خبر الصورة الإحصائية للحركة الإسلامية ..د. رفيق حبيب

الساعة 08:47 ص|19 أغسطس 2009

الصورة الإحصائية للحركة الإسلامية ..

د. رفيق حبيب

 

ـ إسلام أون لاين 17/8/2009

يمكننا النظر إلى الحركة الإسلامية من خلال ما تتبناه من أفكار رئيسية، ومدى شيوع هذه الأفكار في المجتمع، وكذلك مدى شيوع الأفكار التي لا تنتمي للحركة الإسلامية في المجتمع.

وتلك الصورة يمكن أن ترسم لنا مسار تطور التفاعل الحادث بين الحركة الإسلامية والمجتمع، وبالتالي مسار التفاعل بين الحركة الإسلامية والأمة، من خلال وضع تصور عن مجتمع محدد، وليكن المجتمع المصري، على أساس أنه يمكن أن يكون نموذجا تقريبيا لما يحدث في المجتمعات الأخرى.

وحتى نتمكن من رسم صورة تقريبية سنركز على فكرة مركزية محددة، ونرسم لها درجات وجودها على مقياس متدرج، أي مسطرة؛ حتى نتمكن من رسم تصور إحصائي لمدى تواجد كل درجة من الدرجات عبر فترة زمنية؛ لنحدد صورة التحولات الحادثة في تلك الفترة.

ونفترض أن أهم قضية مركزية في مشروع الحركة الإسلامية تتعلق بدور الأحكام الدينية في المجال العام ومدى الالتزام بها، ونفترض إمكانية قياس مدى الالتزام بالأحكام الدينية على مقياس من خمس درجات، يبدأ بأقصى درجات الالتزام، وينتهي بعدم الالتزام.

وحتى نميز بين هذه الدرجات بصورة بسيطة سنحدد درجة الالتزام بمجال الثوابت والمتغيرات؛ حيث إن كل نظام في الحياة له ثوابته أي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها، وله متغيراته وهي القضايا الفرعية التي تتغير من فترة إلى أخرى، ويفترض في كل نظام أن المتغيرات تتبع الثوابت، ويبقى السؤال حول مصدر الثوابت والمتغيرات، ومدى ما يستمد من الدين، باعتباره حكما دينيا، ومدى ما يترك للاجتهاد البشري.

وسنعرف الفئات الخمس كالتالي:

الفئة الأولى: وهي التي تستمد كل الثوابت والمتغيرات من أحاكم الدين، وتعتبر ما تصل له حكما دينيا نهائيا.

الفئة الثانية: وهي التي تستمد كل الثوابت وبعض المتغيرات من الدين، وتترك مساحة للاجتهاد في بعض المتغيرات.

الفئة الثالثة: وهي التي تستمد كل الثوابت من الدين، وتترك كل المتغيرات للاجتهاد.

الفئة الرابعة: وهي التي تستمد بعض الثوابت من الدين، وتترك بعض الثوابت وكل المتغيرات للاجتهاد.

الفئة الخامسة: وهي التي لا تستمد أيا من الثوابت أو المتغيرات من الدين.

بالطبع تحتاج هذه الفئات لتحديد ماهية الثوابت والمتغيرات، ولكن هذه قضية أخرى؛ فالغرض من تلك الفئات هو رسم صورة إحصائية لتواجد الحركة الإسلامية بمختلف تياراتها، وأيضا يلاحظ أن هذا المقياس تم بناؤه على أساس أن المجتمع في غالبه متدين، ودور الدين حاضر فيه، لذا لم يتم تفصيل درجات البعد عن الدين بقدر ما تم تفصيل درجات الالتزام بأحكام الدين في الحياة العامة؛ لهذا نجد أن دور الدين حاضر بدرجة أو أخرى في الفئات الأربع، ولا يغيب إلا في الفئة الخامسة فقط.

ومن خلال نظرية التوزيع الطبيعي الإحصائية يفترض أن يتم توزيع المجتمع على درجات أي مقياس علمي على شكل منحنى يتصاعد ثم يهبط، فيصبح معظم الناس في المتوسط، وبعضهم على الطرف الأيمن، وبعضهم على الطرف الأيسر، فإذا كانت فئات المقياس المقترح دقيقة علميا فسيكون نسب توزيع المجتمع على الفئات السابقة هي: 2.5% في الفئة الأولى، 15% في الفئة الثانية، 65% في الفئة الثالثة، 15% في الفئة الرابعة، و أخيرا 2.5% في الفئة الخامسة.

وعليه يكون هذا التوزيع هو الحالة الطبيعية التي تتحقق في المجتمع، عندما يتحقق فيه قدر معقول من الاستقرار لتوجهاته العامة.

وبما أن الدين يمثل القضية المركزية في مجتمعاتنا، لذا نتصور أن الاستقرار الثقافي والحضاري يتحقق عندما تستقر قضية دور الدين في الحياة طبقا للتوزيع الإحصائي السابق.

مراحل الحركة الإسلامية

وعليه يمكن النظر للمراحل الزمنية المتعاقبة لنرى صورة تلك التوجهات فيها، من خلال تصور افتراضي يطرح صورة المجتمع من خلال صورة الحركات الإسلامية النشطة والفاعلة، وسنضع تصورا لعدد من المراحل، وهي كالتالي:

1. مرحلة السبعينيات من القرن العشرين، وتميزت بظهور حماسي لحركة الصحوة الإسلامية، وانتشار ملحوظ للأفكار الأكثر تشددا، ولهذا نتوقع نسب توزيع للحركات الإسلامية والحركات السياسية الأخرى على المقياس السابق كالتالي: 5% في الفئة الأولى، 35% في الفئة الثانية، 20% في الفئة الثالثة، والفئات الثلاث تمثل الحركة الإسلامية، ثم الفئة الرابعة بنسبة 35% والخامسة بنسبة 5%، وهي تمثل الحركات السياسية الأخرى.

2. مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين ونتصور فيها توزيعا على المقياس بنسب: 5% للأولى، 30% للثانية، 30% للثالثة، 30% للرابعة، 5% للخامسة؛ مما يعني بداية نمو الفئة الوسطى.

3. في مرحلة التسعينيات من القرن العشرين سنلاحظ نموا يؤدي إلى بروز الفئة الثالثة على غيرها من الفئات، ونفترض أن ذلك حدث بنسبة 45% للفئة الثالثة، 25% للفئة الثانية والرابعة، و2,5% للفئة الأولى والخامسة.

وبني هذا التصور على أن عقد التسعينيات والذي شهد المواجهات المسلحة، وشهد بداية المراجعات، شهد بداية تقلص الفئات الأكثر تطرفا على المقياس، لتصبح في معدلها الطبيعي، مع استمرار الارتفاع النسبي للفئات المحيطة بالفئة الوسطى.

4. في القرن الحادي والعشرين وفي عقده الأول نشهد مرحلة التحدي والمواجهة بين الفئات الثلاث الوسطى؛ فنجد تزايدا في الفئة الثالثة يقربها من معدلها الإحصائي الطبيعي، ثم تراجعا لها لصالح الفئة الثانية والثالثة؛ مما يشير ضمنا إلى وجود عوامل تدفع المجتمع نحو توازنه الطبيعي طبقا للتصورات الإحصائية، وعوامل أخرى تدفع المجتمع بعيدا عن توازنه الطبيعي.

في كل الأحوال يفترض أن يكون في المجتمع عدد من التيارات، كما يفترض أن يكون هناك توجه عام سائد يشكل مسار المجتمع ككل، ويضع له ملامح نظامه الاجتماعي والسياسي، وتتشكل منه هوية المجتمع ونمط حياته.

وفي كل الأحوال ستوجد تيارات أخرى تختلف مع التيار السائد في جانب أو آخر. وتلك الصورة توجد بالفعل في معظم المجتمعات؛ وهذا ما جعلها تمثل الافتراض الإحصائي عن التوزيع الطبيعي.

قصدنا من ذلك أن وجود الأكثر تشددا والأكثر تحررا أمر طبيعي، بل إن وجوده لازم لحركة التفاعل والتدافع في المجتمع، بل نقول إن وجود تيار غالب يمثل المجتمع، ويغلب عليه التوسط في المواقف يمثل نتاجا لوجود الغلو في التشدد والغلو في التحرر؛ لأن تلك الاتجاهات هي التي تدفع المجتمع في اتجاهات متعارضة؛ مما يجعل المجتمع يتوافق على وضعه المتوسط الطبيعي، وبالتالي تأتي قوة تماسك الفئة الوسطى من وجود الفئات الأخرى.

وسط الحركة الإسلامية

وفي الحالة الإسلامية يمثل تيار الوسطية الإصلاحية الفئة الثالثة، وهو التيار الذي يواجه تحديات متنوعة؛ بسبب ما يلقاه من ضغوط من التيارات المحيطة به، تحد من قدرته على الوصول إلى أن يكون التيار الغالب لدرجة تجعلنا في كثير من الأحيان نميز هذا التيار بسبب ما يلقاه من اتهامات بالتشدد من المنتمين للفئة الرابعة، وما يلقاه من اتهامات بالتهاون من المنتمين للفئة الثانية.

فالفكرة المعتدلة تعاني عادة من صعوبة تعريف نفسها؛ حيث إن الأفكار الأكثر تشددا أو الأكثر تحررا تكون في الغالب أكثر وضوحا، لذا نتصور أن تبلور الرؤية الشائعة يتحقق، ولكنه يواجه تحديات حقيقية.

ومن الضروري التأكيد على أن مسميات التيارات وتحديد خصائصها ليس أمرا بسيطا، بل إنه جزء من الحالة السابقة على تبلور التيارات في المجتمع واستقرارها، فعندما تستقر الرؤى الأساسية في المجتمع عندئذ يصبح التمييز بينها متاحا، خاصة من قبل المنتمين لها.

التحديات الكبرى

المتابع لمسار التفاعل بين الحركات الإسلامية وغيرها من التوجهات، وبين الحركات الإسلامية وبعضها البعض، وأيضا المتابع لموقف الأنظمة الحاكمة والأوضاع الإقليمية والدولية سيلاحظ حالة من المواجهة المفتوحة بين مختلف القوى، وتلك المواجهة تصب في النهاية في حالة مواجهة شاملة مع الحركات الإسلامية، يمكن أن تؤدي إلى حالتين كلتيهما تمثل مشكلة وأزمة حقيقية للحركة الإسلامية:

الحالة الأولى: هي دفع الحركة الإسلامية إلى مرحلة سابقة من تطورها؛ حيث يصبح توزيع تلك الحركات ومؤيدوها متساويا في الفئة الثانية والثالثة، ويدور حول 30%، ويحدث تنشيط للفئة الرابعة بحركات ذات خلفية إسلامية، أو حركات غير إسلامية، حتى يظل لها حضورها، فتدور حول نسبة 30%.

وبهذا تتحول الصورة لحالة من الثبات؛ حيث لا يوجد تيار غالب أو تيار سائد، وبالتالي لا يمكن حدوث إصلاح وتغيير حقيقي بسبب عدم وجود التيار السائد الذي يعبر عن غالبية المجتمع.

الحالة الثانية: تمثل ما يظهر من ضغط شديد على الحركات الإسلامية، خاصة الحركات التي تنتمي للوسطية الإصلاحية، والتي تعمل في المجال السياسي، والتي تتبنى المنهج السلمي المتدرج؛ حيث يظهر من تلك الضغوط أن المستهدف الحقيقي هو الحركات الإسلامية السلمية، والتي تستند على الدعم الجماهيري، والتأييد الشعبي الواسع، وهذه الحرب على الاعتدال يمكن أن تثمر عن عودة بروز التشدد كما حدث في بداية الصحوة الإسلامية، فتتضاءل نسبة الفئة الثالثة إلى 20%، وتتزايد نسبة الفئة الثانية والرابعة إلى 35%، وبهذا يفقد المجتمع التوزيع الطبيعي حسب المفهوم الإحصائي، وتختل تكويناته؛ حيث يغلب عليه تيارات متعارضة ومتباعدة؛ مما يساعد على تفكيك المجتمعات وإخضاعها للسيطرة الخارجية، ونشر التغريب والعلمنة بها.

فحالة الانقسام والتباعد بين التيارات، وغياب التيار المعتدل الجامع، يؤدي إلى حالة عدم استقرار مجتمعي، تمكن القوى الخارجية من ضرب وحدة المجتمع؛ مما يساعد على اختراق المجتمع سياسيا وثقافيا وحضاريا.

تلك هي التحديات الأساسية التي تواجه الحركة الإسلامية، وأهم تحد يتمثل في تشكل الرؤية المعتدلة الغالبة والسائدة، والتي تمثل رمانة الميزان المجتمعي، والتي تستطيع أن تتفاعل مع القوى التي على يمينها ويسارها، ومنها تتشكل الحالة المجتمعية المستقرة، والتي تؤسس للقواعد العامة الحاكمة للنظام الاجتماعي والسياسي، وأيضا القواعد الحاكمة لتوجه المجتمع المستقبلي، وكلما استقرت الصورة في مجتمع من المجتمعات العربية والإسلامية تزايد احتمال استقرارها في بقية المجتمعات، لتتشكل الحالة السائدة في الأمة كلها، ويبرز تيارها الأساسي؛ لأن غلبة تيار مسألة ضرورية لتوحد توجه الأمة؛ حتى تحقق وحدتها فتصبح قادرة على تحقيق نهضتها.