من فترة لأخرى بزيارة قبره في مقبرة الشهداء بحي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وأجلس بجانب قبره ساعات طويلة، فأقرأ القرآن تارة، وتارةٍ أخرى أدعو له، وأحياناً كثيرة ما أشكو إليه هموم أمتنا، ولا أذكر أبداً أنني بكيت عليه سوى يوم استشهاده، ثم أصبحت أكثر قوةً وأكثر حماساً في أن أواصل دربه وأسير على خطاه".

 

ويشير "أبو البراء"، إلي أنه يُقدم على زيارة والدي الشهيد "أبو مالك"، على الدوام وبشكلٍ مستمر، ويطمئن عليهم ويقدم لهم - قدر الإمكان - من الخدمات التي يطلبونها، موضحاً أن الشهيد "محمد" هو الابن الوحيد لوالديه.

 

وتمني المجاهد في السرايا "أبو البراء" في ختام حديثه أن يرزقه الله الشهادة في سبيله، وأن يلحقه برفيق دربه الشهيد المجاهد "محمد مهنا".

 

صور أخرى

كل هذه الصور والشهادات عن حياة هذه الثُلّة من المقاومين، أو ما يُطلق عليهم لقب "الشهداء الأحياء"، لا تزال بسيطة أمام العشرات من تلك الشهادات، فكثيراً ما نجد من المرابطين على الثغور يخرجون إلى نقاط رباطهم وهم يطربون آذانهم وقلوبهم بآيات الذكر الحكيم، أو بأناشيدٍ من طرازٍ خاص تحثهم على الجهاد في سبيل الله والمضي في طريق الجهاد حتى نيل الشهادة التي هي أكثر ما يتمنون الوصول إليها بلقاء الأحباب والصحابة رضوان الله عليهم في جنان الخلد واللقاء مع رسول الأمة "محمد" (صلى الله عليه وسلم).

 

كما نجد كثيراً من تلك الثُلّة من المجاهدين يتحدثون عن أحلامٍ راودتهم خلال منامهم، إما باستشهادهم أو استشهاد أحدٍ من رفاقهم فلا يفزعون بها ويبقونها بقلوبهم خوفاً من كونها لربما أضغاث أحلامٍ قد تصيبهم، فتصدق أحلامهم تلك كثيراً وتتحقق أمانيهم بشهادةٍ قد كتبها الله لهم، فينتقلوا من حياة الشهداء الأحياء بالدنيا إلى شهادة الحق بجنان خُلدٍ واسعة بها ما طاب لهم من الحور العين والأحباب والصحاب الكرام وعلى حوض الرسول يكون الختام في حياة الخلود التي سعوا لها فكانوا ممن استحقوها ورضي الله عنهم فأسكنهم النعيم على الدوام.