في كل صباح، يستيقظ مئات الآلاف من الغزيين على أمل أن يكون هذا اليوم مختلفًا، أن تأتي الأخبار التي انتظروها طويلًا عن إعادة الإعمار أو توزيع الكرفانات، لكن الأيام تمرّ والوعود تتبدد مع الريح، ففي المخيمات المنتشرة من رفح جنوبًا إلى بيت لاهيا شمالًا، تعيش مئات العائلات بين الأمل والخذلان، مع تزايد المخاوف من تلاعب الاحتلال "الإسرائيلي" بتنفيذ الاتفاقات.
النازحون لا يملكون سوى الصبر، والتشبث بأمل صغير، إلا أن الخوف يساورهم كل يوم يمر دون تنفيذ الوعود، الأمر الذي يجعل مأساتهم أكثر عمقًا، والمستقبل القادم أكثر ضبابية، لا سيما مع تزايد التهديدات "الإسرائيلية" والأمريكية بتهجير سكان غزة إلى دول أخرى.
المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، يؤكد أن ما وصل من الخيام يقدر بنحو 40% من 200 ألف خيمة مطلوبة بشكل عاجل، بينما لم يصل أي بيت متنقل حتى اللحظة.
كومة أنقاض
الحاج محمود أبو جابر (63 عامًا) يجلس أمام خيمته، يلف جسده النحيل بمعطف متهالك، يقول: "منزلي قبل الحرب كان ممتلئًا بالحياة، لكنه اليوم بات كومة أنقاض فوق بعضها البعض.
يتابع بحسرة لمراسل "وكالة فلسطين اليوم الإخبارية": "كل أسبوع نسمع عن تقدم في إدخال المساعدات وحل ملف الإعمار، لكن شيئًا لا يحدث. لا نريد سوى سقف يحفظ كرامتنا، ألا يكفي ما مررنا به؟"
أبو جابر خلال حديثنا معه يحاول إشعال نار صغيرة داخل موقد بدائي لتخفيف البرد القارس، لكن الرياح ما تلبث إلا وتخمدها سريعًا، ينظر إلينا بقهر ويتنهد: "كان المطر يفرحنا في بيتنا، أما هنا فهو نقمة، نعيش بين الطين والماء، والخيمة لا تسترنا من البرد ولا المطر."
إلى جواره، يجلس ابنه سامي صاحب الـ12 ربيعا، يشيح بنظره إلى كومة من الركام القريب ويقول بصوت خافت: "هاد كان بيتنا.. كان عندي سرير، كان عنا باب وبنسكره لنشعر بالدفا."
ورغم مرور أكثر من 26 يومًا على دخول اتفاق وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى بين حماس و"إسرائيل"، إلا أن إعادة الإعمار لم تبدأ بعد، وسط مماطلة إسرائيلية في إدخال مواد البناء وتنفيذ البرتوكول الإنساني حسب الاتفاق المبرم.
الإعمار.. وعد مؤجل
في إحدى مركز إيواء بمدينة خان يونس، يقف النازح زكريا حمدان والذي تدمر منزله بالكامل في ذات المدينة ويقول: "كل يوم نسمع عن الكرفانات، لكننا ما زلنا ننتظر، فالشتاء هنا لا يرحم، والصيف مقبل وسيكون أسوأ."
ويضيف حمدان: "نتابع أخبار توزيع الكرفانات بقلق، لكننا نشعر بالإحباط من غموض آلية التوزيع، ولا نعرف من سيحصل عليها ومتى.. كلنا بحاجة، فالخيام المهترئة التي نعيش فيها ليست حلاً، لا في الشتاء ولا في الصيف."
ويشير المكتب الإعلامي، في تصريح صحفي، إلى أن قطاع غزة منكوب إنسانياً ويحتاج إلى تضافر جهود الجميع لإدخال مستلزمات الإيواء، مبينًا أن الاحتلال يواصل منع دخول المعدات الثقيلة اللازمة لانتشال الشهداء ورفع الركام.
ويلفت إلى أن هناك 1.5 مليون نازح بلا مأوي في ظل هذا البرد القارس والأحوال الجوية السيئة.
مجرد وعود
وفي ركن آخر، يقول النازح أحمد منصور بقهر شديد: "نحن لا نطلب معجزة، فقط نريد سقفًا يحفظ كرامتنا، هل هذا كثير؟ كل أسبوع نسمع عن اتفاقيات، ولكن لا شيء يتغير، مجرد وعود تتبدد مع الريح."
"الخيمة المصنوعة من النايلون والخشب كارثة بحق أطفالي، بالكاد يشعرون بالدفء مع المنخفضات الجوية التي يشهدها قطاع غزة، يتابع : "حين يسمع أطفالي المطر، لا يفرحون كما كان الحال في بيتنا القديم، بل يخافون.. لأن المطر هنا يعني البرد والمرض." تابع لمراسلنا.
ويرى منصور أن عملية الإعمار تسير بوتيرة بطيئة للغاية جراء تلكؤ الاحتلال، ويضيف: "كل يوم تأخير يزيد من معاناة آلاف العائلات، فالاحتلال يستخدم ملف الإعمار كورقة ضغط سياسي، والضحية دائمًا هم الأبرياء الذين يدفعون الثمن."
خطة مصرية
وكشفت مصادر مطلعة عن بعض تفاصيل خطة مصر لإعمار قطاع غزة، والتي تعتمد على تجهيز مناطق آمنة داخل القطاع خلال الأشهر الستة الأولى، تمهيدًا لنقل السكان إليها، على أن يتم توفير مساكن آمنة ووحدات سكنية خلال 18 شهرًا.
وأوضحت المصادر، أن الخطة تشمل رفع الركام من بعض المناطق في غزة خلال المرحلة الأولى، إلى جانب نشر مستشفيات ومدارس متنقلة لتوفير الخدمات الأساسية.
وأشارت إلى أن مصر تخطط لجلب 24 شركة عالمية و18 مكتبًا استشاريًا للمساهمة في تنفيذ مشروعات الإعمار، بدعم عربي وأوروبي، مؤكدة وجود مشاورات بين مصر وعدد من الدول العربية حاليًا للتحضير لمؤتمر إعادة إعمار غزة، والذي سيشهد مشاركة أوروبية واسعة.
ويخوض النازحون حربًا يومية لا سلاح لهم فيها سوى الصبر، يقاومون البرد القارس والمرض لتتكاثر الأسئلة في عيونهم القلقة: إلى متى سيبقى الفلسطيني ضحية الإبادة الإسرائيلية؟ وأي مصير ينتظرهم في قادم الأيام، بعد استشهاد 48,222 مواطنًا وجرح 111,674 منذ السابع من أكتوبر 2023، ناهيك عن الدمار الهائل في البنية التحتية والتجارية والسكنية.