إعداد/ علاء الهجين وظريفة حسن
"بقليل من الصحة يحاول المسن "سامي محمود العزامي" (70 عامًا) أن يروي رمق النازحين العطشى، الذين حاربهم الاحتلال بتجفيف حلوقهم.
على طريق جامعة الأقصى في مواصي خانيونس، جنوب قطاع غزة، يضع الحاج العزامي ما استطاع من أدوات جلبها من الأسواق ليفتح بها طاولة ماء سبيل.
"صلي على النبي.. واشرب وارتوِ.. مياه سبيل، سبيل، العطشان يميل".. هكذا يستقطب العطشى، منذ أشهر، حتى سكن قلوبهم، قبل أن يروي ظمأهم.
يعود الحاج العزامي، بالذاكرة لأشهر خلت، يتذكر اللحظة التي نزح بها من مدينته غزة، لحظات صمت قليلة، تكسرها كلمة "آآآخ"، والتي أتبعها بقوله: "عندما نزحنا على حاجز نتساريم مشينا كيلوات طويلة والكل كان عطشان ولا ماء لدينا".
لم تختلف رحلة نزوحه هو وأسرته المكونة من زوجتين و8 أبناء و4 بنات، عن بقية النازحين، فقد قذفت بهم الحرب بداية نحو النصيرات، المحافظة الأقرب لحاجز نتساريم ومن ثم رفح فمواصي خانيونس، ولكن الصدمة "أننا رمينا في صحراء"؛ بحسب تعبيره.
وكان الاحتلال قد حدد 10% من مساحة قطاع غزة على أنها "إنسانية"؛ وعلى الرغم من أن مواصي خانيونس مصنفة ضمن هذه المنطقة؛ فإنها لمن لا يعرفها عبارة عن أراض رملية على شاطئ بحر خانيونس خالية من السكان سابقًا، ولا بنية تحتية فيها أبدًا.
"رأيت الناس تلهث عطشى على الطريق، فتذكرت طريق نزوحنا وحينها قررت أن أفتح بسطة ماء سبيل وأكسب أجرها وأجر الصلاة على النبي"، هكذا عبر الحاج سامي عند سؤاله عن بدايته في هذا العمل الخيري.
معدات شحيحة
كان يعلم أن المعدات شحيحية فقد جمع عدة قطع حديدية ووضع عليها لوح من الزينقو واشترى اثنين من جالونات المياه ودلو له صنبور، ولعدم توفر الكاسات في الأسواق أحضر عبوات الصلصة الزجاجية والعسل وغيرها ونظفها واستخدمها كبديل.
نسأله عن روتينه اليومي فيجيب بحسرة، أنه يتمنى أن تأخذ هذه البسطة يومه كله ولكنه يعلل ذلك بأنه رجل مريض فقد تعرض لجلطة قبل ذلك إضافة إلى مرضه بالبروستاتا.
استعداد للعمل
يستطرد في الحديث فيأخذنا إلى لحظة سماع آذان العصر، فيصلي الحاج سامي وينطلق هو وابنه من أمام صالون الحلاقة الخاص بنجله الآخر يضع طاولته ويرتب جالوناته وينظفها ثم يذهب تجاه محطة تعبئة الماء ليشتريه.
يعود سعيدًا بكازه، وبما يحمله أبناؤه ومن يعاونوهم من ماء، ومن فرط سعادته بعمله ينادي وهو يمشي قبل الوصول إلى حيث تتواجد أشياءه على المارة للارتواء.
بسلاسة ينحدر الماء من الجالون نحو الدلو ذو الصنبور، فيبدأ العزامي بإخراج ليفة وصابون للجلي وينظف كافة المرطبانات التي سيشرب بها الناس لأنه يريد "أن يتمروا بها لا أن يشربوا فقط"؛ كما وصف.
تصف المرطبانات صفًا بجانب بعضها كأنها لآلئ، تمشي فتسمع "صلي على النبي واشرب وارتوي"، فيتهافت الأطفال والنساء وكل المارة على الشرب منه، حتى أن السيارات والعربات التي تجرها الحيوانات تقف ليسقي كل من عليها.
وعلى الرغم من أن العزامي ليس لديه أي مصدر دخل، حتى أنهم يعتمدون على التكيات في طعامهم، إلا أنه يجمع الشواكل البسيطة من أبنائه الذين استطاعوا فتح مشروع صغير مثل الحلاقة أو بيع الحلو في هذه الظروف الصعبة، ويشتري بها ما استطاع من الماء لجعله سبيلًا، ولا يقبل أن يأخذ مالًا من الشاربين.
ابتسامة تخترق القوب
"الله يسقيك من زمزم...يسقيك من الجنة...بميزان حسناتك يحج"، وأدعية كثيرة تجعل من ابتسامته التي تخترق تجاعيد وجهه واضحة للمار من بداية الشارع، فيغسل المرطبانات بحب ونشاط بعدهم ويسأل الله القبول.
وعند غروب الشمس ينتهي هذا العمل اليومي، فيرتب كل شيء ويمضي ينتظر عصر اليوم التالي لسقيا الماء.
لم يؤثر به موقف أكثر من السيدة التي أغشي عليها في الطريق الصيف الماضي، بعد أن مشت لساعات طويلة تحت أشعة الشمس، فحلمها الناس إلى حيث يتواجد وجلست وسقاها الماء وتحسنت، هذا الحدث جعله يستشعر آية "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
يتحسس موقع قلبه ويبتسم معبرًا عن راحة نفسية ومعنويات عالية، يشيح نظره إلى السماء مرددًا "هي لله.. هي لله"، يتأمل أكثر فيتباع حديثه مندهشًا: "يا أخي حتى الناس بتقلي الميه زاكية مش زي اللي بتنباع"، معتقدًا أن السبب يكمن في عمل الخير وبركة الله.
وقبل أن يودعه فريق "فلسطين اليوم" طلب إيصال رسالة لكل من يستطيع أن يعمل هذا العمل ألا يبخل مستندًا إلى قول رسول الله محمد –صلى الله عليه وسلم-: "الخير في أمتي إلى يوم القيامة"، عله يكون سببًا في التخفيف من معاناة النازحين في الخيام، داعيًا الله أن يزيح غمة الحرب عن الفلسطينيين في قطاع غزة.
يذكر أنه في أكتوبر 2023 قد صرح وزير الحرب الإسرائيلي المقال يوآف غالانت، بأنه لن يكون هناك ماء لأهالي قطاع غزة واصفاً أن جيشه يتعامل مع "حيوانات بشرية، في حرب إبادة جماعية واضحة للعالم، تنتهك بموجبها القوانين الدولية.
وكان الاحتلال قد دمر 330000 متر طولي من شبكات المياه فيما دمر 717 بئراً وأخرجه منذ أن شن الاحتلال الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023.