"الغارديان" تنشر: تخيُّل عالم ما بعد أميركا بات ضرورة

الساعة 11:52 ص|18 ابريل 2025

فلسطين اليوم

نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، مقال رأي يناقش تناقض دور الولايات المتحدة الأميركية في العالم، خاصة في ظل التغيّرات السياسية في عهد دونالد ترامب، وانعكاسات هذا الدور على النظام العالمي. ويعكس النص قلقاً عالمياً من تحوّل الولايات المتحدة من ضامن للنظام العالمي إلى مصدر لعدم الاستقرار، ويدعو إلى تحوّل جذري في كيفية فهم العالم وتنظيمه بعد أفول الهيمنة الأميركية.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

أخبرني مراسل أجنبيّ مخضرم ذات مرة قائلاً: "يتحدّث الناس بألسنةٍ متشعّبة عن الولايات المتحدة". كان ذلك منذ زمن بعيد، خلال نقاش حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة التدخّل في أيّ صراع أجنبيّ، ولم أنسَه قط. وما قصده من ذلك هو أنه كما تُدان الولايات المتحدة لتدخّلها الخارجي في بعض الحالات، فإنها تُدعى أيضاً للقيام بذلك في حالات أخرى، ثم تُحاكم لعدم التزامها بمعاييرها الأخلاقية. ولا يزال هذا التناقض قائماً، وهو أكثر إثارة للقلق مع اقترابنا من اليوم الـ100 من ولاية دونالد ترامب الثانية. فهناك ازدواجية في النظر إلى الولايات المتحدة: دولة تنتهك القانون الدولي عمداً، ودولة قادرة وحدها على الحفاظ على القانون والنظام. إلاّ أنّ هذه الازدواجية، المتوترة دائماً، لم تعد قابلة للاستمرار.

وقد لمستُ هذا التناقض بنفسي، من خلال المطالبة المتناقضة ببقاء الولايات المتحدة خارج الصراع من جهة والغضب من عدم بذلها المزيد من الجهود من جهة أخرى. ففي السودان، ترفض واشنطن، بصورة محبطة، الضغط على حليفتها، الإمارات العربية المتحدة، لوقف ضخ الأسلحة والأموال في الصراع. ولكن، ما الدليل أو السجل التاريخي الذي يدعم الفكرة الوهمية القائلة بأن الولايات المتحدة تهتم بصراع لا مصلحة مباشرة لها فيه؟ إنه توقّعٌ من جهةٍ لا أخلاقيةٍ أن تُمارس الرقابة الأخلاقية، وهو ما أتذكّره منذ الطفولة، بعد غزو العراق للكويت وخوف العالم العربي من وقوع حرب إقليمية. وقد أسكت تعليق إحدى النازحات الساخطات من الكويت نقاشاً حاداً في صفنا بالسودان حول جدوى التدخّل الأميركي، حين قالت إنّ الأهم كان هزيمة صدام حسين. وتتردّد كلماتها في ذهني أحياناً: "علينا أن نواجه الشرّ الأكبر أولاً".

وحتى في غزّة، مع إقرار الكونغرس لحزمة تلو الأخرى من المساعدات العسكرية لـ"إسرائيل" بمليارات الدولارات، ظل هناك بعض الأمل ــ الذي انطفأ منذ فترة طويلة الآن ــ في أن المكالمة الهاتفية مع بنيامين نتنياهو ستجُرى أخيراً. وعلى الرغم من أنّ ترامب يشجّع فلاديمير بوتين، ويتخلى عن أوكرانيا، ويفرض رسوماً جمركية على حلفائه، قد نستشعر قابلية الولايات المتحدة للبقاء كقوة فاعلة يمكنها اللجوء إلى العقلانية، وحتى الأخلاق.

لكن، وللمرة الأولى على ما أذكر، يأخذ النقاش منحىً جديداً. فقد أصبحت الدعوات إلى التمييز بين الرئاسة وغيرها من المؤسسات الأميركية الأخرى الأشدّ صلابة أقل حدّة الآن، في ظل خضوع الجامعات وشركات المحاماة، وحتى بعض وسائل الإعلام، لرئيسها الجديد غريب الأطوار. كما أنّ الأسئلة المطروحة اليوم تدور حول كيف يمكن لأوروبا وبقية العالم أن تبتعد عن الولايات المتحدة، وعن برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الموجودة ضمن ميزانيات الصحة في البلدان النامية، وعن نظامها العالمي للمساعدات العسكرية والردع. ولكنها تبدو أقرب إلى محاولات للتغلّب على واقع من المستحيل قبوله، وليس مجرّد اقتراحات عملية.

إنّ التحدّي الذي يواجهه العالم ماديّ ومعنويّ في الوقت عينه. إذ يصعب تخيُّل عالم ما بعد أميركا، التي صاغت هذا العالم. لذلك، عندما تصبح الولايات المتحدة لاعباً متقلّباً، فإنّ بنية النظام المالي العالمي تبدأ في التمايل. وقد شهدنا ذلك خلال أزمة الثقة بالدولار عقب فرض ترامب رسوماً جمركية في "يوم التحرير". وأصبحت قوة سيادة القانون وفصل السلطات، وهما حجرَا أساس الثقة في الاقتصاد، موضع شك؛ إذ تخوض الإدارة حرباً مع قضائها، ويتفاخر الرئيس بعدد من شاركوه في الغرفة وحقّقوا أرباحاً طائلة من انهيار سوق الأسهم. فهل هذه تجارة داخلية إذا كان مرجعك هو الرئيس؟

بالإضافة إلى ذلك، إنّ المهمة العقلية المتمثّلة في سحب الاستثمارات من الولايات المتحدة لا تقلّ صعوبة. أخبرني صديق يحمل البطاقة الخضراء ولكنه يعيش في ظلّ نظام غير ليبرالي في آسيا أنه في أعماق نفسه كان يشعر دائماً بالحماية من مخاطر السياسة الداخلية في بلاده بفضل معرفته بوجود ملاذ آمن يمكنه اللجوء إليه في حالة تعرّضه للاضطهاد. أمّا اليوم، فلم يعُد الأمر كذلك؛ إذ تُلاحق إدارة الهجرة والجمارك (Ice) المُقيمين والزوّار القانونيين أو ترفض دخولهم عبر الحدود. وأعرف أشخاصاً آخرين ألغوا رحلات عمل إلى الولايات المتحدة خوفاً من ترحيلهم أو إدراجهم في القائمة السوداء. ومع هذا الشعور بعدم الأمان، يتأكّد للكثيرين في الجنوب العالمي، ممن كانوا يعرفون أن حضور الولايات المتحدة ليس محموداً، أن هناك أمراً داخل حدودها الخاصة يكبح جماح تجاوزاتها. إنّ السعي وراء الحرية والسعادة وشعار "أعطني... حشودك المجتمعة" وأيقونة أمل أوباما؛ كلّها معايير قوية ومؤثّرة غدت اليوم مجرّد غبار.

وهناك قلق من تقبّل هذا الوضع. فعلى الرغم من كلّ انتهاكاتها، يُثير ظهور عالم ما بعد أميركا شعوراً بالارتباك. فالعالم الذي لا توجد فيه سلطةٌ نهائيةٌ على الإطلاق قد يكون أشدّ رعباً من العالم الذي توجد فيه سلطةٌ يشوبها الكثير من العيوب. وما يثير القلق هو احتمال حدوث فوضى في عالم جديد خالٍ من أيّ مبدأ تنظيمي في نظام ما بعد الأيديولوجي، حيث كل دولة مسؤولة عن نفسها. وهو ليس نظاماً من الحرب الباردة منقسماً إلى رأسمالي وشيوعي وغير منحاز؛ وليس نظاماً من فترة ما بعد الحرب الباردة منقسماً إلى أسياد ليبراليين غربيين، وأنظمة غير ديمقراطية متنافسة، وأدنى منها.

إنّ ما ينبغي أن يُحدثه انهيار الولايات المتحدة ليس حالة من الإرهاق والحيرة، بل مشروع بناء نظام عالمي جديد نشارك فيه جميعاً. فما تختاره الولايات المتحدة من سياسات خارجية واقتصادية قد يؤثّر على سلة مشترياتك وحدود الدولة القومية التي تعيش فيها. وهي لا تزال أكبر اقتصاد في العالم، وتمتلك أكبر جيش في العالم، وتحتضن أقوى مجمّع ترفيهي في العالم. وبالتالي، فإنّ هذه المركزية، مقترنةً بانهيارها، تكشف عن حقيقة مفادها أنّ المشكلة أعمق من ترامب. إذ لطالما كان العالم مُعرّضاً للخطر الشديد مهما كان الاتجاه الذي تسلكه الولايات المتحدة.

ومن المفارقات أنّ كلّ ما يحدث قد يكون بداية عملية تُفضي إلى "أيام تحرير" حقيقية لدول أخرى، ولكن ليس للولايات المتحدة نفسها. هناك معاناة تنتظرنا، ولكن هناك أيضاً نوعٌ من الاستقلالية. وقبل كل شيء، قد يكون هناك إدراك بأن تعريف الولايات المتحدة للسلام والازدهار كان دائماً تعريفها الخاص، الذي تمّ فرضه بالقوة المطلقة للسلطة والدعاية.

كلمات دلالية