خبر هل بات الانسحاب من غزة « خطيئة » لن تتكرر؟ ..عدنان أبو عامر

الساعة 10:22 ص|23 أغسطس 2009

هل بات الانسحاب من غزة "خطيئة" لن تتكرر؟

عدنان أبو عامر 

ـ الجزيرة نت 22/8/2009

"كان الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة قبل أربع سنوات خطأ لن يتكرر، وهو لم يجلب لنا السلام والأمن، حيث تحول القطاع إلى قاعدة تسيطر عليها حركة حماس"، كان هذا تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الذكرى السنوية الرابعة للانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة.

دور المقاومة

المتابع للسنوات الأربع التي انقضت منذ تطبيق أول انسحاب إسرائيلي من أراض فلسطينية تحت وقع ضربات المقاومة بدون اتفاق، يرى حجم "الندم" الذي يبديه الإسرائيليون جراء هذه الخطوة غير المسبوقة التي أقدم عليها رئيس الحكومة الميت سريريا أرييل شارون.

ورغم أن الانسحاب جاء من غزة لكي تكون إسرائيل بمنأى عن خوض أي مواجهات عسكرية فيها، فإنها شكلت المنطقة الأكثر إيلاما ووجعا لها في المواجهة الأخيرة، وهو ما يطرح السؤال التالي: هل كان شارون سيتبنى ذلك الانسحاب لو قدر له أن يرى الواقع الأمني اليوم في غزة؟

علما بأن الغطاء الذي منحته خطة الانفصال عن غزة تمثل في توجيه ضربة عسكرية ساحقة إذا ما تم خرق أي تهدئة تتبع الانسحاب، وهو ما يلزم تركيز قوات عسكرية كبيرة ذات قدرات تدريبية عالية، إلا أن ذلك لم ولن يسفر بالضرورة عن تحقيق الأهداف الموضوعة سلفا، في ضوء عدم القدرة على "تقييد" حركة قوى المقاومة في تجهيز ذاتها وقدراتها القتالية، وهو ما أثبتته عملية الرصاص المصهور.

وهكذا تأتي الذكرى السنوية الرابعة للانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، الذي حدث في خريف عام 2005، باعتباره السابقة الأولى فلسطينيا لانسحاب إسرائيلي من أراض فلسطينية محتلة، بعد أن حققت المقاومة اللبنانية السابقة الأولى عربيا من خلال الانسحاب الإسرائيلي من معظم أراضيها صيف عام 2000.

وبتنفيذ هذا الانسحاب القسري، تمكنت انتفاضة الأقصى ومقاومتها من تجميع عدد من الإنجازات المهمة من خلال العمليات التي نفذها رجال المقاومة، مما مكنها من الانتقال خطوة متقدمة إلى الأمام، ودخول مرحلة نوعية جديدة من المقاومة، بعد أن حققت أول إنجاز ميداني تمثل بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة تحت ضرباتها.

فمنذ اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة 28/9/2000 وحتى منتصف سبتمبر/أيلول 2005 حيث انسحاب الاحتلال من غزة، تمكنت المقاومة من تكبيد الاحتلال جنودا ومستوطنين خسائر فادحة، سواء على الصعيد البشري أو العسكري أو الاقتصادي.

وبالفعل، كشفت أحداث المقاومة المتواصلة أنه لم يعد هناك مكان أو مدينة أو شارع في دولة الاحتلال آمنا، وفي الوقت الذي تقلصت فيه "سلة الأهداف الإسرائيلية" للانتقام من الشعب الفلسطيني، لا تزال "سلة أهداف المقاومة" عديدة ومتصاعدة، لأن هدفها بات التحرير، لمرحلة ما بعد الانسحاب من غزة.

والناظر لأربع سنوات منذ الانسحاب الإسرائيلي القسري من قطاع غزة، يخرج بقناعة موضوعية أن هذا الانسحاب لم يشكل نهاية لمعاناة الجيش الإسرائيلي والمستوطنين من ضربات المقاومة، على العكس من ذلك، فمنذ اللحظة الأولى للانسحاب، بدأت التحذيرات تصدر من الأوساط العسكرية من تزايد المخاطر الأمنية على الحدود خلف خط الهدنة، وجاءت التهديدات من عدة مصادر عسكرية وأمنية.

فقد أكد مراقبون إسرائيليون أن المستوطنات الواقعة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، أصبحت مكشوفة أمام صواريخ المقاومة، بل وأصبحت في مرماها، ونوهت إلى أن هذه المستوطنات أصبحت في دائرة الخطر من "الأنفاق المفخخة" التي ابتكرتها فصائل المقاومة، وهو ما قد تلجأ إليه في حال تنفيذ اعتداءات إسرائيلية ضد الفلسطينيين، إن كان في الضفة أو في غزة.

وبالتالي فإن قراءة موضوعية لتجربة المقاومة بعد الانسحاب من غزة، تشير إلى أن هذا الخيار فرض نفسه على الفلسطينيين بعد اتفاقية أوسلو فرضاً، بعد فشل البديل التفاوضي في تحقيق الحد الأدنى من الآمال والأحلام الفلسطينية من جهة، وضعف الإرادة العربية والدولية اللازمة لتطوير الفعل التفاوضي فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي على نحو يستجيب للمصالح الفلسطينية في حدها الأدنى من جهة أخرى.

وبسبب غياب الإرادة الإسرائيلية لتوفير حلول معقولة لقضايا الحل النهائي، وتطوير مرحلة الحل المؤقت باتجاه إيجابي يشجع على عملية التفاوض من جهة ثالثة.

التمسك بالضفة

حفلت السنوات الأربعة الماضية بتصريحات إسرائيلية أكثر في حدتها من إعلان "نتنياهو" الأخير، تعرب جميعها عن خيبة أملها من الخطوة "الخطيئة" التي أقدم عليها شارون، الممثلة بالانسحاب من غزة، وغياب أي فرصة لانسحاب إسرائيلي مماثل من الضفة الغربية.

ومع ذلك، تستحق المناسبة أن نورد عددا من هذه الاعترافات "النادمة"، لعل أبرزها ما جاء على لسان رئيس هيئة الأركان السابق ووزير التهديدات الإستراتيجية الحالي موشيه يعلون حين قال: "بعد أعوام من الانسحاب من غزة لم تهنأ إسرائيل بالراحة، على العكس من ذلك، فقد حل في المشهد القائم صورة جديدة، وهي رعب المختطف "جلعاد شاليط" إزاء رعب المصابين الفلسطينيين، ورعب سديروت إزاء رعب بيت حانون، ونار صاروخ القسام إزاء نار المدفعية، وحلقة مفرغة من العنف الذي يزيد العنف، والقتل الذي يعاظم القتل، وإحساس متزايد بأن وحل غزة حل محله وحل "حدود غزة". وبالتالي فإن النظرة الحقيقية لفكرة الانفصال لا تعني سوى خضوع ومشجع "للإرهاب".

إلى جانب ذلك، يعدد الإسرائيليون الأخطاء التي جنتها تل أبيب من الانسحاب من غزة، الذي اعتبروه خطأ إستراتيجيا في أعلى رتبة، ومنها:

- ضياع جميع الأملاك التي جمعتها إسرائيل في سنوات الحرب.

- الإفضاء إلى فوز حماس في الانتخابات، وتغذية النضال الفلسطيني لسنين طويلة.

- نشوء إحساس عند الإيرانيين والإخوان المسلمين والقاعدة بأنه يمكن الانتصار على إسرائيل، لأنها في الحقيقة مجتمع "خيوط عنكبوت" كما سماها حسن نصر الله، وشجرة متعفنة كما قال أحمدي نجاد.

- الانسحاب من غزة الذي صوره الفلسطينيون وعلى رأسهم خالد مشعل على أنه هروب تحت نار المقاومة، لم يضر بإسرائيل إضرارا شديدا فقط، بل أضر أيضا بالإستراتيجية الأميركية الإقليمية لمحاربة "الإرهاب"، وبالتالي نشأ إحساس عند الإسلاميين بأنهم كما هزموا السوفيات في أفغانستان، فإنهم هزموا إسرائيل في غزة، وسيهزمونها في الضفة الغربية وتل أبيب أيضا.

- الانسحاب من غزة أعاد تكرار سيناريو جنوب لبنان، فقد دخل غزة سلاح كثير، ومواد متفجرة ذات نوعية عالية، وصواريخ كاتيوشا، وصواريخ مضادة للطائرات والدبابات، وصواريخ غراد، وهكذا أصبح قطاع غزة دولة لحماس، وهي ما يطلق عليها الإسرائيليون "حماستان".

في المقابل، فإن يوسي بيلين زعيم الحمائميين في إسرائيل، وتربطه علاقات حميمية مع المفاوضين الفلسطينيين منذ اتفاقية أوسلو، أكد أن الانسحاب من غزة عمل على تقوية من وصفهم بـ"المتشددين" الذين لا يريدون محادثات السلام، هذا هو ما حدث بالضبط.

فقد أثبت الانسحاب أنه يمكن بالعنف الحصول على ما لا يمكن الحصول عليه بالتفاوض، وأن عشر سنين من التفاوض لم تفضِ إلى نتائج خمس سنين من الانتفاضة والمقاومة، ولم يقبل أي فلسطيني الحيلة التي تقول إن الانفصال نبع من تقدير إستراتيجي عميق لشارون، لأنهم رأوا في الانسحاب خضوعا لـ"حماس".

ويشير بيلين: لقد لعب الانسحاب لصالح حماس الذي استعملته دليلا على أنها هي فقط تستطيع تحرير المناطق، وجاء الانسحاب ليمنحها امتيازا عظيما، والإسرائيليون على يقين أن الانسحاب أفضى إلى تعزيز قوة حماس.

وكان من نتائج الانسحاب نشوء استنتاج عند كثير من الفلسطينيين بأن اليهود يفهمون لغة القوة فقط، وأن استعمال القوة فقط ومزيد من القوة سيخرج إسرائيل من الضفة الغربية، على نفس الصورة التي خرجت عليها من غزة.

أكثر من ذلك، فقد أعلن شمعون بيريز أخيرا، وهو أكثر المتحمسين للانسحاب من غزة قائلا: لو نجحت خطة الانفصال عن غزة فعلا، لكنا قد كررناها في الضفة الغربية، ما يشير إلى أن المنطق الذي كان يحفز الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب بين الحين والآخر، آخذ في التراجع رويدا رويدا.

بهذا المعنى أو ذاك، تشير المعطيات السياسية والجيوإستراتيجية في الأراضي المحتلة، إلى أن إمكانية تكرار سيناريو الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية، أمر يقترب من الوهم بنظر مروجي مشروع التسوية، والكابوس بنظر الإسرائيليين.

"جائزة" حماس

حفلت الساحة الفلسطينية بالعديد من التطورات المتلاحقة منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة، جاءت معظمها لصالح قوى المقاومة، وتراجع تيار التسوية، ما دفع بالمراقبين للقول بما لا يدع مجالا للشك إن جل هذه التطورات جاءت كنتيجة طبيعية للانسحاب، ومن هذه الأحداث:

1- فوز حركة حماس في الانتخابات البرلمانية أوائل 2006، أوجد ظرفا سياسيا جديدا، عمل على تعقيد الواقع الفلسطيني من وجهة النظر الإسرائيلية.

2- كبديل عن تواصل الاحتكاكات الداخلية بين الفلسطينيين في غزة، لجؤوا إلى رفع مستوى المناوشات والتحرشات مع إسرائيل، عبر مواصلة إطلاق الصواريخ والقذائف تجاه المدن الإسرائيلية.

3- سيطرة حركة حماس على قطاع غزة أواسط 2007، ما أسفر عن واقع سياسي جديد عمل على خلط الأوراق في إطار المفاوضات السياسية من جديد، ولاسيما ما كان قائما وإلى عهد قريب حول الوحدة الجغرافية القائمة بين قطاع غزة والضفة الغربية.

وهكذا تسببت الانسحابات أحادية الجانب التي قامت بها إسرائيل بـ"ورطة إستراتيجية"، وأضرار فادحة عبر عنها الباحث الإسرائيلي البارز "د.شموئيل إيفن" في دراسته الأخيرة عن الانسحابات الإسرائيلية من لبنان وقطاع غزة، تجلت في المجالات التالية:

1- في الجبهة الغزية التي انسحبت منها إسرائيل، تنامت التهديدات الأمنية والإستراتيجية على إسرائيل، ففي حين كانت غزة قبل الانسحاب الإسرائيلي جبهة "ثانوية" في المواجهة العسكرية، جاءت عملية "الرصاص المسكوب" الأخيرة لتثبت أن هذه الجبهة تحولت بعد الانسحاب إلى ساحة شديدة الإضرار بإسرائيل، وفي البيئة المحيطة بها.

2- الانسحاب الميداني أضر كثيرا بالصورة النمطية لإسرائيل، ولم يمنحها الفرصة المواتية لوصول مرحلة الحسم النهائي مع حماس بواسطة القوة العسكرية، كما أدى هذا الانسحاب لتقوية التيار الراديكالي في العالم العربي المطالب بإبادة إسرائيل، لأن ما حصل بغزة شكل سابقة تاريخية تمثل بقيامها بـ"تدمير تجمعات استيطانية قامت ببنائها بأيديها"، دون حصولها على مقابل من حماس.

3- إستراتيجية الانسحاب أحادي الجانب، وتنفيذها في أكثر من جبهة، عملت على تقوية صورة المواجهة والنضال الفلسطيني ضد إسرائيل، وما يتضمنه من قيم ومفاهيم: المعاناة، والتضحية، وقوة الموقف، والمقاومة، والالتصاق بالأرض.

4- الانسحاب أحادي الجانب الذي قامت به إسرائيل، لم يوفر الظروف المناسبة والشروط الملائمة لها، ولم يمنحها مزيدا من الخيارات السياسية المحسنة، على العكس من ذلك، فقد أضرت هذه الانسحابات كثيرا في تقديم جدول أعمال سياسي جيد لصالح إسرائيل.

5- خطة الانفصال عن غزة تحديدا، منحت إضافة نوعية تمثلت في "تدويل الصراع"، بمعنى أنها رفعت من سقف تورط وتدخل الدول الأجنبية والأجسام الدولية في النزاع القائم.

6- الانسحاب أحادي الجانب ترك رعاية مصالح إسرائيل الأمنية بيد الآخرين، وفقا لخطيئة "التنسيق الأمني"، كما حصل في مسألة إقامة الجهاز المكلف بوقف ظاهرة تهريب الأسلحة، والترتيبات الأمنية في قطاع غزة، التي كان من المفترض أن تقوم بها إسرائيل في المفاوضات الثنائية.

7- داخل الجبهة الإسرائيلية، فإن الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة جبى من إسرائيل ثمنا اجتماعيا باهظا، وتكلفة اقتصادية أكثر كلفة.

8- لعل "الردع" الإسرائيلي كان أخطر ضحايا الانسحاب، فهو لم يجد طريقه فعلا نحو التنفيذ على أرض الواقع، حيث أثبتت الأحداث أنه بعد الانسحاب لم يكن هناك إثبات فعلي لإعلانات إسرائيل بأنها سترد بصورة عنيفة وفورية ضد أي أعمال عدائية، وتطورات تهديدية ضدها من المناطق التي انسحبت منها.

فيما واصلت حماس تنمية قواتها وتحدياتها أمام إسرائيل، وفي نهاية الأمر، اضطرت إسرائيل لتنفيذ تهديداتها الردعية خلال عملية الرصاص المسكوب، وفيهما دفعت أثمانا باهظة ثقيلة.

أخيرا خلصت المحافل الإسرائيلية إلى عدم وجود مبرر للخوض من جديد في عمليات انسحاب أحادية الجانب، لأن هناك قناعة باتت متوفرة لديها مفادها أن الانسحاب من غزة تم تحت ضغط المقاومة.

وهو ما عزز من قيمتها في معادلة الصراع القائمة، وضرورة النهوض بمستوياتها اللوجستية والتدريبية لمواجهة ساحة الصراع القادمة في الضفة الغربية والقدس المحتلة، كخطوة أولى في رحلة تحرير الأرض، التي احتلت بفعل القوة والقوة فقط، وبالتالي لا سبيل لتحريرها إلا بالمقاومة والمقاومة فقط، هذا هو الدرس الأهم بعد مرور أربع سنوات على الانسحاب الإسرائيلي من غزة، فهل من معتبر؟