خبر بأية لغة نفكر نحن؟! ..علي عقلة عرسان

الساعة 12:30 م|24 يوليو 2009

 

 

بأية لغة نفكر نحن؟! ..

علي عقلة عرسان

                                                                              

بأية لغة يفكر معظم أبناء الأمة العربية، لا سيما الأجيال الصاعدة منهم؟ يبدو أن هذا السؤال لا ضرورة له لأن الإجابة عليه بديهية.. ولكنه يصبح لافتاً ومثيراً حين يقترن بإجابة موظفة توظيفاً مدروساً لخدمة أهداف محددة كانت وما زالت لخطط غربية قديمة استؤنف العمل على تحقيقها بقوة منذ عقدين من الزمن مع الهجوم الأميركي على المنطقة العربية مع آل بوش وحلفائهم، وهي خطط تستهدف هويتنا وشخصيتنا الثقافية وعقيدتنا ابتداء من اللغة العربية، ولها تاريخ وبدايات تعود إلى القرن التاسع عشر وعصر سيطرة الاستعمار الغربي على وطننا العربي وبلدان إسلامية كثيرة، سيطرة استعمارية مباشرة، حيث بدأ في حينه التأسيس لإحداث فراغ ثقافي يملأ بالثقافة الاستعمارية، والهجوم مقومات الثقافة العربية وقيمها وعلى اللغة العربية أداة التفكير والتعبير وحامل المعرفة التاريخية، ووصفها بأنها ليست لغة علم ولا لغة عصر، وأنه يجب الكتابة بالعاميات وبالحرف اللاتيني لتتحقق نهضة، وكذلك الهجوم على عصر التدوين، والتشكك بالرواة ليصل التشكيك من الشعر الجاهلي إلى تدوين القرآن الكريم والحديث الشريف..إلخ وذلك تاريخ معروف لم تمت آثاره فيما يبدو، على الرغم من أن التيارات الفكرية الثقافية العربية والإسلامية الأصيلة قد تصدت له وأضعفته، وأن الثقافة القومية بنت على أنقاضه رؤى طموحة بعد الاستقلال والتخلص من الاستعمار المباشر.

إن الدراسات والتقارير والمذكرات والإجابات التي تهيؤها بعض الجهات "المعتَمَدة" لدى مؤسسات أو مراكز بحث أو شخصيات نافذة.. وهي جهات تقدم نفسها بوصفها مرجعيات " موضوعية" لمؤسسات مؤثرة في الحياة العربية، تستمد بياناتها ومعلوماتها ومعطياتها من واقع مفترض تقيمه القوى التي تكمن وراء تلك الجهات لتقدمه أنموذجاً من الواقع العربي يمثله وتستنتج منه خلاصة يبنى عليها. وهي جهات تستمد كل صيغ أدائها من دوائر ضيقة جداً جداً في الحياة المعرفية والتعليمية العربية، وبواسطة عناصر ليست لها تاريخ معرفي يؤهلها لذلك. وتدور تلك الجهات التي يبدو أنها معتمَدة لكي تفكر لنا وتفكر عنا، في دوائر محددة شبه مغلقة، وتؤدي دورها في إطار مرسوم.. وإجاباتها على أسئلة من ذلك النوع الذي أشرت إليه في بداية هذا الحديث، تصبح أشد إثارة وخطورة في ضوء ما قد يبنى عليها وينتج عنها نتيجة حشد التبني لها والدفاع عنها.. وهي جهات تعمل ضدنا، وتمول بأموالنا، وتتغطى بلُحفنا السميكة.. وترمي إلى أن تبعدنا عن أهدافنا السليمة الرامية إلى معالجة قضايا تردي اللغة العربية وأساليب التربية التعليم في وطننا العربي.

تتسلل معطيات بعض تلك المرجعيات عبر برامج لتطوير التربية والتعليم، وأداء المعلمين، وسبل تعليم اللغة العربية والتدريب على تعليمها، وتحديث التعليم.. والطريف أنها تقدم لنا خلاصة رأيها ونتائج تجاربها وأعمالها ومخرجاتها واقتراحاتها أو قراراتها باللغة الإنكليزية.. "صدق أو لا تصدق؟!"، لتقول لنا برصانة مكثفة وتعالم " موضوعي" جلي: "إن معظم الأجيال العربية الصاعدة لا تفكر باللغة العربية"؟. بأية لغة تفكر إذن أو يُراد لها أن تفكر؟ هذا السؤال لا يعني من يقدّمون الإجابات الموظفة توظيفاً مدروساً لأنهم يتجاهلون الواقع الفعلي أو يجهلونه ويبنون على واقع افتراضي، أو على واقع ضيق ويضيق ليتسع أفقاً في نظرهم.. ويصبح أنموذجهم المختار ومختبرهم الذي تعمم نتائجه على العربية وأبنائها وأجيالها.. وهو واقع بعض أبناء جيل عربي أو مساحة اجتماعية لا تكاد تظهر على خريطة المجتمع العربي وعلى خريطة الأداء المعرفي والتربوي والتعليمي فيه.. وهذا قفز فوق الواقع والوقائع، يبني على الاستثناء ويستثني القاعدة..!  لأن معرفة أصحاب التقارير والاستنتاجات والأجوبة لا تعرف شيئاً عن الأرياف والبلدات والأحياء العربية الكثيرة التي تضم معظم سكان الوطن العربي ولا عن الأحياء الفقيرة من المدن العربية.. وما يعني تلك " المرجعيات؟" وأصحاب الإجابات الموظفة لخدمة أغراض وسياسات محددة هو أن يغرسوا في كل مفصل مؤثر من مفاصل حياتنا العربية نصلاً  مسموماً، بالتجاهل أو الجهل للذين يصبحان معرفة عليا، أو يحولون دون المعالجة المجدية لآثار نصل مسموم سبق أن غرس في تلك المفاصل، ومن ثم يزداد حالنا سوءاً، ويمضون هم إلى الخطوة التالية في برنامج محاربة اللغة العربية، وتشويش العقل العربي، وإعاقة النهضة وتضليل القائمين عليها بإخلاص أو إحباطهم، وصولاً إلى تفتيت مقومات الهوية والشخصية الثقافية العربيتين ابتداء من اللغة.

إن الجمهور الأعظم من أبناء أمتنا العربية ومعظم أبناء أجيالها الصاعدة، يفكرون باللغة العربية ويعبرون بواسطتها بصرف النظر عن مستويات التفكير والتعبير فتلك المستويات لها روائز ومعايير ومستويات مرتبطة بالوعي المعرفي والتحصيل وسلامة المنطق وصحة العقل ونضج التجربة وسعة الرؤية.. إلخ، والعربية لديهم هي لغة التفكير والتعبير وحامل الدلالة والمعرفة، ومدخل التواصل مع الناس في المجتمع العربي، ومع من يتقنون العربية من الأجانب، حيث تنضج بذلك الرؤى والتجارب ويتفاهم الناس ويتفاعلون ويتقدمون نحو العمل والإنتاج في كل المجالات ويصنعون تيارا من تيارات الحياة ويعطونها دفعاً وحيوية وربما دفقاً حضارياً وإنسانياً من خلال التواصل والتفاهم والإغناء والاغتناء. قد تكون معضلة الأكثرية العظمى من أبناء العربية هي في التعبير الإبداعي العالي، " فكراً وأدباً على الخصوص"، بلغة عربية فصحى سليمة المفردات والتراكيب والصيغ والأساليب، ولكنها ليست معضلة تفكير بالعربية تستدعي السؤال " بأية لغة يفكرون"؟!.. ذلك لأنهم لو لم يفكروا بالعربية، سواء أكانت الفصحى أو العامية، فبأية لغة يفكرون وهم لا يتقنون سواها؟ وحتى إذا كانت العاميات منتشرة بقوة وكثرة فإن أكثر من 98% من مفردات العاميات الدارجة هي مفردات اللغة العربية الفصحى، ولكن الجمل والتعابير ليست مصبوبة في قوالب لغوية سليمة.. وهذا لا يشكل لغة وإنما لهجة أو لهجات في لغة.. والعامية الدارجة لهجة وليست لغة. أما التعبير بلغة عربية فصحى سليمة التراكيب والمفردات..إلخ، فتلك تصبح مشكلة بعض من يعبرون عن أفكارهم، لا سيما كتابة.. وهذا أمر يتداخل فيه التفكير والتعبير تداخلاً عضوياً، وتحديد قيمته وقدرته ومستواه يتصل بالتعليم والتعلُّم والمثابرة على التحصيل والعمل للوصول إلى أسلوب سليم متميز، من خلال تنمية القدرات والملكات والمعرفة المعلومات والتدبر الشخصي، ومراقبة المعلم للمتعلم والمدرب للمتدرب، ومتابعة المعني بمستوى التفكير وسلامة التعبير بأية صورة من الصور وبأي بعد من الأبعاد.

تلك ليست مشكلة لغة بل مشكلة من يتعلمها ويتكلم بها.. وتوجد في كل اللغات مثل تلك المشكلات.  

إن من يتخاطبون بالعربية في الحياة اليومية ـ باستثناء مساحات اجتماعية عربية ذات مشكلات خاصة وواقع اجتماعي خاص، مثل بعض الدوائر التي تعتمد لغة غير العربية، والمدن العربية التي يزيد عدد المهاجرين الغرباء فيها على 90% من سكانها مثل دبي على سبيل المثال ـ يتخاطبون بلهجة من لهجات اللغة العربية، واللهجة ليست لغة جديدة أو مغايرة، ومن ثم فهم يفكرون بالعربية ويعبرون عن أفكارهم ويفصحون عن أغراضهم ومشاعرهم بها .. أي بلهجة من لهجاتها، وأكرر هنا أن اللهجة ليست لغة بالمعنى الدقيق للغة. أما من يكتبون بالفصحى فقد تكون لدى بعضهم مشكلة تمكُّن من أسلوب التعبير باللغة الفصحى حسب مستوى من التعبير يرتفع أو يتوهج أو يخبو.. إلخ حسب القدرات والملكات. والأسلوب هو الذي يميز كاتباً عن كاتب وأديباً عن أديب.. ومن ثم شخصاً مبدعاً عن شخص مبدع آخر أو عن شخص غير مبدع بإطلاق الكلمة.. والتالي يميز أسلوباً عن أسلوب.. وقد قالت العرب قديماً في النقد الأدبي: "الأسلوب هو الرجل". إن هذه الحالة صحيحة في الكتابة التي تتصل عضوياً بالتفكير، حيث لا يمكن تحديد الحدود الفاصلة بين التفكير والتعبير في أثناء الكتابة، لمن ينتج ثقافة أو يبدع فكراً وأدباً.. ولا يتحدد المستوى إلا من خلال الوعي والتجربة والثقافة والمثاقفة.. إلخ. 

 إن الأهداف النبيلة التي تتبناها مؤسسات عربية كبيرة وشخصيات مؤثرة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وتعمل من أجل تحقيقها بصدق وتصميم وسخاء، هي أهداف عليا للأمة العربية بالنتيجة، وتستحق أن تُخدَم بإخلاص وقوة واقتدار وحماسة لا تفتر.. لأن تحقيق أية خطوات ناجحة على طريقها يمهد لمزيد من الخطوات البناءة والمنقذة على طريق النهضة العربية الشاملة.. وعلى طريق وقف الانهيار العربي في جوانب مؤثرة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية السياسية والثقافية العربية لا تتداركه المؤسسات والجهات الرسمية العربية وحدها أو هي أعجز من أن تتداركه وحدها وتحتاج في ذلك إلى قطاعات أخرى مساعدة، مدنية على الخصوص، ومبرأة من شبهات التوظيف الغربي لتحقيق أهدافه وخططه ضد مجتمعنا.. وهو أمر لا بد منه لكي يبدأ الترميم والبناء. ولا يمكن أن تتم أية خطوات نهضوية فعلية من دون وضع حد لكل شكل من أشكال الانهيار والاختراق في أي جانب من جوانب المجتمع والحياة من جهة، ومن دون استنهاض القوى الخيرة القادرة على العطاء والأداء، وتوظيف القدرات والطاقات والأموال واستثمارها بحكمة ومعرفة وعلم من جهة أخرى.. لتحقيق تنمية دائمة ونهضة شاملة يبنيان على الوعي والانتماء.

وفيما بدا لي مما تابعت أنه لا ينقص القائمين على كثير من مؤسساتنا العربية الخيرة المؤثرة التي تعمل في حقول ثقافية على الخصوص، الوعي بالمشكلات والتحديات والآفاق المطلوب بلوغها بسرعة، ولا الإيمان بالقدرات، والثقة بالمستقبل، والرؤية السليمة.. بناء على معايشة للواقع وتشخيص قد يحتاج إلى مزيد من البحث والمسح والتمحيص والتدقيق.. بعيداً عن المؤثرات العابرة أياً كان لونها وسببها وغايتها.. لا ينقصهم ذلك بمقدار ما ينقصهم من المعطيات والبيانات والدراسات والآراء التي تقدمها بها عناصر أو مراكز أو مرجعيات تعمل في إطار خطط وبرامج خارجية أو غير منتمية عربية بشكل مصيري، أو لا يشغلها إلا المال بالدرجة الأولى، أو تحركها وتدفعها إلى القول والعمل رغبات ومنافع وطموحات وتطلعات خاصة وانتهازية وضيقة.     

إننا بأمس الحاجة إلى أداء ثقافي وتعليمي ومعرفي ومعلومات نوعي سليم وعصري ومتقدم، وإلى تواصل وثيق وبناء بمن يتصلون يومياً، بشمول وعمق، مع الأجيال العربية الصاعدة ويساهمون في بنائها معرفياً وعقلياً، ونحتاج إلى تحسن وضع اللغة العربية ومستويات الأداء ولتلقي بها، وتحديث أساليب التعليم ومناهجه، والتعبير بالفصحى عن الأفكار والآراء، والوصول إلى مستويات أفضل من حيث التفكير والتعبير والتدبير.. وكل ذلك لا يعني ولا يسوِّغ قبول الإجابة على سؤال تقريري افتراضي، أو نابع من بيئة أضيق من ضيقة، تقول: "إن معظم أبناء الأجيال العربية الصاعدة لا تفكر باللغة العربية.".

هذا إذا لم نكن على عتبة دعوى عامة تجعل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي في الوطن العربي يتم بإحدى اللغات الأجنبية، تمهيداً للمراحل الجامعية في معظم الجامعات العربية التي أصبح التدريس فيها يتم بإحدى اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية، ولا تعطي للعربية أهمية تذكر.. وحين نكون عند هذه العتبة أو هذا المفصل من مفاصل الانهيار العربي نقول إن العرب يحفرون قبر العربية ـ قبرهم  ـ بأيديهم، تنفيذاً لمخططات أعدائها.. أعدائهم.

لا أرانا الله ذلك اليوم.

دمشق في 24/7/2009