أعلن وزير "القضاء" في حكومة الاحتلال الإسرائيلي ياريف ليفين في الرابع من يناير 2023 عن خطة تقييد القضاء الشاملة لتغيير وجه "السلطة القضائية" في "إسرائيل"، وإعادة تصميمها وفقاً لمفهوم معسكر اليمين المتطرف.
ترمي خطة تقييد القضاء إلى استكمال سيطرة اليمين المتطرف على مراكز صنع القرار والسياسات في "إسرائيل"، وإضعاف جهاز القضاء ومنع الرقابة، وسيطرة الحكومة على تعيين القضاء، خصوصاً في" المحكمة العليا"؛ وضمان سلطة قضائية محافظة لا تتدخل في عملية التشريع ولا تنتقد سياسات الحكومة.
بعد حركة احتجاج واسعة ضد خطة تقييد القضاء الحكومية، ومعارضة وزير الحرب المقال يوآف غالانت الخطة، وتحفظ أعضاء من حزب الليكود عليها، مثل رئيس لجنة الخارجية والأمن يولي إدلشتاين، تراجعت الحكومة بعض الشيء عن السرعة التي أرادت بها تنفيذ الخطة.
وبعد بدء العدوان على غزة في السابع من أكتوبر 2023، ودخول حزب "المعسكر الرسمي" برئاسة بني غانتس للتحالف الحكومي، علقت الحكومة تنفيذ خطة تقييد القضاء وفقاً لاتفاق التحالف الموقع.
خطوات خطة تقييد القضاء
وبعد تراجع حدة المعارك في غزة، وإعلان وقف إطلاق النار في لبنان، وتراجع حركات الاحتجاج داخل المجتمع الإسرائيلي، وانسحاب حزب "المعسكر الرسمي" من الحكومة، ومن ثم إقالة وزير الحرب السابق من دون احتجاجات جدية في المجتمع الإسرائيلي، وجدت حكومة الاحتلال فرصة سانحة للعودة لتطبيق أجزاء من الخطة، ولو بأدوات مختلفة.
ودعا ليفين قبل أسبوعين، بعد إطلاق قنابل مضيئة على منزل نتنياهو في قيسارية، إلى العودة لتعزيز خطة الإصلاح القانوني. وقال: "لقد حان الوقت لتقديم الدعم الكامل لاستعادة النظام القضائي وأنظمة إنفاذ القانون، ووضع حد للفوضى والهياج ومحاولات الإضرار برئيس الوزراء".
تصريحات ليفين قوبلت بدعم واسع من أطراف التحالف الحكومي، التي أوضحت، بأن هناك حاجة للعودة إلى خطة الإصلاح القانوني، وأن التحالف قام باستنتاجات من التجارب السابقة، وهذه المرة سيتم الأمر بشكل مختلف.
من ضمن جهود التحالف من أجل تقييد القضاء بات العمل حالياً على مسارين. المسار الأول، هو السعي لإقالة المستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف ميارا، التي يعتبرونها عقبة أمام التغيير المنشود في السلطة القضائية، ومتهمة بأنها معادية لحكومة نتنياهو، وتعرقل الكثير من سياسات الحكومة.
والمسار الثاني، هو منع تعيين قضاة جدد في "المحكمة العليا" ورفض تعيين رئيس جديد للمحكمة العليا، بعد خروج الرئيسة السابقة إستير حيوت للتقاعد، بهدف فرض تعيين قضاة ينتمون إلى معسكر اليمين المحافظ.
التوتر في العلاقات بين بهاراف ميارا، والحكومة ليس جديداً، إذ ترى فيها الحكومة عقبة أمام تمرير العديد من اقتراحات القوانين والسياسات، أبرزها معارضة المستشارة القضائية خطة تقييد القضاء الحكومية، ومطالبتها بسن قانون لترتيب إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، وتخصيص الميزانيات للمعاهد الدينية، فضلاً عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية حول أحداث السابع من أكتوبر 2023، ورفضها تسييس التعيينات لكبار الموظفين في سلك الدولة، وقضايا أخرى.
وقد رفضت المستشارة عدة مرات في السابق تمثيل الحكومة أمام المحكمة العليا في التماسات قدمت حول قضايا عديدة، بل إنها دعمت أحياناً مواقف مقدمي الالتماس.
في الأسابيع الأخيرة طالب عدد من الوزراء بشكل علني بإقالة المستشارة القضائية، على الرغم أن ذلك ليس عملية بسيطة، ويحتاج إلى ترتيبات وإجراءات قانونية عديدة.
المثال الأبرز على هذه المحاولات، كان إعلان وزير الاتصالات شلومو كرعي، المقرب من نتنياهو، الأسبوع الماضي، أنه حصل على موافقة 13 وزيراً لمبادرة إقالة المستشارة القانونية للحكومة.
ووفقاً لكرعي فإن المبادرة تحظى بتأييد ليفين. محاولات عزل أو إقالة المستشارة انتقلت هذا الأسبوع إلى الكنيست، مع تقديم التحالف اقتراحا للهيئة العامة للكنيست لنقاش طلب عزل المستشارة القانونية للحكومة، الأمر الذي قد يمهد الطريق أمام إقالتها فعلاً، إلا أن المعارضة نجحت في إفشال الاقتراح بعد تغيب عدد من الوزراء وأعضاء التحالف عن الجلسة.
هذه الخطوات جاءت بالتوازي مع شن هجوم لاذع من قبل وزراء وأعضاء كنيست من التحالف على المستشارة القانونية واتهامها بعرقلة عمل الحكومة، بل بأنها تسعى إلى إسقاط حكومة اليمين.
على سبيل المثال وصف رئيس "لجنة الأمن القومي" في الكنيست تسفيكا فوغل، من حزب القوة اليهودية بزعامة وزير "الأمن القومي" المتطرف إيتمار بن غفير، المستشارة القانونية بـ "الخائنة" لـ (إسرائيل) مطالباً بإقالتها. كذلك عقد بن غفير، مؤتمراً صحافياً منذ أيام، عقب التحقيق مع ضابط كبير في مصلحة السجون وضابط شرطة في لواء "يهودا والسامرة" (التسمية الإسرائيلية للضفة الغربية المحتلة)، بتهم فساد ونقل معلومات سرية مقابل تعيينات وترقية.
واتهم بن غفير المستشارة القانونية بمحاولة "تلفيق" قضية له، على ما يبدو رغبة منها في الإطاحة به وبالحكومة بأكملها، وفقاً له، مطالباً بالتصويت في اجتماع مجلس الوزراء المقبل على اقتراح لإقالتها.
وزير القضاء ياريف ليفين قال خلال النقاش في الكنيست حول إمكانية إقالة المستشارة القانونية إن "نظام الاستشارة القانونية للحكومة لا يعمل حالياً بفعالية بغية مساعدة الحكومة، بل من أجل إفشالها والتأكد أنها لن تكون قادرة على تعزيز وتنفيذ سياستها".
من الواضح أن محاولات التحالف الحكومي إقالة المستشارة القانونية للحكومة ستستمر في المستقبل القريب، خصوصاً على ضوء التقدم في جلسات محاكمة نتنياهو بتهم الفساد وشهادته المرتقبة، الثلاثاء المقبل، مع خشية رئيس الحكومة وطاقمه من أن تقدم المستشارة القانونية للحكومة على محاولة الإعلان عن تعذر قيام نتنياهو بمهامه رئيساً للوزراء، بسبب المحكمة.
بالتوازي، يعمل ليفين على تعطيل تعيين قضاة جدد في المحكمة العليا ومنع تعيين رئيس جديد للمحكمة. منذ يناير/كانون الثاني 2023، يرفض ليفين عقد اجتماعات للجنة اختيار القضاة، على أساس أنه مهتم بإصلاح تركيبة هذه اللجنة. الأمر الذي من شأنه أن يضمن زيادة عدد السياسيين في اللجنة على حساب عدد القضاة. الأمر الذي أدى إلى تقديم التماس إلى "المحكمة العليا" لإرغام ليفين على عقد اجتماع للجنة تعيين القضاة.
وعلى أثر هذا الالتماس وافق ليفين على عقد اللجنة، لكنه اشترط أن تكون التعيينات بـ"إجماع واسع النطاق" داخل اللجنة، بدلاً من الأغلبية العادية بخمسة داعمين من أصل تسعة. وفعلاً تم تعيين عشرات القضاة في المحاكم المختلفة، ما عدا قضاة في المحكمة العليا.
حالياً، لا يوجد توافق داخل اللجنة على اختيار بدائل لثلاثة قضاة "ليبيراليين" في "المحكمة العليا" الذين تقاعدوا العام الماضي، وقاض آخر سيتقاعد في الأشهر المقبلة.
الهدف المعلن لوزير القضاء هو تعزيز الاتجاه المحافظ في المحكمة العليا، عبر تعيين قضاة معدودين على التيار اليميني المحافظ، بدلا من إلغاء قانون "حجة المعقولية".
بذلك يلتف ليفين على فشل الحكومة بسن قوانين الخطة الحكومية من أجل تقييد القضاء في المرحلة المقبلة. ليفين يستغل السلطة الممنوحة له بوصفه وزيرا للقضاء إلى أقصى حدودها، بهدف تنفيذ سياساته وتحقيق أهدافه بتغيير طبيعة وهوية المحكمة، وفرض هيمنة اليمين على كافة مؤسسات صناعة القرار في إسرائيل.
هذه الحاجة باتت أكثر إلحاحاً بعد إخفاق السابع من أكتوبر 2023 والدعوات لتعيين لجنة تحقيق رسمية، ذات صلاحية لمساءلة ومحاسبة كافة صناع القرار، لأن تعيين رئيس وأعضاء لجنة التحقيق هو من صلاحيات رئيس "المحكمة العليا"، كما يرأس اللجنة قاض من المحكمة العليا.
محاولات الحكومة قمع الرقابة والمساءلة والمحاسبة، وحرية الانتقاد والتعبير عن الرأي لا تقتصر على مساعيها في قمع المستشارة القانونية للحكومة والتهديد باستبدالها، والالتفاف على القانون، أو محاولة السيطرة على المحكمة العليا عبر التعيينات، بل تسعى الحكومة أيضاً إلى قمع وسائل الإعلام.
فقد بادر وزير الاتصالات شلومو كرعي إلى اقتراح قانون لإغلاق هيئة البث الرسمية، المعروفة بالقناة 11، وتوجيه تهديدات عبر ذلك لكافة وسائل الإعلام الأخرى.
كذلك قررت الحكومة وقف نشر الإعلانات الحكومية الرسمية مدفوعة الأجر في صحيفة هآرتس، بحجة أن الصحيفة تتبنى روايات "العدو" وتنشر أكاذيب وأضاليل حول ما يقوم به جيش الاحتلال في غزة، مما أدى الى خسارة ملايين الشواكل للصحيفة.
من المتوقع أن تستمر هذه الحالة أيضاً بعد انتهاء الحرب على غزة، بل ربما تتوسع. فما دام نتنياهو يعمل على منع إقامة لجنة تحقيق رسمية حول أحداث السابع من أكتوبر 2023، والتهرب من محاكمته الشخصية بتهم الفساد، وفرض خطة تقييد القضاء يمكن التكهن أن التصدعات السياسية داخل "المجتمع الإسرائيلي"، وعدم الاستقرار السياسي سيرافقان المشهد السياسي في الأشهر المقبلة أيضاً، وربما عودة حركات الاحتجاج بقوة أكبر حول القضايا الداخلية.