الرصاصات اخترقت جسدها، الدماء تتدفق منها بغزارة، صُبغت ملابسها باللون الأحمر، أنجالها مصابون يفترشون الأرض، أشلاء زوجها تناثرت في زاوية أخرى، حاولت الوقوف رغم الإصابة، تعكزت على عامود الخيمة، وصلت إلى نافذتها، أخذت تراقب المشهد المرعب، وسط ليل كاحل، سوى نيران القنابل وأضواء الانفجارات، تفاجأت بدبابة مسرعة نحوها، اقتربت منها، صرخت بهستيريا "توقفوا..توقفوا، لا تدهسونا.. نحن مدنيون".
حملت طفلتها بيد، الأخرى مصابة تنزف، استغاثت بالدبابة صارخة، إنها طفلة صغيرة" لعلها ترأف بها، لكنّ حقدها كان أقوى من ندائها، دهست جنازير الدبابة جسد الأم حتى منتصفه، هشمت جزءاً كبيراً منه، دُفن جسدها بالرمال الناعمة، ابنتها باتت في حالة نزاع.. هنا تدخلت العناية الإلهية!
الساعة الرابعة والنصف من فجر السادس من يونيو 2023 قرب الحدود الفلسطينية المصرية، لم يكن التوقيت المثالي لأسرة الشابة رجاء الهربيطي (34 عاماً)، كما كان سابقاً، إذ التعبد في تلك الساعات المستجابة، أو الصلاة والأدعية، بل تخضّب فجر ذلك اليوم بدماء معظم أفراد أسرتها المكونة من 6 أفراد، ليرحل زوجها واثنين من أطفالها، وتبقى رجاء معيلة لاثنين ممن نجوا من مقصلة المجزرة.
قُبيل المجزرة
في تلك الليلة، تروي "رجاء": كان زوجي أكرم يراقب بحذر ورعب شديدين الرصاص والقذائف، وهي تنهمر صوبنا من كل صوب وحدب، مشهد قتل الأطفال والنساء والشيوخ، والأشلاء المتناثرة هنا وهناك، ومشهد آخر فزع الناس وهرعهم من الكثافة النارية، ليتسلل الخوف إلى قلبه، ويدور في ذهنه: "من سينقذ زوجتي وأطفالي؟"، لكنه استدرك نفسه على عُجالة، لينشر الطمأنينة بيننا: "لا تخافي الله ما رح يضرنا، رح يقصفوا بيوت وبس".
الدبابات تقترب من خيمتهم الرصاص والقذائف تسبقها، جنازيرها تزنجر الأرض، تخرط الرمال والحجارة بجثث الشهداء، انتابهم الرعب، حوصروا، لا مهرب لهم، صرخت "رجاء" بشكل هستيري، "الدبابة تقترب منّا تريد دهسنا وقتلنا"، هرع زوجها إلى أولاده لحمايتهم من غول حديدي متوحش قادم نحوهم.
لم تغادر "رجاء" وأسرتها الخيمة، واحتموا داخلها، طلبت من أبنائها وزوجها البقاء؛ لأن الخطر يحدق بهم، قرروا ذلك سريعاً، لا خيار آخر أمامهم، مرّت ثوانٍ معدودة حتى باغتتهم الدبابة وداست خيمتهم، خرطت جنازيرها أجسادهم، بترت أطراف زوجها، واستشهد اثنان آخران من أولادها.
عناية إلهية
"دهستني الدبابة، صعدت فوق جسدي، هشمت عظامي، حسيت نفسي في نزاع، نطقت الشهادتين، قلت إن للموت سكرات، ابنتي تنازع، تُخرج بروحها، لكن هنا تدخلت العناية الإلهية، استيقظت بصدمة من "موت مُحقق"، إذ إن جسدي دُفن بالرمال الناعمة، ولم تقطعه جنازير الدبابة، لفتت على يمين الخيمة، وجدت زوجي أربع قطع، ينزف، لكنه حي يرزق، طلب مني السماح، وسامحته، وصعدت روحه إلى ربه". تقول رجاء.
فجأة إبراهيم يخرج من بين جثث والده إخواته يرتجف، يبكي تملؤوه الدماء، تسأله والدته، ماذا بك؟ يجيب، لاشيء سوى أن الخوف سيطر عليه، ثم توجه إلى والدته التي لا يزال نصفها مدفون بالرمال ولا تستطيع الحركة أبداً، بسبب شدة إصابتها، والدماء تتدفق من أنحاء جسدها.
أثناء تبادل الحديث بينهما، سمعت "رجاء" صوت الدبابة قادمة نحوهم مرة أخرى، طالبت "إبراهيم" أن يفترش الأرض، لتحسبه الدبابة ميتاً في هذه الحالة لم يتمالك نفسه من شدة الخوف والهلع، قال لها والدموع تنهمر من عينيه: "ليش بدها تدعسنا كمان مرة هي (الدبابة) جاية علينا؟"، أجابته والدته بـ "نعم" ثم أغمضت "رجاء" عينيها؛ استعداداً للموت، لكّن فجأة تحول الدبابة مسارها في اللحظات الأخيرة، لتنجو "رجاء وإبراهيم".
نجاة
غادرت الدبابة، توقفت أصوات الرصاصات والقذائف، قررت الزحف إلى مكان، عل أحد ينقذها ونجلها، فجأة رأت سيدة تمشي رفقة نجلها، تحمل راية بيضاء، طلبت منها أن تنقل نجلها إلى مكان آمن، أجابتها السيدة باستغرب، إلى أين آخذه؟، أجابتها، بأنه يعلم مكان بيت جده في مواصي خانيونس".
قالت لنجلها "إبراهيم" :إذهب يا إبراهيم، إذهب من السيدة، واحكي لهم، أين مكان خيمة جدك، ثم توجه نحو السيدة، باكياً حافي القدمين غارقاً بدمائه ودماء والده واخواته".
تضيف: "أنقذت ابني أولاً، هنا قررت إنقاذ نفسي، وجاهدت لنبقى أحياء بجانبه حتى لا يبقى وحيداً، في هذه اللحظة، استجمعت قواي التي منحني إياها الله، جسدت حركة السجود ع يدي وقدمي، وقلت لابنتي: (يلا يا عمري اطلعي ع ظهري ضعي يديك على عنقي، حتى ننقذ أنفسنا، وفعلا اعتلت ظهري، وأخذت أزحف، وأنا أنزف، وقطع اللحم تنهمر من رجلي وجسدي، لكني لم أهتم للألم كله، اهتممت بأن أنقذ نفسي وابنتي فقط".
"واصلت الزحف فوق الحجارة ما يقارب ٦٠٠ متر، رأيت شباناً بجانب إحدى الجدران، ظلوا يحاولون الوصل لي وابنتي، ثم تمكنوا من ذلك، حملوني لمنطقة قريبة من منطقة العلم في مواصي رفح، ألقوا غطاء فوق جروحي، انتظرنا ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة، إلى أن أتت سيارة اسعاف، نقلوني داخلها، وأنا أرجوهم بأن يعطوني مسكنات للألم الشديد". كما وصفت رجاء.
وأكملت: "المسعف تحملي قليلاً، لا يوجد أي مسكنات، ثم رفعت رأسي وفتحت عيني، وإذ رأيت أخوي محمد بجانبي داخل سيارة الاسعاف، تفاجأت، وصرخت بدموع: "يمّااا انت محمد أخويا انت محمد"، رد اه يختي متخافيش، سألته عن إبني طمأنني وقال إنه رفقة الصليب الأحمر لفحص جروحه".
نقلوا "رجاء" إلى مستشفى الهلال الأحمر لمدة شهر، خلالها لم تستطع تحريك أي عضو من جسدها، أجرت خمس عمليات جراحية، كانت قدمها معرضة للبتر، غير تهشم عظمها وإصابتها بأجزاء أخرى من جسدها وبعض الشظايا في ظهرها، هي واجهت موت محقق لكن رحمة الله فوق كل شيء".
لا مكان آمن في قطاع غزة، رائحة الموت تفوح في كل مكان، وجنود الاحتلال يتربصون ويتفننون في قتل الأبرياء ويلاحقونهم من منطقة إلى أخرى، ويبقى الفرار من الموت والبحث عن الحياة هو الهدف، طالما بقي الاحتلال يضرب عرض الحائط بكل المبادرات الدولية الهادفة لوقف الحرب.